تتصدر طبيعة تعامل الإدارة الأميركية الجديدة، بقيادة الرئيس جو بايدن، مع العراق، أغلب الحوارات السياسية الدائرة اليوم في بغداد، ويبرز الجدل بين معسكر متفائل بما يعتبرها عقلانية بايدن مقارنة بسلفه دونالد ترامب، ومعسكر آخر يرى أن الرئيس الأميركي الديمقراطي، لن يبدل كثيراً في طريقة تعامل واشنطن مع الملف العراقي. ويستند المعسكر الثاني، في رأيه، إلى أن الطرف المُقابل في العراق، أي القوى السياسية والفصائل المسلحة الحليفة لإيران، لم يترك مجالاً واسعاً للمناورة خلال الفترة الماضية، والتي شهدت خصوصاً قتل وإصابة أميركيين بقصفٍ بصواريخ "الكاتيوشا"، واستهداف السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء ببغداد مرّات عدة، عدا عن واقعة اقتحام حرمها، واستمرار تهديدات هذه الفصائل للجنود الأميركيين المتواجدين في البلاد. وكان الرئيس الأميركي السابق قد استخدم صيغة تعامل غير معهودة مع عراق ما بعد العام 2003 (ما بعد الغزو الأميركي)، ظلّت طوال ولايته محكومة بالملف الإيراني على وجه التحديد.
فريق متمرس في الشأن العراقي
وعلى عكس إدارة ترامب، فإن بايدن وعدداً من أعضاء فريقه الجديد، كانوا تعاملوا عن قرب، خلال السنوات التي سبقت، وتلك التي أعقبت احتلال العراق في 2003، مع ملف هذا البلد، وبعضهم لسنوات عدة. ويأتي في طليعة هؤلاء، وزير الدفاع الجديد لويد أوستن، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن ومستشارته لشؤون الشرق الأوسط باربرا ليف، وكذلك بريت ماكغورك (عمل من 2015 حتى 2018 مبعوثاً رئاسياً خاصاً للتحالف الدولي لمكافحة "داعش")، والذي سيعمل منسقاً لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجلس الأمن القومي الأميركي.
تعامل عدد من أعضاء فريق بايدن عن قرب مع الملف العراقي، قبل الغزو وبعده
وعمل بايدن بنفسه على الملف العراقي، واطلع عليه عن كثب، طوال فترة عضويته في مجلس الشيوخ الأميركي، وفي عضوية لجان عدة فيه، اشتغلت على هذا الملف، خصوصاً خلال النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي. وصوّت بايدن حين كان سيناتوراً لصالح قرار احتلال العراق في عهد جورج بوش الابن عام 2002، فيما أعلن معارضته لزيادة عديد القوات الأميركية في هذا البلد، خلال جلسة تصويت في الكونغرس، عام 2007. وتولى بايدن، حين كان نائباً للرئيس السابق باراك أوباما (2008 – 2016)، عدداً من المهام الرئيسية المتعلقة بالعراق، من أهمها الإشراف على مفاوضات الاتفاقية الأمنية بين العراق وواشنطن، والتي انتهت بإقرارها، وانسحاب القوات الأميركية من هذا البلد بشكل كامل بناءً عليها في العام 2011. ومن هذه النقطة، بين نقاط أخرى، يستدل المعسكر السياسي العراقي المتشائم، على اعتبار أن بايدن كان عرّاب مشروع خروج القوات الأميركية السريع وغير المحسوب من العراق، وإفساح المجال لإيران لملء الفراغ الذي تركته هذه القوات. وحصل ذلك مع وجود رئيس وزراء عراقي حليف لإيران (نوري المالكي)، اتسمت سياسته بالطائفية الشديدة، التي مارس على أساسها عمليات إقصاء سياسية انتهت بخراب واسع حلّ بالبلاد عام 2014 عقب اجتياح تنظيم "داعش"، وسيطرته على نحو 40 في المائة من مساحة العراق.
وقبل فترة وجيزة، أعدّ مركز دراسات عراقي مقرّب من رئيس الحكومة السابق عادل عبد المهدي، بحثاً موسعاً بناءً على طلب كتلة تحالف "الفتح"، بمشاركة باحثين عراقيين محليين وآخرين مقيمين في بريطانيا، بشأن رؤيتهم لأوضاع العراق في ظلّ إدارة بايدن، والتوصيات الأهم لترميم العلاقة، والمبادرات المقترحة حول ذلك. هذا الأمر أكده نائب بارز في البرلمان العراقي، مشيراً في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن الجميع في العراق يترقب حالياً رؤية بايدن لمستقبل العلاقات مع بلادهم، وكيفية تعاطي الإدارة الأميركية الديمقراطية مع بغداد.
ولفت المصدر في هذا الإطار، إلى مراهنة زعامات سياسية على علاقتها السابقة مع بايدن خلال عمله في إدارة أوباما، ومن بين هؤلاء نوري المالكي وإياد علاوي وإبراهيم الجعفري وأسامة النجيفي ومسعود البارزاني وآخرون. لكن بحسب رأيه، فإنه "من الخطأ، ربطاً باختيارات بايدن لقيادة الخارجية والدفاع، وكذلك تعيينه ماكغورك مبعوثاً للشرق الأوسط، منح مساحة واسعة للتفاؤل بحصول تغيير جذري، ما لم يحصل تغيير سياسي من داخل العراق نفسه، ومنح انطباع (للأميركيين) بأن العملية السياسية تجري مع دولة مستقلة، ولا تخضع لرغبات وأجندات خارجية". وكشف المصدر في هذا الصدد، عن وجود مساعٍ جديدة في بغداد، لضبط خطاب وأنشطة الفصائل المسلحة في البلاد، بما يتعلق بتهديداتها المتكررة للقوات الأميركية، وللسفارة الأميركية في العاصمة، خصوصاً بعد استعادة الهجمات بالعبوات الناسفة التي تستهدف أرتال الخدمات والدعم اللوجستي التابعة للتحالف الدولي بقيادة واشنطن، وسط وجنوبي البلاد.
ووفقاً للنائب العراقي، فإن توقعات خرجت بحصول تبدلٍ في نبرة القوى السياسية المقربة من طهران مع الملف الأميركي، في مسعى منها لفهم أو تحديد كيفية تعاطي الإدارة الأميركية الجديدة مع العراق، وما إذا كانت ستبقي التعامل مع هذا البلد محكوماً بالملف الإيراني، أم سيجري ذلك بمعزل عنه. غير أن هذه القوى، "لا تنظر بحسب المصدر، بعين الراحة للسفير الأميركي في بغداد ماثيو تولر، كون التوتر معه لا يزال على أشده"، بحسب قول النائب، الذي رأى رغم ذلك، أن النقطة الرئيسية ستظلّ مرتبطة بوجود القوات الأميركية في العراق، أو بانسحابها، وهي مسألة تتوقف بالدرجة الأولى على الملف النووي الإيراني.
عقلانية بايدن مقابل ابتزاز ترامب
وبالنظر إلى سجل تعامل بايدن مع العراق خلال ولايتي باراك أوباما، فإنه لا يرجح استمرار النهج الأميركي الذي اتسمت به السنوات الأربع الماضية. وكانت الإدارة الأميركية السابقة استخدمت وسائل ابتزاز ومارست أساليب تهديد عديدة، للضغط على بغداد، وعلى القوى السياسية الفاعلة، في محاولة لإرخاء القبضة الإيرانية في البلاد. وشهدت السنوات الماضية، عمليات قصف جوي أميركي مباشر استهدفت الفصائل المسلحة الموالية لإيران، في بغداد والأنبار وبابل وكربلاء وصلاح الدين، مع فرض عقوبات أميركية على شخصيات سياسية وأخرى مسلحة تابعة لـ"الحشد الشعبي". كما مارست واشنطن بوضوح ابتزازات في ملف تجهيز الذخيرة وقطع الغيار لسلاح الجيش العراقي، الأميركي المنشأ، وأبرزها ما ارتبط بسرب مقاتلات "أف 16"، ودبابات "أبرامز"، فضلاً عن الشروط التي كانت تسبق كلّ عملية تمديد للاستثناء المتعلق بالعقوبات الأميركية على إيران لاستيراد الغاز والكهرباء منها، عدا عن ملف الأموال العراقية المودعة في المصرف الفيدرالي الأميركي.
يرى عراقيون أن بايدن كان عرّاب مشروع خروج القوات الأميركية السريع وغير المحسوب من العراق
وفي مقابل الفئة من السياسيين العراقيين التي تربط ملف العلاقات الأميركية – العراقية بالشأن الإيراني، رأى سياسيون آخرون أن التغيير الجذري في التعامل الأميركي مع العراق، يرتبط ببغداد نفسها، وما إذا كانت الحكومة والقوى السياسية العراقية ستتمكن من إثبات حسن نيّة في التعامل مع واشنطن كشريكٍ أساسي، بعيداً عن إيران وصراعها مع الولايات المتحدة. ويأتي ذلك فضلاً عن إمكانية إخراج انتخابات عراقية مستوفية ولو بالحد الأدنى من شروط النزاهة.
ورأى نائب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان العراقي، ظافر العاني، أنه "من خلال اختيار بايدن لطاقم عمله، فإن ولايته تبدو وكأنها ستكون ولاية ثالثة لعهد أوباما، الذي اتسم بالسياسة الإرضائية تجاه طهران، بما سينعكس على العراق سنوات صعبة". وأعرب العاني، في حديث لـ"العربي الجديد"، عن أمله بألا تكون رئاسة بايدن امتداداً لأخطاء سياسات أوباما في العراق، والتي أتاحت لطهران ومليشياتها هيمنة قاسية على العراقيين"، و"ألا يدفع الطاقم الجديد للحكومة الأميركية، واشنطن، لاتخاذ قرارات تتيح لطهران توسعاً في الشرق الأوسط"، معتبراً أن "سمعة الولايات المتحدة في منطقتنا مرهونة بمدى قدرتها على كبح السياسات الإيرانية التوسعية"، على حدّ تعبيره.
وبحسب تصريح سابق للنائب صادق المحنا، القيادي في ائتلاف "دولة القانون" الذي يتزعمه نوري المالكي، كان أدلى به لـ"العربي الجديد"، فقد اعتبر أن "بايدن أكثر هدوءاً وعقلانية في تعامله مع الملف العراقي، وذلك بناءً على تجارب سابقة معه"، متوقعاً لهذا السبب "حصول هدوء في المنطقة، وليس في الملف المتعلق بإيران فقط". وشدّد المحنا على أن "تحرك واشنطن مرتبط بمصالح الأمن القومي الأميركي والإسرائيلي، لكننا نأمل أن تتغيّر السياسة الأميركية قياساً بسياسة ترامب، والتي تسببت بمشاكل في المنطقة، وبأزمات وحالة عدم استقرار وتخلخل في الوضع الاقتصادي (العراقي)". مع ذلك، انتقد المحنا "إفراط بعض الكتل في التفاؤل بالمرحلة الأميركية المقبلة مع العراق".
دروس الماضي والواقع الجديد
من جهته، أوضح أستاذ الدراسات الأمنية في معهد الدوحة للدراسات العليا، مهند سلوم، أن بايدن "يعرف العراق أكثر من أي سياسي أميركي آخر، فقد كان من بين الصقور المناصرين للحرب على هذا البلد، وشارك بشكل مباشر خلال فترة عمله مع أوباما في صنع وإدارة سياسات الولايات المتحدة في العراق". وذكّر سلوم بأن بايدن كان "دعم صعود نوري المالكي إلى منصب رئيس الوزراء (2006 - 2014)، هو الذي ساهمت سياساته الإقصائية في اندلاع الصراع الطائفي في العراق وظهور "داعش"، كما معروف عنه أنه من الداعين ومناصري تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات".
قد ترتبط السياسة الأميركية أيضاً بالعلاقة بين واشنطن ودول الخليج
لكن الباحث المتخصص في السياسات الأمنية رأى مع ذلك، أن "سياسات حكومة بايدن الجديدة في الشرق الأوسط، قد تأخذ طابعاً مختلفاً عن حقبتي أوباما وترامب". فالمؤشرات الأولية، بحسب رأيه، تُنبئ بأن حكومة بايدن "تتعامل مع واقع جديد في العراق ومنطقة الخليج العربي: فمن جهة، هناك واقع الاقتصاد العراقي الذي يقف على حافة الانهيار بسبب الفساد الحكومي وعجز حكومة مصطفى الكاظمي أمام سطوة وفساد المليشيات المرتبطة بإيران والمليشيات المحلية التابعة لشخصيات سياسية ودينية، ومن جهة أخرى، عودة التنظيمات المسلحة المتطرفة لمهاجمة الجيش والمليشيات والمدنيين العراقيين". وفي السياق، رأى المصدر أن دول الخليج العربي، وعلى رأسها السعودية، لا تزال قلقة من إمكانية امتلاك إيران للتكنولوجيا العسكرية النووية، ودخول المنطقة في سباق تسلح نووي يهدد الأمن الإقليمي والدولي، ما يعني أن الملف النووي الإيراني سوف يحكم شكل وطبيعة العلاقات الخليجية مع الولايات المتحدة خلال فترة حكم بايدن.
وتوقع سلوم أن يكون بايدن قد تعلم الدرس من خبرته في التعامل مع العراق ومع الدول المحيطة، ما يعني أنه سوف يسعى إلى تطوير سياسات تدعم بغداد للجم المليشيات المتفلتة ولتعزيز استقرار البلاد مالياً وأمنياً، بالتوازي مع محاولة تجنيب الولايات المتحدة الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع هذه المليشيات. واستبعد الباحث أن تتوقف عمليات استهداف عناصر وقيادات الفصائل في العراق وسورية، لكن حدّتها برأيه لن تزداد في ظلّ الوضع الحالي.
وبحسب سلوم، فإن إدارة بايدن "ستسعى إلى الاستمرار بالضغط على إيران للتوقيع على اتفاق جديد من دون الدخول في مواجهة عسكرية معها". أما الخيار المقترح حالياً للدول الخليجية، فهو بحسب رأيه "فتح جولات مفاوضات ووساطة ما بين دول الخليج العربي وإيران للتوصل إلى اتفاق خليجي - إيراني يجنب المنطقة مخاطر الحرب المباشرة". ورأى سلوم أخيراً أن نجاح الوساطة في ذلك "يعتمد على مدى قبول إيران مناقشة نشاطاتها في سورية والعراق واليمن والبحرين، مقابل مرونة دول الخليج، وخصوصاً السعودية، في التعامل مع نفوذ إيران في سورية والعراق واليمن".