يروي الشاب السوري حذيفة فتحي، الذي اعتقله تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) مع الرهينة الأميركي بيتر كاسيغ في سورية، لـ "العربي الجديد" تفاصيل لقائه مع كاسيغ خلال الاعتقال حتى لحظة افتراقهما، مع بقاء كاسيغ، الذي قيل إنه اعتنق الإسلام واتخذ "عبد الرحمن" اسماً له، محتجزاً لدى التنظيم الذي هدد بذبحه. وفي ما يأتي شهادة فتحي:
لحظة صادمة، أعادت لذاكرتي تفاصيل مؤلمة، حاولت مراراً نسيانها، لكن اللون البرتقالي طغى على جميع الألوان، وأصبح يقتل من يرتديه.
بيتر، الشاب الأميركي الذي لم أعرفه سوى في سيّارة الإسعاف، أثناء رحلة الرّعب من مدينة الرقة "المحرّرة" إلى أحياء دير الزور المدمّرة، تبادلت معه كلمات قليلة، بلغة إنجليزية. بدا حينها واثقاً بنصر الثورة السورية، عازماً على تقديم ما يستطيع تقديمه للمناطق المنكوبة.
مَن يسأل عن بيتر، يأتيه الردّ ممّن عرفه جيّداً، فهو الذي خاطر بحياته لإدخال المساعدات الطبيّة إلى دير الزور، في الوقت الذي كانت فيه قوات النظام تحاصر المدينة من جهاتها الأربع، وهو مَن أسعف المصابين والجرحى من فصائل الجيش الحر والكتائب الإسلامية إلى المستشفيات الميدانية، أثناء عملية تحرير حيّ الحويقة في 10 أغسطس/آب 2013، وهو الذي قدّم دورات تدريبية في الإسعاف الأولي لعشرات الأشخاص.
قبل أن تغيب شمس يوم الثلاثاء 1 أكتوبر/تشرين الأول 2013، دخل "عبد الرحمن" في نفقٍ مظلمٍ، قد تكون نهايته بانفصال رأسه عن جسده الذي يرتدي البزة البرتقالية.
تاريخٌ لا يُنسى لمن كان بداخل سيارة الإسعاف القديمة تلك. مئات الكيلومترات يقطعها شابٌّ أميركي في منتصف عقده الثاني، تبدأ بالحدود التركية إلى مدينة الرقة مروراً بحلب، وصولاً إلى دير الزور، من أجل إحضار بعض الأدوية التي قد تنقذ حياة أحد المصابين، في مدينة تخلّى عنها أطباؤها.
في 1 أكتوبر/تشرين الأول 2013، بدأت معاناة بيتر كاسيغ، المُهدّد بالذبح في هذه الأيام، من قِبل نفس الخاطفين قبل عام.
مرّت السيارة بركّابها السبعة عصر ذلك اليوم، على عدد من الحواجز بشكل طبيعي، لحظات الصّمت سادت الأجواء، والجميع يراقب غروب شمس يوم آخر من أيام الثورة. في منطقة الكرامة التي تبعد نحو 35 كيلومتراً شرق مدينة الرقة، أوقفنا حاجز تابع لتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" آنذاك، قبل أن يختصر اسمه إلى "الدولة الإسلامية"، وقام عناصر الحاجز بأخذ الهويّات، واكتشفوا بعد فتح أبواب السيارة الخلفية وجود بيتر، الذي دخل إلى دير الزور مرات عدّة في الأشهر السابقة، من دون أن يتعرّض لمضايقات من أيّ فصيل مسلّح.
أظهر المُسعف الخائف وقتها أوراقه التي توثّق عمله الطبّي والإغاثي، إلا أنّ العناصر الملثّمة أبقت الهويات لديها، وأصرّت على الرجوع إلى مقر التنظيم في المنطقة ذاتها، للبتّ في أمر "الصليبيّ الكافر".
على الطريق، وقبل الوصول للمقرّ، سيطر الخوف والترقّب على الجميع، لا أحد منّا يعرف ما الذي يجري، وما سيحدث، بمجرّد الوصول الى ذلك البناء الأسود. استقبلنا بعض عناصر التنظيم، ونظراتهم تتّجه نحو "عبد الرحمن"، وبعد أسئلة كثيرة، وإجابات قصيرة، أمر "أميرهم" بتفتيشنا ومصادرة جوالاتنا وكلّ ما نملك وإرسالنا إلى غرفة في الطابق العلوي. تبيّن لنا بعد لحظات أنها سجن، مرّ عليه العشرات وربّما المئات من قبلنا، وكتابات جدرانه تشهد على الظُلم والظلام الذي حلّ على السوريين، وسط تكرار مقولات: "مَن هؤلاء؟ من أين أتوا؟ هل هذه الثورة التي خرجنا بها؟".
بمجرّد إغلاق باب السجن خلفنا، تبادلنا نظرات الاستغراب، ولم تُفلح المحاولات في معرفة ما الذي ينتظرنا، إلى حين قدوم أحد السجّانين المنتسب للتنظيم من ريف الرقة، استمع باهتمام إلى تفاصيل ما جرى، نظر كثيراً في الأرجاء وبعد التأكّد من عدم وجود أيّ عنصر للتنظيم في الجوار، اقترب منّا وقرّر الاعتراف: "بايعتُ التنظيم منذ شهرين، وخلال هذه الفترة، لم يُسجن في هذه الزنازين سوى مدنيين، أمضوا فترات متفاوتة، ودخلوا وخرجوا وتعذّب البعض منهم، من دون إثبات أيّ تهمة عليهم، لن تخرجوا من هنا قبل أسبوع في أحسن الأحوال، لم أعد أحتمل أصوات تعذيب المسلمين باسم الإسلام، سأختفي عن الأنظار قريباً، وألتحق بصفوف حركة أحرار الشام الإسلامية". ولم نره في اليوم التالي.
لم يستطع صديقي الذي رفع السّلاح في وجه النظام أن يحتمل فكرة الاعتقال لدى "داعش"، فبدأ بطرق الباب والصراخ على عناصر التنظيم الذين لم يكترثوا لحياة أو لموت أحد المسجونين، فالجميع بنظرهم مُذنب، وهم فقط على صواب، بينما اكتفى بيتر بنظراتٍ تراقب الوضع، وكلماتٍ خائفة تحاول تهدئة الموقف.
صباح اليوم التالي، كان آخر لقاء لنا مع بيتر، وتمّ عزله في غرفة أخرى، وسمعنا بعد ساعات، أصوات تعذيبه الصادرة من الطابق الأرضي، وأحد المحقّقين يقول له بالإنجليزية: "Say it"، ويقصد بها "اعترف أنك جاسوس".
في المساء، تمّ إخراجنا وتعصيب عيوننا وتقييد أيدينا إلى الخلف. هي اللحظات الأخيرة في حياتي، ببساطة فكّرت في ذلك، والخوف يتملّكني مع سماع صوت تلقيم "الكلاشنكوف" لكنني لم أُخفِ انزعاجي أمام عنصر تنظيم "الدولة" الذي يحتجز حريّتي. وبدأتُ، من دون أن يفهم قصدي، بمقارنة ما يجري معي بتصرّفات عناصر الأمن، أثناء فترة الاعتقال في فرع فلسطين في دمشق في بدايات الثورة، لكن سرعان ما استرعى انتباهه "فرع فلسطين"، وبدأ بسؤالي عن الأشخاص الذين التقيتُ بهم في ذلك الفرع سيئ الصيت، وعدّد لي بعض الأسماء من "الإخوة"، أحسستُ بعدها بالشرخ الهائل بين أهداف هذا التنظيم (الأسود)، وهموم المواطن السوري البسيط.
نُقلنا في ذلك المساء، من مقرّ "الكرامة"، إلى قصر المحافظة في مدينة الرقة، معقل التنظيم، نزلنا من سيارات الدفع الرباعي الحديثة، وتوزّعنا على المهاجع في قبو ذلك البناء الجميل.
نظرات الاستغراب والحسرة توجّهت نحوي من قبل 30 سجيناً في المهجع الذي دخلتُ إليه، أغلب هؤلاء السجناء، لا يعرفون التّهم الموجهة إليهم، أو الأحكام الصادرة بحقّهم، أمّا الشيخ صالح ذو السبعين عاماً، فهو أحد عناصر الجيش الحر الذي شارك في تحرير مدينة الرقة. كان قد مضى على وجوده في السجن أربعة أشهر، بتهمة التكتّم على سرقة قطع أثرية بقيمة 30 مليون ليرة سورية من متحف الرقة الذي يحرسه، واشترط التنظيم عليه تسديد المبلغ لإخراجه. واحتوت المهاجع أيضاً، على عناصر من فصائل الجيش الحر و"جبهة النصرة"، قبل اندلاع الاقتتال بينها وبين التنظيم.
ولم يكن وضع الطعام بأفضل حال، إذ كان يتمّ توزيع وجبة واحدة في اليوم، وفي بعض الأحيان وجبتين، قد لا تكفي الأعداد المتزايدة في المهاجع، يرافقها أصوات التعذيب المسموعة بوضوح، باستخدام العصي الكهربائية والأكبال والجَلِد.
خمسة أيام في مبنى المحافظة، تعرّفت خلالها على عالَمٍ غريب، كنّا نراه فقط على شاشات التلفاز، وربّما فقط في الخيال، حفظتُ خلالها صوت السجّان السعودي "أبو خطاب"، وسمعته بعد أيام عدّة، أمام مطعم "الحاضري" في حيّ "الثكنة"، وهو يقوم بأخذ وجبات "الشاورما العربي" لرفاقه في التنظيم.
خرجتُ ومن معي نتأمّل شوارع مدينة الرقة، والحال الذي وصلنا إليه، وبقي بيتر وحيداً، ينتظر لحظة ذبحه وهو يرتدي البزة البرتقالية.