يعتبر الرئيس الأميركي جو بايدن أن إعادة الدينامية إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) من إنجازات ولايته الرئاسية. وقبل وصوله إلى البيت الأبيض، كانت مؤسسات الحلف في أسوأ وضع واجهته منذ تأسيس المنظمة، التي ستحتفل بالعيد الخامس والسبعين لتأسيسها في يوليو/ تموز المقبل.
ويعود السبب في حالة الانهيار المعنوي والمادي الذي كان يعاني منه الحلف، إلى موقف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والذي قدم مرافعة خلص منها إلى أن الاستثمار الأميركي في الحلف خاسر.
ويتهم ترامب الشركاء الأوروبيين بأنهم مقصرون حيال تقاسم أعباء الحلف، مادياً وعسكرياً، بينما تتحمل الولايات المتحدة تكاليف حمايتهم. وصرح في عدة مناسبات بأن "الناتو" مثال لكل ما يمقته من حلفاء واشنطن، مستفيداً من قوة أميركا من دون تقديم أي شيء في المقابل.
استخدمت أميركا "الناتو" في حروب خارج نطاق مهمته التي قام من أجلها
وكان ترامب وصل، في العام 2018، إلى حد المطالبة بحل الحلف، وبدأ في حينه خطوات من أجل تقليص الوجود العسكري الأميركي في أوروبا. وقال، وقتها، إنه إذا كانت أوروبا تريد من الولايات المتحدة أن تحميها، فعليها أن تدفع مقابل ذلك.
السماح لروسيا بفعل ما تشاء بعضو في حلف شمال الأطلسي
واللافت أنه عاد إلى تكرار هذه النغمة مجدداً. ودب الرعب في قلوب الأوروبيين من خلال خطاب انتخابي ألقاه في 10 فبراير/ شباط الحالي، قائلاً إنه سيسمح لروسيا بأن تفعل "ما تشاء" بأي عضو في حلف شمال الأطلسي لا يلتزم بالمبادئ التوجيهية للإنفاق. وتطرق إلى حديث مع حليف "كبير" في الحلف، لم يكشف من هو أو متى جرت المحادثة، والذي، وفقاً لروايته، رفض إنفاق ما يعادل 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لبلاده المُوصى به على الدفاع، لكنه مع ذلك أراد ضمانات من الولايات المتحدة بأنها سوف تحمي بلاده، إذا هاجمتها روسيا. وقال ترامب، إنه لن يقدم مثل هذا التأكيد، لأن الحليف كان "مذنباً"، وينبغي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يشعر بالحرية في تنفيذ ما يريده.
على الصعيد المالي لا تشكل مساهمة الولايات المتحدة في الناتو القدر الذي طرحه ترامب، فهي لا تتجاوز نسبة 16 في المائة، تماثلها ألمانيا بنفس القدر، وتأتي مساهمة بريطانيا 11 في المائة، وفرنسا 10 في المائة، لتكمل ما يتجاوز نصف الموازنة العامة للحلف، التي بلغت في العام في الماضي 2.1 مليار دولار.
المساهمة المالية لوحدها لا تلخص التزامات أي دولة تجاه الحلف، وخاصة الولايات المتحدة. ولم تعد المساهمة الأميركية الأساسية في أمن أوروبا تقاس بعدد الجنود الموجودين في القارة والمعدات الثقيلة، كما كان الحال خلال الحرب الباردة. وهي تشمل الآن المساعدة في مجالات الاستخبارات والاستطلاع والمراقبة، والجسر الجوي الاستراتيجي، والتزود بالوقود جواً، والدفاع الجوي. ومع ذلك، وعلى الرغم من إطلاق برامج أوروبية لتلبية هذه الاحتياجات، لا يزال الأوروبيون، حتى الآن، بعيدين عن مرحلة الاعتماد على أنفسهم كلياً.
من الناحية العملية، عززت أوجه القصور هذه اعتماد أوروبا على واشنطن، حتى في المهام والعمليات العسكرية الأساسية، التي ينبغي للأوروبيين أن يتطلعوا إلى تنفيذها بشكل مستقل.
وتقدم الولايات المتحدة أيضاً ميزتين أخريين للأوروبيين. أولاً، المظلة النووية. وحتى لو تم مؤخراً إطلاق المناقشة حول توسيع الردع النووي الفرنسي ليشمل القارة بأكملها، فإن باريس لن تمتلك القدرة على الحلول محل واشنطن، وتجهيز طائرات الحلفاء بالقنابل الفرنسية.
حلف شمال الأطلسي ليس قائماً على المستحقات المالية، بل المبدأ الأساسي الذي قام عليه تشكيله هو مواجهة التهديد السوفييتي، استناداً إلى مبدأ الدفاع الجماعي، الذي يعتبر أن الهجوم على أحد الأطراف هجوم على الجميع، وهو المبدأ المنصوص عليه في المادة الخامسة من المعاهدة التأسيسية للحلف.
أميركا أكثر من استفاد من "الناتو"
وأكثر من استفاد من "الناتو" الولايات المتحدة، وحتى أنها استخدمته في حروب خارج نطاق مهمته التي قام من أجلها. ومن أجل الرد على هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، تحركت واشنطن على أساس المادة الخامسة من الميثاق، وخاضت حرباً في أفغانستان دامت قرابة عقدين.
وعلى الصعيد الدولي يعد حلف شمال الأطلسي أحد مصادر قوة الولايات المتحدة، باعتبارها القوة العظمى الوحيدة، التي تلوح به في الأزمات الدولية الكبرى، وما كان لها أن تدعم أوكرانيا على النحو الذي حصل لولا وجود "الناتو" كمظلة. وبعيداً عن هذا التحالف الضخم، وقوته الدبلوماسية والاقتصادية، تبدو الولايات المتحدة وحيدة تماماً على المسرح العالمي.
وتأتي تعليقات ترامب في توقيت سيئ للغاية بالنسبة لأوروبا، خاصة في ما يتعلق بالحرب الروسية على أوكرانيا، فهي تزعزع جبهة التضامن الأوروبية ضد موسكو، وخاصة أن القمة الأوروبية أخيراً قررت تقديم مساعدات مالية ضخمة لكييف، مجدولة على عدة سنوات.
شبه إجماع في الأوساط الأوروبية على أن أوروبا لا تستطيع ضمان الدفاع عن نفسها في حالة انسحاب أميركا من "الناتو"
وتفتح تعليقات ترامب الباب من أجل التشكيك بالدعم الأوروبي لأوكرانيا، والتملص منه مثل المجر، التي تشكل مع القوى الشعبوية وأحزاب اليمين المتطرف قوة تشكيك بالحلف ودوره الأوروبي. كما تضع الأوكرانيين في حالة خوف وقلق على المستقبل، من أن تتعرض الخطط العسكرية بعيدة المدى للإلغاء في حال فوز ترامب بالرئاسة.
وتصب تصريحات ترامب في إطار رواية مفادها أن الولايات المتحدة تتعرض للاستغلال من قبل أوروبا، وهذا يغذي من النزعة التي يتبناها اليمين المتطرف على ضفتي الأطلسي، والذي يروج أطروحات انفصالية، تدعو إلى الاعتماد على القوة الذاتية لكل طرف. هذا الخطاب يساعد ترامب على كسب أصوات معسكر اليمين المتطرف، خصوصاً داخل الحزب الجمهوري، لكنه لا يجعل من الولايات المتحدة أقوى مما هي عليه، بل على العكس، ومثال ذلك خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
بوتين المستفيد من تصريحات ترامب
في نهاية المطاف بوتين هو الذي يستفيد من تصريحات ترامب، ويعيد للأذهان شبهة العلاقة، والشكوك والاتهامات حول الصلة بينه وبين الرئيس الروسي، الذي لاحقته تهمة التدخل السيبراني بالانتخابات الرئاسية عام 2016، لمصلحة ترامب، واحتمال تدخله لمساعدته مجدداً.
هذا الأمر يخلق أجواء من الشك حول الانتخابات الأميركية القادمة، ويضع جانباً من الحملة الانتخابية في جو نظرية المؤامرة، وهذا في حد ذاته مبرر للتشكيك بالديمقراطية الأميركية، وإتاحة المجال أمام الشعبوية للانتعاش من جديد، بعد أن تعرضت إلى هزة كبيرة بعد فشل ترامب بالحصول على ولاية رئاسية ثانية، أمام منافسه بايدن في انتخابات العام 2020.
وأثارت تصريحات ترامب صدمة في أوروبا، ولم يصدر سوى بيان من وزارة الخارجية الألمانية، يرد عليها بعبارة "الواحد للكل والجميع للواحد"، بينما انتقد رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل التصريحات، ووصفها بـ"المتهورة".
ونقلت صحيفة "لوموند" الفرنسية عن سفير أوروبي في حلف شمال الأطلسي قوله، أخيراً: "سيكون ذلك ببساطة نهاية الأطلسي". وهناك شبه إجماع في الأوساط الأوروبية على أن أوروبا لا تستطيع ضمان الدفاع عن نفسها في حالة انسحاب الولايات المتحدة من "الناتو"، وذلك عائد لعدة أسباب، بينها عدم وجود قوة دفاع أوروبية كافية قادرة على خوض مواجهة مع خطر خارجي، إذ يقتصر الدفاع الأوروبي على بضعة آلاف من الجنود، غالبيتهم من فرنسا وألمانيا، يتبعون لقيادة مشتركة، ولكن هذه القوة غير متجانسة من حيث أنظمة القتال، ومختلفة على صعيد التسليح.
كما لا يوجد توافق بين دول الاتحاد الأوروبي على رؤية الأخطار والتهديدات الخارجية. ولولا دخول حلف شمال الأطلسي على خط الحرب الروسية على أوكرانيا، لما كان للأوروبيين ذات الوقفة، ومن المؤكد أن بعضهم كان سيسير إلى جانب روسيا. وإذا وصل ترامب إلى البيت الأبيض، وقرر تنفيذ تهديداته تجاه "الناتو"، ستكون هناك عدة سيناريوهات حيال الحرب الروسية على أوكرانيا، الواضح منها أولاً هو أن يتغير ميزان القوى لصالح روسيا، وتمكن موسكو من شن هجمات واسعة لتنفيذ مخططها في أوكرانيا، وتحقيق النصر في نهاية المطاف.
وفي هذه الحالة لن يبقى أمام روسيا خطوط حمراء. وطالما أن حلف شمال الأطلسي ليس على استعداد لخوض حرب مع موسكو، فإن هذا سوف يشجع بوتين على تكرار سيناريو جورجيا في أكثر من دولة في البلطيق، بشأن الأجزاء الناطقة بالروسية، مثل إستونيا، أو جزيرة سفالبارد النرويجية الصغيرة التي يسكنها روس جزئياً. وهناك مخاوف فعلية من أن تفجر روسيا الوضع في البلطيق، من دون إرسال قوات لاحتلالها.
والسيناريو الثاني هو أن تتمكن أوكرانيا من الصمود، ما من شأنه أن يطيل أمد الحرب، ويكلف الطرفين خسائر كبيرة، مادية وبشرية، كما سينعكس على نحو سلبي على أوروبا، التي ستتحمل لوحدها عبء دعم أوكرانيا إنسانياً، خاصة بولندا وألمانيا، بوصفهما تستقبلان أكثر من 5 ملايين لاجئ أوكراني.