ينزلق الصراع في ميانمار منذ استيلاء المجلس العسكري على الحكم في الأول من فبراير/شباط الماضي وإطاحته بحكومة الزعيمة المدنية أونغ سان سو تشي المنتخبة، نحو مزيد من الاقتتال الداخلي، وسط توالي التحذيرات من نقطة اللاعودة بحال انزلاق المجلس ومعارضيه إلى صراع مسلح، يدخل البلاد في دوامة عنف سيكون من الصعب احتواؤها، ولن تقتصر نتائجها الكارثية على ميانمار وحسب، وإنما ستشكل خطراً على المنطقة.
ويعزز تجاهل العسكريين لمطالب الشعب، المستمر في الانتفاض منذ أكثر من خمسة أشهر، ومضيهم في قمعه بشكل دموي وخنقهم للديمقراطية، من تعاظم حركات التمرّد ضدهم، التي لم تعد تؤمن على ما يبدو الآن، بأن التعامل السلمي مع الانقلاب سيحقق أي نتيجة، لا سيما بعد سقوط نحو 900 قتيل وإصابة الآلاف، وإجبار مائتي ألف على الفرار من منازلهم في أعقاب مداهمات عسكرية للأحياء والقرى، بينما فرّ الآلاف إلى البلدان المجاورة، بحسب الأمم المتحدة. وأمام هذا الواقع، بات شباب كثر يرون في الثورة المسلّحة خياراً حتمياً لما آلت إليه الأمور، وقد بدأ بالفعل العديد من الشبان بترك ساحات الاحتجاج السلمي والتوجه نحو معسكرات التدريب في الجبال والتي تقيمها مجموعات عرقية متمردة منذ ما قبل الانقلاب، بعدما كان هاجم جيل جديد من المقاتلين المناصرين للديمقراطية، بالفعل مواقع للجيش ومكاتب إدارية في أرجاء البلاد في الأشهر الأخيرة.
وشكّل انقلاب الأول من فبراير، نقطة لإعادة إحياء الكثير من الجماعات العرقية المتمردة، على رأسها "جبهة تشين الوطنية"، وهي تابعة بالأساس لأقلية مسيحية في غرب ميانمار، وسبق أن وقّعت اتفاقاً لوقف إطلاق النار مع الجيش في العام 2015. وبينما تضاءل عدد مقاتلي هذه الجبهة في السنوات الأخيرة، عادت في الأشهر الأخيرة لتكتسب زخماً، لا سيما بعدما أعلنت حكومة الوحدة الوطنية التي شكّلتها مجموعة من النواب المعزولين بعد التطورات التي طرأت في البلاد، نهاية مايو/أيار الماضي، تحالفاً معها. وسعت حكومة الظل هذه إلى جمع المناهضين للانقلاب بعدد من المجموعات المسلحة المتمردة العرقية لتشكيل جيش فدرالي يتحدى المجلس العسكري. وقد بدأ بالفعل العديد من الشبان بالالتحاق بهذه المجموعات.
مخاوف من احتمال أن تنزلق ميانمار إلى صراع طويل الأمد
في معسكر فيكتوريا، المقر الرئيسي لـ"جبهة تشين الوطنية" في غرب ميانمار، بالقرب من الحدود مع الهند، تنخرط مجموعة من المجندين الجدد في معسكر تدريبي في الغابة، ويوحّدهم الهدف الأعلى وهو التحرر من المجلس العسكري، بحسب ما ترصده شبكة "سي أن أن". يأتي الكثير من هؤلاء الشبان من المناطق الجبلية المجاورة، لكن كثيرين آخرين يقومون برحلة خطرة من مناطق مختلفة من البلاد، بحثاً عن المهارات العسكرية. ويقول هؤلاء المتطوعون، بحسب ما تنقله عنهم "سي أن أن"، إنهم تظاهروا ضد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالحكومة المدنية في فبراير، ولكن لأن استجابة المجلس العسكري كانت ستصبح أكثر دموية، فقد قرروا حمل السلاح.
لكن أي أمل لدى هؤلاء الشبان بتحقيق نصر فعلي على العسكر في أي وقت قريب، هو أمر في الحقيقة بعيد المنال، فقيادتهم تحذر من معركة طويلة. وفي السياق، يقول نائب رئيس "جبهة تشين الوطنية"، ويدعى سويخار، لـ"سي أن أن": "الآن نخوض نوعاً من حرب العصابات، ولكن في غضون أشهر سيتحوّل الصراع إلى حرب أهلية تقليدية". وتثير هذه الحقيقة القاتمة مخاوف من احتمال أن تنزلق ميانمار إلى صراع طويل الأمد، بحيث لا يكون هناك منتصر وينهار البلد، الذي بات يعاني من أزمات على مختلف الصعد وتحاصره العقوبات الغربية. وكان أحدث هذه العقوبات تلك التي فرضتها الخزانة الأميركية، مطلع يوليو/تموز الحالي، واستهدفت 22 شخصاً على صلة بالانقلاب العسكري، ومن بينهم 7 أعضاء بارزين في جيش ميانمار. مع العلم أن هذه العقوبات لم تحقق أي نتائج إلى الآن، ولم تسهم في ردع المجلس العسكري المتمسك بالحكم وبالإجراءات التي اتخذها بعد الانقلاب، غير آبهٍ بأي ضغوط دولية، والتي هي في الحقيقة لم ترق لمستوى حدث بحجم القضاء على ديمقراطية ناشئة، بحسب ما يراه كثيرون. وفي تقرير عن الحرب الأهلية الناشئة في ميانمار نُشر في نهاية يونيو/حزيران الماضي، اتهمت مجموعة الأزمات الدولية، الجيش باعتماد استراتيجية تستهدف المدنيين لتقويض دعمهم للمليشيات. وحذرت المجموعة من احتمال ظهور جماعات مسلحة جديدة ومستدامة، خصوصاً أن ميانمار عرفت على مدى عقود من التمرد العديد من حركات التمرد في أجزاء مختلفة من البلاد.
ويصر سويخار على أن حركته، وجماعة "قوة دفاع تشينلاند" التي كانت تشكلت لمواجهة الانقلاب العسكري، والتي يتم تدريبها أيضاً في معسكر فيكتوريا، هما تحت قيادة حكومة الوحدة الوطنية في ميانمار. علماً بأنّ هذه الحكومة هي قيادة رمزية إلى حد كبير إلى الآن، وليست لها أي سلطات فعلية على الأرض أو حتى سيطرة على التجمعات المسلحة نفسها داخل ميانمار.
واحد من هؤلاء الشباب المنضوين في معسكرات التدريب، هو جون لينغ (22 عاماً) الذي تخلى عن دراسته للتاريخ في جامعة رانغون للانضمام إلى التمرد. استبدل الفصل الدراسي بمعسكر على قمة تلة، فهو المسؤول عن التموين لحوالي 150 متطوعاً آخرين. ويؤكد أنه لا يخشى أن يقتل لأنه يدافع عن بلده، مضيفاً أن والديه ليسا قلقين عليه، لكنهما فخوران بالموقف الذي اتخذه.
في خضم ذلك، تُطرح أسئلة عن مدى قدرة المتدربين الجدد على المواجهة. وفي هذا الإطار، يقول مقاتل شاب وصحافي تخرج من جامعة رانغون، إنه كان قائداً لمجموعة من 10 أشخاص مدربين بشكل خاص على خوض حرب العصابات في المناطق الحضرية، مضيفاً: "الآن هناك سبعة فقط منهم. لقد فقدت ثلاثة في الأسبوع الماضي عندما كانوا يحملون قنبلة محلية الصنع لاستخدامها ضد المجلس العسكري، ولكنها انفجرت في أيديهم. ماتوا جميعاً على الفور". ولذلك أمره رؤساؤه في "قوة دفاع تشينلاند" بالعودة إلى معسكر فيكتوريا للخضوع لمزيد من التدريبات.
تحذيرات من احتمال ظهور جماعات مسلحة جديدة ومستدامة
ويصر سويخار على أن هؤلاء المقاتلين سيتم تزويدهم قريباً بأسلحة وبنادق أكثر تطوراً. ويشير إلى أن "هناك مهربين دوليين... يمكنك الحصول على أسلحة من أي مكان"، لكن من غير الواضح كيفية دفع ثمن هذه الأسلحة. غير أن سويخار يشير إلى أن "الناس يتبرعون، ويجمعون الأموال. لذا، لا أعتقد أن الأموال ستكون مشكلة". ولطالما اعتمد العديد من الجماعات المسلحة في ميانمار لعقود على التهريب، خصوصاً المخدرات، لتمويل حركات تمردها.
من جانبه، يرد جيش المجلس العسكري باستهداف المجموعات المتمردة بإجراءات وضربات قاسية. وتقول مجموعة الأزمات الدولية إن الجيش يعتمد استراتيجية استهداف المدنيين عمداً في مناطق المجموعات المتمردة، في محاولة لحرمان المتمردين من الطعام والأموال والمجندين، إلى جانب نهب مخازن المواد الغذائية في المناطق المأهولة وحرمانها من إمدادات الإغاثة، في انتهاك واضح للقانون الإنساني الدولي. هذه الاستراتيجية معروفة لدى السكان المحيطين بمعسكر فيكتوريا، حيث يغادر المدنيون إلى مخيمات اللاجئين الصغيرة، أو يعبرون نحو الهند. وتقول امرأة مسنة في مخيّم تم تشييده حديثاً، لـ"سي أن أن": "أنا خائفة حقاً من قوات الجيش لأنها سيئة جداً وهي جيش وحشي". وتضيف: "ما دام العسكريون يحكموننا سأبقى لاجئة".
ولا يبدو أن مقاومة المجلس العسكري مقتصرة على الجماعات المتمردة، بل إن السكان باتوا يقاومون بكل ما لديهم. وهو ما حصل قبل أيام عندما انخرطت مجموعة من القرويين وسط ميانمار في اشتباكات مسلحة مع قوات المجلس العسكري، ما أدى لمقتل 25 مدنياً. وأفادت وسائل إعلام محلية بأنّ حوالي 150 جندياً من المجلس العسكري توجهوا إلى ست قرى بالقرب من بلدة ديباين، في منطقة ساجانغ، وأطلقوا النار على السكان، ما أسفر عن مقتل 25 مدنياً وفرار الآلاف من منازلهم. وذكرت المصادر ذاتها أن القرويين دافعوا عن أنفسهم بالسيوف وبعض البنادق المصنوعة في منازلهم، لافتة إلى أنه تم تأسيس ما تسمى بقوات الدفاع الشعبي في جميع أنحاء ميانمار لمحاربة قوات المجلس العسكري.
(العربي الجديد)