انفجرت "الحرب الأهلية" داخل الحزب الجمهوري في نهاية المطاف، كما كان متوقعاً. الحرب المندلعة منذ أربع سنوات، كانت كامنة تحت السطح، وأمس الثلاثاء، ظهرت على المكشوف بإطاحة رئيس مجلس النواب الأميركي، الجمهوري كيفن مكارثي، من منصبه بتصويت تاريخي وعلى يد أقلية من حزبه.
جناح الصقور في الحزب الجمهوري المحسوب على الرئيس السابق دونالد ترامب، طرح وضعه على التصويت انتقاماً من مكارثي لتعاونه، الأسبوع الماضي، مع الحزب الديمقراطي لتمرير تمويل مؤقت للحكومة الفيدرالية لمدة 45 يوماً، لكن هذه الذريعة كانت القشة التي قصمت ظهر البعير.
الاحتقان يتراكم منذ انتخابات الرئاسة 2020 وتداعياتها المعروفة، ووقوع هذا الانفجار المدوّي وغير المسبوق في تاريخ الكونغرس قبل سنة من استحقاق 2024، لا بد أن يترك آثاره على معركة الحزب الممزق فيها.
سقط مكارثي بفارق ستة أصوات (216 مقابل 210)، وكان يعوّل على حفنة أصوات من الديمقراطي لإنقاذه، لكن هذا الأخير "المكتوي من ألاعيبه"، كما قالت أوساطه، صوّت ضده بالإجماع إضافة إلى 8 جمهوريين. خلعه بهذا الشكل وبعد 9 أشهر من انتخابه للمنصب رقم 3 في هرم السلطة الأميركية له حيثياته المتعلقة بسلوكه الذي كان كافياً لتلاقي الأضداد على إقالته.
استماتة مكارثي لكسب الرئاسة التي وصلها بشق الأنفاس بعد 15 دورة انتخابية، حملته على إعطاء وعود أشبه بالارتهان للصقور الذين كانوا يمسكون بورقة فوزه رغم قلة عددهم، لأن حزبه يملك أغلبية بزيادة 10 أصوات فقط في المجلس.
وبعد وصوله إلى رئاسة مجلس النواب، اكتشف أن موقعه لا يعمل إلا بالتسويات، لكن ضعف هيبته تجاه فريقه معطوفاً على عدم تسامح الصقور مع الوعود، حمله على المراوغة واللعب على الحبلين، بحيث بدا بلا لون وبما أفقده الحد الأدنى من المصداقية، خاصة لدى الديمقراطيين الذين رفضوا إنقاذه حيث كان بإمكانهم تعويمه لو أرادوا، مع أنهم بهذا الموقف بدوا كمن يقف إلى جانب الصقور، خصمهم اللدود.
ويبدو أنّ تصويت الديمقراطي إلى جانب الصقور يتخطى المظهر ليتصل بحسابات الانتخابات، من زاوية دفع الجمهوري إلى الانتخابات وهو في حالة نزف ذاتي. يُشار في هذا السياق إلى أن الرئيس ترامب كان بإمكانه إنقاذ مكارثي من خلال جناج الصقور المحسوب عليه، لكنه لم يفعل، وهو بالمناسبة كان أثناء جلسة التصويت، في قاعة محكمة نيويورك المدنية يتابع مجريات محاكمته بتهمة إعطاء إفادات سابقة مزورة عن ممتلكاته في المدينة، فهو يعرف أن الانقسام في الحزب خدم مصلحته، ثم أن امتلاكه لكتلة ولو أقلية، لكن مؤثرة تمسك بالقرار الجمهوري في مجلس النواب، أجدى من محاولة استمالة عموم الجمهوريين فيه، لكونه يدرك أن ذلك غير ميسور.
نأي ترامب عن لعب مثل هذا الدور الإنقاذي عمّق الشرخ بينه وبين القيادات الوسطية التقليدية التي التفت حول مكارثي، وبذلك أُصيب الحزب بجرح بليغ ليس من السهل تجاوز تداعياته في وقت قريب. الردود الانفعالية التي عبّر عنها عدد من هذه القيادات إثر سقوط مكارثي، مثل النائب القيادي باتريك ماكهنري، تشير إلى مدى النقمة السائدة في صفوف هذا الفريق، وما لا جدال فيه أن هذه الهزة نقلت الحزب الجمهوري من حالة فوضى الانقسام إلى حالة التناحر.
وسبق أن شهد الحزب الجمهوري صراعات حول رئاسته للمجلس، لكن لم يصل أي منها إلى ما وصلت إليه مجزرته السياسية اليوم. في 1998، ترك رئيس المجلس نيوت غينغريتش المنصب بعد استفحال الخلافات مع فريقه، وكذلك فعل جون بينر في 2015، وفي كلتا الحالتين، جرى نوع من استبدال كليهما برئيس مجلس آخر جمهوري. وفي الحالة الراهنة لا يوجد بديل جاهز، وبحسب العارفين، لن يحصل توافق حوله قبل مرور أسابيع، وربما ليس قبل دخول العام الجديد.
وتقرر تكليف النائب الجمهوري باتريك ماكهنري بتسيير الأمور لغاية انتخاب رئيس بديل، فإقالة مكارثي الأشبه بالطرد أحدثت صدمة كبيرة في صفوف الجمهوريين مع الكثير من الإحباط. ليس فقط لأنها جرت على يد جمهوريين، بل أيضاً لأنها الأولى من نوعها. لمرة واحدة في القرن التاسع عشر، جرى التصويت على إزاحة رئيس المجلس من موقعه، لكن المحاولة فشلت في جمع الأصوات اللازمة، واليوم جرت بسهولة ودخل الموقع في شغور مفتوح، يذكّر بالشغور اللبناني ولو من باب التفكّه.
وتكررت في السنوات الأخيرة أحداث أميركية غير معروفة سابقاً، تكوّنت معها ما يمكن تسميتها بظاهرة "لأول مرة"، ويندرج في هذه الخانة: "غزو" الكونغرس في 2021، ومحاكمة رئيس سابق في أربع دعاوى بـ91 تهمة جنائية، والتحقيق في احتمال التصويت على عزل الرئيس الراهن من دون أي مسّوغ دستوري، بحسب الجمهوري جوناثان تيرلي، أستاذ القانون في جامعة جورج واشنطن، وقبول السيناتور الديمقراطي بوب مينينديز رشوة بسبائك ذهبية وكاش بآلاف مكدسة في سترته ورفضه الاستقالة من مقعده رغم إلحاح 31 من زملائه الديمقراطيين عليه للمغادرة، وإصرار ابن الثمانين (الرئيس جو بايدن) على الترشح مرة أخرى للرئاسة، وغيوم فساد فاضح (بحسب السيناتور شيلدون وايتهاوس) فوق أحد قضاة المحكمة العليا من دون أي مساءلة، واليوم الإطاحة برئيس مجلس النواب كيفن مكارثي.
كل هذه الأحداث تحدث "لأول مرة ". وفي الآونة الأخيرة دخل مصطلح "Dysfunctional" على توصيف مثل هذه الحالات نتيجة الشطط والخروج عن سكة القوانين والأعراف في "بلد القانون"، لكن التكرار والتمادي في ذلك يطرح التساؤل عما إذا كان ما يجري يدخل فقط في خانة "الخلل الوظيفي" أم أنه تعبيرات عن هبوط في المسار العام باتجاه بدائل نقيضة لا تخفي أوساط ومرجعيات معنية مخاوفها إزاءها، ومنها الرئيس بايدن الذي تحدث عنها في خطابه قبل أيام بولاية أريزونا.