أفرزت نتائج الانتخابات التشريعية في العراق التي أُجريت في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول العام الماضي، وجود قوى سياسية مدنية وأخرى مستقلة، برزت الحاجة إليها أكثر مع الانسداد الحاصل في تسمية رئيس الجمهورية، والمرتبط بتحقيق النصاب الضروري لعقد جلسة التصويت في البرلمان.
ويقف المدنيون والمستقلون اليوم في البرلمان العراقي، أمام حالة تجاذبات واسعة فرضتها حالة الانقسام السياسي بين "التيار الصدري" الذي أسّس لاحقاً تحالف "إنقاذ وطن" العابر للهويات مع تحالفي "السيادة"، بزعامة خميس الخنجر، و"الحزب الديموقراطي الكردستاني" بزعامة مسعود البارزاني، رافعين شعار حكومة الأغلبية الوطنية. يقابله بذلك تحالف "الإطار التنسيقي"، الذي يضم قوى وكتلاً سياسية حليفة لإيران، أبرزها "دولة القانون"، بزعامة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، و"الفتح"، الذي يقدم نفسه ممثلاً سياسياً عن "الحشد الشعبي"، ويتزعمه هادي العامري.
وسعت جبهتا الصراع السياسي حالياً، "إنقاذ وطن" وقوى "الإطار التنسيقي"، لاستقطاب أكبر عدد من النواب المستقلين والمدنيين خلال الأسابيع الماضية من أجل ضمان عقد جلسة البرلمان أو إفشالها، وهو ما ولّد تبايناً في مواقف النواب والكتل المستقلة من هذا الحراك بين من شارك في الجلسة ومن قاطعها.
مواجهة ضغوط الأحزاب وضعف الخبرة
ويمثل انقسام المستقلين حالة من الفوضى وفق ناشطين ومراقبين للوضع السياسي، ولا سيما بعد أن برزوا كحالة إيجابية ومهمة في العملية السياسية اعتبرت أنها غير مسبوقة، لكنها تعاني في الوقت نفسه من مواجهة نفوذ وضغوط الأحزاب وضعف الخبرة بالمناورة السياسية، إضافة إلى ابتزاز سياسي وتهديدٍ أمني على حياتهم وأسرهم. وتؤدي هذه الأسباب إلى عدم توصلهم إلى اتفاق موحد بشأن التوجه مع أي الجبهتين المتنفذتين حالياً، أو صناعة جبهة ثالثة تأخذ على عاتقها تصحيح الأوضاع.
وبرز المدنيون والمستقلون كإحدى أهم نتائج التظاهرات الشعبية التي اجتاحت مدن جنوب العراق ووسطه والعاصمة بغداد، والتي استمرت لأكثر من 14 شهراً، وأسس ناشطون مدنيون حركات وقوى سياسية قائمة على فكرة "الإزاحة التدريجية" للقوى السياسية الحالية التي يحمّلها الشارع مسؤولية الإخفاق الحاصل في العراق على مختلف المستويات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية.
ومن مجموع 329 نائباً في البرلمان الجديد، حصل المدنيون والمستقلون على 48 مقعداً، رغم قرارات مقاطعة الانتخابات من قبل قوى مدنية مختلفة إلى جانب "الحزب الشيوعي العراقي"، وهو القرار الذي ثبت عدم صحته لاحقاً، نقلاً عن مسؤولين وأعضاء في القوى المقاطعة اعتبرت أن الانتخابات الحالية كادت أن تؤسس لمعسكر مدني فاعل داخل البرلمان لو جرت المشاركة بشكل واسع.
وأجّلت رئاسة البرلمان العراقي جلسة اختيار الرئيس الجديد للبلاد إلى غد الأربعاء، بعد أن فشل تحالف "إنقاذ وطن"، بالتحشيد لتحقيق نصابها، والذي يجب أن يكون ثلثي عدد النواب، أي 220 نائباً من أصل 329 وفقاً لقرار المحكمة الاتحادية العليا. وقاطع الجلسة "الإطار التنسيقي"، الذي يضم القوى الحليفة لإيران، إضافة إلى "الاتحاد الوطني الكردستاني" وتحالف "عزم" ونواب آخرين.
رقم لملء الفراغ في النصاب البرلماني
وفي اليومين الماضيين، برّر بعض النواب المستقلين مقاطعتهم لجلسة البرلمان السبت بأنهم لا يقبلون على أنفسهم أن يكونوا عبارة عن رقم لملء الفراغ في النصاب البرلماني، فيما أكد آخرون أن مشاركتهم تأتي لكون مشروع "التيار الصري" أقرب للتوجهات الوطنية، ومحاولة لكسر لعبة الاصطفاف الطائفي بالعملية السياسية بتشكيل تحالف عابر للهويات.
ولم يخف عضو حركة "امتداد" المدنية، أبو الحسن حازم، الاتفاق بين تحالف "من أجل الشعب" الذي يجمع حركتي "امتداد" و"حراك الجيل الجديد"، مع "التيار الصدري"، مبيناً لـ"العربي الجديد"، أن "امتداد لم تشرخ صف النواب المدنيين والمستقلين في البرلمان العراقي، بل أكدت في مبادرات كثيرة ضرورة أن يكون هناك صوت موحد للمدنيين"، مستدركاً بالقول: "هناك من يرى أن الانغلاق وعدم فتح مجالات الحوار مع الكتل السياسية المعروفة أمر مرفوض، ونحن في امتداد لا نمانع الحوار مع أحد".
وأشار إلى أن "حضور نواب حركة امتداد إلى جلسة انتخاب رئيس الجمهورية السبت الماضي، كان بعد أن وقّع قادة تحالف (من أجل الشعب) مع التيار الصدري، ورقة شروط، المطلوب من الحكومة المقبلة تحقيقها، بضمنها ملف التحقيق في حوادث قتل وخطف المتظاهرين، وحقوق الإنسان وضمان الحريات والنازحين، وغيرها".
واعتبر حازم أن "الانقسام في وجهات النظر لدى النواب المستقلين، يعود، للأسف، إلى التمسك بالقناعات الشخصية، لا المرونة في التعامل مع المعطيات السياسية، بهدف الوصول إلى نتائج تخدم الجميع، وتخدم ما خرج لأجله المتظاهرون في تشرين"، في إشارة منه إلى التظاهرات العراقية التي اندلعت في 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2019.
من جهته رفض النائب العراقي المستقل، باسم خشان، الاتهامات التي تعرّض لها بأنه يميل إلى قوى "الإطار التنسيقي"، خصوصاً أنه لم يحضر الجلسة السابقة لمجلس النواب، مثلما لم يحضرها أغلب الأطراف العراقية الموالية لإيران.
وقال خشان في اتصالٍ مع "العربي الجديد"، إنه "ليس من المنطقي أنني حين أقاطع جلسة معينة في البرلمان، يعني أنني أميل إلى جهة، لكن قاطعتها لأنني على قناعة بأن من مصلحة العراق ألا تمرّ الجلسة وفق ما يريده التيار الصدري"، وفقاً لتعبيره.
ولفت إلى أن "انقسام النواب المستقلين والمدنيين، ليس عيباً أو سبّة في العمل السياسي"، مؤكداً أن "هناك من النواب من يدّعون أنهم مستقلون، لكنهم في الحقيقة يتبعون جهات سياسية متنفذة، وهم كما يقول المثل العراقي (يلعبون على الحبلين)، مرة من الحزب الداعم لهم، ومرة مع الحراك المدني المستقل".
حالة مستعصية
أما محيي الأنصاري، رئيس حراك "البيت العراقي"، وهو تشكيل سياسي مدني انبثق من تظاهرات تشرين الأول 2019، فقال لـ"العربي الجديد"، إنهم يرون في "إحداث تغيير شامل وجذري حالة مستعصية بالوضع العراقي، وكل المحاولات التي تذهب باتجاه المشاركة في الحكومة أو مقاطعتها، حالات صحية تدل على حرص ووعي الجيل السياسي الجديد في محاولاته لإحداث فارق".
وتابع قائلاً: "نعتقد أنه يجب ألا نقف كحركات وأحزاب ناشئة بالضد منها فقط لكوننا لا نتبنى ذات الإيديولوجية الفكرية للتغيير"، مضيفاً: "أعتقد أنّ من الصعب ضبط إيقاع عشرات النواب الذين ينتمون إلى مشارب مختلفة، ولا سيما أن عدداً ليس بالقليل منهم غير منضوٍ تحت حزب أو حراك أو تجمّع واحد، وهذا ما يعقد الأمر بشكل أو بآخر".
وأوضح الأنصاري أن "الثابت أن تحالف من أجل الشعب الذي يضم "الجيل الجديد" و"امتداد" سيحضر جلسة غد الأربعاء، ونحن داعمون لفكرة أن النائب إنما انتُخب ليمثل جمهوره في مجلس النواب، لا ليقاطع الجلسات وفق عرف سياسي أفسد القيم الديمقراطية وشوهها".
لكن الباحث والمحلل السياسي العراقي، كتاب الميزان، أكد "وجود نواب اختاروا الميل إلى موقف تحالف الإطار التنسيقي، ووجود نواب مستقلين آخرين يتفقون مع رؤى التيار الصدري، لكنهم لا يعلنون ذلك، مع وجود نواب لا يميلون إلى أي طرف، وبالتالي إن العدد الكلي للمستقلين لا يمثل شكلاً واحداً، وبذلك من غير المنطقي أن يتفقوا على انسجام موحد فيما بينهم".
وأكمل في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن "مقاطعة عدد من النواب المستقلين للجلسة البرلمانية الأخيرة حسبت على أنها للإطار التنسيقي، لكنهم في الحقيقة أقرب إلى التحالف الثلاثي بقيادة التيار الصدري".