لم تكد الحكومة الإيرانية تتوصل إلى "تفاهم فني مؤقت" مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لمواصلة أنشطة التحقق والرقابة "الضرورية" لنشاطاتها النووية، حتى تم الانقلاب عليه، عبر رفع 221 نائباً في البرلمان الذي يسيطر المحافظون عليه شكوى إلى القضاء ضد الحكومة بتهمة انتهاك قانون "الإجراء الاستراتيجي لإلغاء العقوبات"، فيما تمسك أعضاء مجلس خبراء القيادة برفض أي عودة لأميركا إلى الاتفاق من دون رفع العقوبات.
وقبل ساعات من انتهاء المهلة التي حددتها طهران لوقف العمل بالبروتوكول الإضافي، اليوم الثلاثاء، من دون أن تتجاوب الإدارة الأميركية مع طلبها الأساسي لرفع العقوبات، وضع أعضاء مجلس خبراء القيادة في إيران خطوطاً حمراء أمام الحكومة، إذ أكدوا، في بيان قبل اجتماع مع المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، أن عودة أميركا إلى الاتفاق النووي من دون رفع الحظر عن البلاد "ليس عديم الفائدة فحسب وإنما سيكون مضراً". وشددوا على أن "التفاوض مع أميركا حول قضايا متفق عليها خط أحمر. كما أننا نرفض التفاوض حول القضايا الدفاعية والصاروخية".
من جهته هدد خامنئي برفع نسبة تخصيب اليورانيوم قائلاً إنه "لن يقف عند نسبة 20 في المائة، ويمكن أن نرفعها إلى 60 في المائة". وبينما أشار إلى أن الغرب "يعلم جيداً أننا لا نسعى لتصنيع الأسلحة النووية"، اتهم الدول الغربية بأنها تريد "سلب مقومات القوة منا"، وأضاف: "إذا نفذ الغرب تعهداته بالاتفاق النووي، نحن أيضاً سننفذ التزاماتنا".
وقف تنفيذ البروتوكول ليس الخطوة الوحيدة التي ستقدم عليها إيران لخفض التزاماتها
وأعلنت غالبية من النواب، في جلسة تصويت أمس الإثنين، أن الحكومة نقضت قانون "الإجراء الاستراتيجي لإلغاء العقوبات"، فرفعوا شكوى بهذا الخصوص إلى السلطة القضائية. وصادق 221 نائباً على الشكوى، فيما رفضها 6، وامتنع 7 عن التصويت. وقال المتحدث باسم المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، كيوان خسروي، في بيان، إن "جميع التفتيشات خارج اتفاق الضمانات ستتوقف من الثلاثاء"، مؤكداً أن "هناك إجماعا بين أركان الدولة على تنفيذ القانون من دون وقفة".
وكانت الإشارات "الإيجابية" التي أرسلتها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لطهران، خلال الأيام الماضية، المتمثلة في سحب إعلان إعادة فرض العقوبات الأممية وتخفيف القيود على تحركات البعثة الإيرانية في نيويورك، لم تجد نفعاً، إذ اعتبرتها طهران "غير كافية". وعليه فبعد انتهاء المهلة اليوم، فإنه من المقرر أن تتخذ الحكومة الإيرانية خطوة مهمة أخرى لخفض تعهداتها النووية المنصوص عليها بالاتفاق النووي المبرم عام 2015 مع المجموعة السداسية الدولية، وذلك من خلال وقف العمل بالبروتوكول الإضافي، الذي يحكم الرقابة الأممية على البرنامج النووي الإيراني، ويمنح الوكالة الدولية للطاقة الذرية حق إجراء عمليات تفتيش مفاجئة للأنشطة النووية.
غير أن إيران، وعلى الرغم من تعليقها البروتوكول الإضافي، توصلت مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أثناء زيارة رئيسها رافاييل غروسي لطهران، أمس الأول، إلى "تفاهم فني مؤقت" لمواصلة أنشطة التحقق والرقابة "الضرورية" على النحو المذكور في ملحق التفاهم. ويشير الملحق إلى أن إيران ستحتفظ لمدة 3 أشهر بالمعلومات التي تسجلها الكاميرات المركبة في المنشآت المحددة في المرفق، ولن يكون بإمكان الوكالة الدولية للطاقة الذرية الوصول إلى هذه المنشآت والمعلومات. لكن بعد 3 أشهر سيتم تسليمها إلى الوكالة في حال رفع العقوبات، وإذا لم ترفع سيتم شطبها نهائياً. وقال غروسي، في جنيف بعد زيارته طهران، "ما اتفقنا عليه هو شيء قابل للحياة. من المجدي جسر هذه الفجوة التي نواجهها الآن، هذا ينقذ الوضع الآن". وأضاف "هذا القانون (الذي أقره البرلمان الإيراني) موجود، وهذا القانون سينفذ، ما يعني أن البروتوكول الإضافي للأسف سوف يُعَلّق. سوف يتم تقييد عملنا، لنواجه هذا الأمر. لكنّنا تمكنا من الإبقاء على الدرجة اللازمة من أعمال المراقبة والتحقق"، واصفا الترتيبات الجديدة بأنها "تفاهم تقني مؤقت".
خطوات إيرانية إضافية
ووقف تنفيذ البروتوكول، ليس الخطوة الوحيدة التي ستقدم عليها إيران في هذا اليوم لخفض التزاماتها، بل ثمة خطوات أخرى تضاف إليها، تحت عنوان وقف تنفيذ "الإجراءات الطوعية"، التي تعهدت بتنفيذها في الاتفاق النووي، تشمل ثمانية التزامات، بما فيها البروتوكول الإضافي الذي يعتبر الأهم بينها.
موسويان: إيران في الظروف الحالية تنفذ 70 في المائة من تعهداتها النووية
والالتزامات السبعة الأخرى التي ستوقفها طهران، تشمل العمل بـ"الفقرة 3.1 من الترتيبات الفرعية الملحقة باتفاق الضمانات"، (نظام تفتيش كجزء من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية). وبعد وقف هذا التعهد ستمتنع إيران عن إرسال إبلاغات مبكرة بشأن منشآتها النووية للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وعدم استخدام التقنيات النووية الحديثة، والحضور طويل الأمد للوكالة الدولية للطاقة الذرية في إيران، واتخاذ إجراءات شفافة حول الكعكة الصفراء، أو مسحوق اليورانيوم الذي يستخدم في الوقود للمفاعلات النووية. والالتزام الرابع هو اتخاذ إجراءات شفافة حول أنشطة تخصيب اليورانيوم، والخامس هو السماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالوصول إلى المنشآت الإيرانية في إطار الاتفاق النووي. أما الالتزام السادس فهو الرقابة والتحقق من تنفيذ الإجراءات الطوعية، فيما يرتبط السابع بإجراءات شفافة حول صناعة قطع أجهزة الطرد المركزي.
وتُعدّ هذه الخطوات تصعيداً ملحوظاً في خفض إيران التزاماتها التي تعهدت بها في الاتفاق النووي، بعد أكثر من عامين من الانسحاب الأميركي منه. فـ"أهم هدف لإيران من هذه الخطوات هو تنفيذ شامل وعادل ومتساوٍ للاتفاق النووي وفق القرار 2231"، المكمّل له، كما يقول كبير المفاوضين الإيرانيين السابق حسين موسويان، لـ"العربي الجديد". وكان موسويان يقود الفريق الإيراني في المفاوضات النووية مع الغرب في عهد الرئيس الأسبق محمد خاتمي، ويدرّس حالياً في جامعة برنستون بولاية نيو جيرسي الأميركية.
ويضيف موسويان أن بلاده ظلت عضواً بالاتفاق النووي رغم الانسحاب الأميركي منه في 2018، وتعرّضها لـ"أشد العقوبات، في ظل التزام أوروبي كامل، والتزام نسبي صيني وروسي بهذه العقوبات". ويعتبر أن إيران "في الظروف الحالية تنفذ 70 في المائة من تعهداتها النووية، لكن التزام أميركا وأوروبا بالاتفاق صفر. وأقصى ما تنفذه الصين وروسيا لا يتجاوز 30 في المائة من تعهداتهما".
تبعات خطيرة
إلا أن خفض التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية من خلال وقف تنفيذ البروتوكول الإضافي، قد لا تؤتي أكلها، كما تشتهي طهران لجهة رفع العقوبات، وقد ترتد الخطوة عليها سلباً، خاصة أن ثمة تركيزا إعلاميا، إسرائيليا وغربيا، على أنها تأتي في سياق التوجه الإيراني نحو صناعة القنبلة النووية. فضلاً عن أن الأطراف الأوروبية الشريكة في الاتفاق النووي، أطلقت تحذيرات شديدة من تعليق البروتوكول، مع التهديد بـ"رد صارم". وما زاد من مخاوف الغرب ليس هذا الإجراء فقط، بل لأنه جاء استكمالاً لخطوات نووية مهمة أخرى، مثل بدء إنتاج معدن اليورانيوم، والتلميح بتغيير الإستراتيجية والتوجه نحو الأسلحة النووية إذا استمرت الضغوط، كما عبر عنه وزير الاستخبارات الإيراني محمود علوي، في وقت سابق، في تصريحات واجهت انتقادات داخلية.
وأدركت الحكومة الإيرانية خطورة الأمر سريعاً، فحاولت خلال الأيام الأخيرة استدراك الوضع وتبديد المخاوف من خلال إطلاق تصريحات، قللت من أهمية آثار تعليق البروتوكول وتداعياته. وقال الرئيس الإيراني حسن روحاني، الأربعاء الماضي، إنه مع تنفيذ القرار "لن يحدث شيء مهم"، متهماً الجهات الخارجية بتضخيمها، وواصفاً الحديث عن نية طهران طرد المفتشين الدوليين بأنه "شائعات ودعاية". وأضاف أن وقف العمل بالبروتوكول "لا يعني إخراج نشاطنا النووي من الرقابة الأممية". إلى ذلك، طمأن المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي ربيعي، في مقال نشر بصحيفة "إيران" الرسمية، السبت الماضي، "الدول الراغبة في إحياء الاتفاق النووي، والقلقة من تداعيات هذا القرار (تعليق البروتوكول الإضافي) بعدم وقوع أي تغيير مثير" في البرنامج النووي، و"في فتوى حظر الأسلحة النووية".
مطهرنيا: يظهر تعليق البروتوكول الإضافي انتقال طهران إلى المقاومة القصوى بوضعية هجومية
وفي السياق، يمكن اعتبار "التفاهم الفني المؤقت" مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، محاولة لاستدراك تداعيات الخطوة، ومنع استغلالها لتشديد الضغوط على إيران، فضلاً عن أنها تحمل في طياتها إشارة إيرانية "إيجابية" لمنح الفرصة للمبادرات الدبلوماسية لحلحلة الأزمة قبل استفحالها والإتيان بالخطوات النووية الجديدة.
وحذر مراقبون، مؤخراً، من أن وقف العمل بالبروتوكول الإضافي من شأنه أن يعيد الخيار العسكري مع إيران إلى الطاولة الغربية، لكن كبير المفاوضين الإيرانيين السابق، حسين موسويان، يستبعد ذلك، في حديثه مع "العربي الجديد"، قائلاً إنه مع الانسحاب الإيراني من البروتوكول فإن "الخيار العسكري ليس محتملاً، لأن طهران لا تزال عضواً في معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وستسمح للوكالة الدولية للطاقة الذرية بعمليات تفتيش وفق اتفاق الضمانات".
لهذه الخطوات مخاطر، "فكلما ترفع أميركا العقوبات أسرع تقل هذه المخاطر"، كما يقول موسويان. ويضيف "إذا تلاعبت أميركا أكثر، ونفذت إيران قانون البرلمان بالكامل ستحتدم التوترات والنتيجة ستكون الخسارة للطرفين"، في إشارة إلى القانون الذي أقره البرلمان الإيراني، مطلع ديسمبر/كانون الأول الماضي، بعنوان "الإجراء الاستراتيجي لإلغاء العقوبات"، ويُلزم الحكومة بتنفيذ خطوات نووية لافتة، منها تعليق البروتوكول الإضافي. إلى ذلك، "فأمامنا ثلاثة أشهر حتى نهاية حياة الاتفاق النووي إذا استمر الوضع الحالي"، حسب حديث كبير المفاوضين الإيرانيين السابق لـ"العربي الجديد"، مشيراً إلى إلزام القانون الإيراني الحكومة بخطوات أخرى خلال مارس/آذار وإبريل/نيسان المقبلين، "مثل تشغيل أجهزة الطرد المركزي من الجيلين الثاني والسادس، وتشغيل مصنع أصفهان لمعدن اليورانيوم، حيث سيقضي هذا الوضع على الاتفاق النووي". وعليه، يعتقد موسويان أن "الكرة اليوم في ملعب الرئيس الأميركي جو بايدن، وأميركا تتحمل مسؤولية إنقاذ الاتفاق النووي أو القضاء عليه".
عموماً، يظهر تعليق البروتوكول الإضافي انتقال طهران إلى "المقاومة القصوى بوضعية هجومية"، كما يقول الأكاديمي الإيراني مهدي مطهرنيا، لـ"العربي الجديد". ويشير إلى أن وقف تنفيذ البروتوكول، المُقر بقانون من قبل البرلمان، "يبطل مفعول الاتفاق النووي ويؤسس لمرحلة جديدة بين إيران والنظام الدولي".
وإيران تهدف من خلال هذا الإجراء للحصول على تنازلات من الإدارة الأميركية وأوروبا، وفق مطهرنيا، الذي استبعد أن يدفع هذا الأمر الإدارة الأميركية الجديدة إلى رفع جميع العقوبات، لكن "قد يخفف بايدن هذه العقوبات". ويقول الخبير الإيراني إن الرئيس الأميركي الجديد أظهر أنه لا يعتزم العودة للاتفاق النووي، "بل بصدد تشديد الضغوط على إيران، من خلال الانضمام إلى مجموعة 1+5"، مضيفاً أن بايدن "يهدف إلى استغلال المجموعة وتركة (الرئيس السابق دونالد) ترامب لزيادة جرعة الضغوط ورفع التنسيق بين ضفتي الأطلسي لهذا الغرض".
ولم يستبعد مطهرنيا استغلال الأطراف الأميركية والأوروبية تعليق البروتوكول الإضافي، لإحياء الإجماع الدولي ضد إيران. ويشير إلى إمكانية التعاون الصيني والروسي مع هذه الأطراف أيضاً، معتبراً أن "منافع موسكو وبكين على الساحة الدولية تطغى على مصالحهما في العلاقة مع طهران". ويشير إلى أن مصالح روسيا والصين مع الولايات المتحدة "قد تدفع الطرفين إلى الانتفاع من ورقة إيران في اللعبات الدولية".