انقلاب الغابون ومحطات التباعد السياسي مع فرنسا

01 سبتمبر 2023
ماكرون وعلي بونغو في الإليزيه، يونيو الماضي (Getty)
+ الخط -

فرنسا من دون الغابون، كسيارة من دون وقود. الغابون من دون فرنسا، كسيارة من دون سائق". هكذا كان يردد عمر بونغو، رئيس الغابون السابق والراحل، الذي حكم البلاد منذ عام 1967، قبل أن يورث الحكم بانتخابات صورية لابنه علي بونغو، في 2009، والذي حكم لولايتين، قبل أن يعزله عسكريون في انقلاب، فجر أول من أمس الأربعاء، بعد وقت قصير من إعلان فوزه بولاية ثالثة. على الرغم من ذلك، فإن باريس لا تبدو حتى اللحظة "مهمومة" كثيراً بخسارة علي بونغو، ولا بالانقلاب، سوى لناحية مشهد دومينو الانقلابات العسكرية، الذي يصيب منذ 3 سنوات مستعمراتها السابقة، من مالي إلى النيجر إلى الغابون. وفي البلدان الثلاثة، تبدو الهيبة الفرنسية في أفريقيا على المحك، وهو أكثر ما يزعج باريس. علماً أنه في الحالة الغابونية، ظلّ علي بونغو، منذ سنوات، يشكّل عبئاً أكثر منه حليفاً موثوقاً، عكس أبيه، الذي كان التواطؤ بينه وبين باريس موصوفاً، ويتفاخر حتى بدوره في تشكيل الوزارات الفرنسية.

وتعود الكثير من الفضائح والأسرار والأخبار غير المعروفة، عن عائلة بونغو الثرية وعلاقتها بفرنسا طوال أكثر من نصف قرن، إلى الواجهة، مع الانقلاب العسكري الذي أطاح، أول من أمس، بعلي بونغو، رئيس الغابون الذي احتُجز من قبل عسكريين على رأسهم جنود في الحرس الرئاسي، بعد وقت قصير فجر الأربعاء، من إعلان مفوضية الانتخابات الوطنية فوزه بولاية ثالثة، وهو ما رفضته المعارضة. كما تعود إلى الواجهة، المصالح الفرنسية السياسية والاقتصادية والعسكرية، في الغابون، هذا البلد الواقع في وسط غرب أفريقيا، والتي تسلّط الضوء على الأهمية الاستراتيجية لهذا البلد، قليل السكّان (أكثر بكثير اليوم من مليوني نسمة)، والذي تغطي الغابات أكثر من 80 في المائة من مساحته.

لطالما شكّلت الغابون، في حقبة الاستعمار وما بعده، ركناً أساسياً في سياسة فرنسا الأفريقية

ولطالما شكّلت الغابون، في حقبة الاستعمار وما بعده، ركناً أساسياً في سياسة فرنسا الأفريقية، أو ما يعرف بـ"فرانس أفريك" بعد الاستعمار. وخلال حكم عمر بونغو، ترسخت "العلاقة المميزة" بين باريس وليبرفيل، والتي تلخّص بالمفهوم البعيد عن الدبلوماسية، هذا النسيج من العلاقات بين فرنسا ومستعمراتها السابقة، الذي يقوم في أغلب الأحيان على تبادل المصالح، والمحسوبيات، والفساد، وهو ما كرّس حماية باريس لعقود لعائلات حاكمة في القارة السمراء، وتغطيتها على مراكمتها للثروات، مقابل إبقاء شعوبها فقيرة، وهو ما قدّمته الغابون الغنية بالثروات مثالاً.

فرنسا - الغابون: علاقة "مميزة" تحكمها المصالح

وتكرّست "العلاقة المميزة" بين باريس وليبرفيل، بعد استقلال الغابون عام 1960، بسبب الثورة الجزائرية. ومنذ عام 1961، في عهد سلف عمر بونغو، ليو مبا، اشتهرت الغابون بالنسبة لفرنسا، اختصاراً، بالدولة "بوم"، أي دولة البترول واليورانيوم والمنغنيز، ليضاف إليها بأنها دولة الأخشاب، حين كانت فرنسا من الدول المشترية الرئيسية (الثانية بعد الصين)، لأخشاب الغابون الخام، قبل أن تحظره ليبرفيل، حفاظاً على ثروتها الطبيعية في عام 2010.

وتفسّر المصالح الاقتصادية المجبولة بالفساد المستشري بين باريس وليبرفيل، هذه العلاقة "الحميمية" التي ظلّ عمر بونغو، منذ أن كان موظفاً في الـ"بي تي تي"، أو شركة الاتصالات والبريد والتلغرام الفرنسية (السابقة)، في بلاده، قبل وصوله إلى الرئاسة، يتفاخر بها، بل حتى أن أقلاماً ومنها فرنسية، كتبت عن "همس بونغو في أذن (الرئيس الفرنسي الراحل) جاك شيراك لاختيار أسماء وزراء معينين"، أو تمويل الرئيس الغابوني السابق، لأحزاب سياسية فرنسية، وخصوصاً اليمينية، وغيرها من الأخبار التي ظلّت تغذي المخيلة حول هذه العائلة الحاكمة الثرية في الغابون، وأموالها التي "لا تحرقها النيران"، ونفوذها داخل أروقة الإليزيه والوزارات الفرنسية.

ويشرح أنطوان غلاسير، الصحافي الفرنسي والكاتب المشارك مع باسكال إيرولت، في تأليف كتاب "الفخ الأفريقي لماكرون" (2021)، لأكثر من وسيلة إعلام فرنسية، أمس الخميس، ومنه لصحيفة "ليبراسيون"، أن طرد فرنسا من الجزائر، واكتشافها لثروات الغابون، غذّى العلاقة بين البلدين، حين تحول الغابون بالنسبة لباريس إلى الدولة "بوم"، فضلاً عن موقعه الجغرافي الاستراتيجي في مواجهة الأطلسي، وقلة عدد سكّانه والذي يجعله قابلاً للسيطرة.

ويلفت غلاسير، إلى أن عمر بونغو، وهو فرانكوفوني "وذات هوى فرنسي"، كرّس نفسه "لخدمة مصالح فرنسا في أفريقيا"، ما أفضى بين فرنسا ومستعمرتها السابقة إلى "اندماج كامل، من وجهة نظر سياسية وعسكرية ومالية". أما بالنسبة لحماية حكم عمر بونغو، فيضيف أن "كل الحرس الرئاسي كان مؤمّناً من أفراد الاستخبارات الفرنسية. وبفضل باريس، فقد حكم عمر بونغو بقبضة من حديد، وقمع الاعتراضات ضد حكمه، ليصبح الغابون مع ساحل العاج، أحد العمودين الأساسيين لنظام ما بعد الاستعمار المعروف بفرانس – أفريك".

ويُحمّل البعض، قبل الانقلاب، الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، أو اليسار الفرنسي، مسؤولية تراجع العلاقات بين باريس وليبرفيل، في عهد بونغو الابن، المعزول أول من أمس، فيما يحمل البعض الآخر لعلي بونغو "الأنغلوفوني"، مسؤولية تراجع العلاقات، بينما يقول آخرون إن كل شيء في ليبرفيل سيبقى "فرنسي الهوى" قبل الانقلاب وما بعده.

فتور فرنسي حيال علي بونغو

وكان وصول علي بونغو إلى السلطة في عام 2009، هو الذي كان يفضل عالم الموسيقى ثم أطاح بنفوذ شقيقته باسكالين (التي كانت صديقة للمرشح الذي تنافس في وجه علي بونغو في انتخابات 2016، جان بينغ)، بعد تبوئه للحكم، قد قوبل بالترحيب من قبل باريس، في ذلك العام، قبل أن تظهر مواقف متضاربة، وغير حماسية بعد الاحتجاجات الدموية التي رافقت فوزه الثاني، في 2016. منذ ذلك الوقت، بدا التباعد واضحاً بين الطرفين، علماً أن هولاند كان أول رئيس جمهورية فرنسي لا يزور الغابون خلال ولايته، بل حتى أن سياسيين فرنسيين سابقين في ذلك العام، أكدوا على وسائل الإعلام الفرنسية، أن "جان بينغ هو الفائز". وتحدث الإعلام الفرنسي حينها، عن وساطة دولية لـ"حماية" علي بونغو، وتعهد بينغ بعدم المساس به، إذا ما تمّ الاعتراف برئاسته، لكنها فشلت.

هذا الوضع، والذي كان رافقه احتقان اجتماعي ضد عائلة بونغو، تزامن مع فتح القضاء الفرنسي لملفات فساد تخص أفراد العائلة، وهو ما اعتبر حينها رسالة إلى السلطة الحاكمة في الغابون، وإلى علي بونغو الذي كان يقترب أكثر من العالم "الأنغلوفوني". وتوالت المؤشرات قبل ذلك وبعده إلى أن التباعد بين بونغو وباريس يتسع، من توقيف مدير مكتب بونغو ميكست أكرونبيسي في مطار شارل ديغول عام 2015، ووضع القضاء الفرنسي يده على الطائرة الرئاسية للغابون، في ذلك العام، عندما كانت في باريس لأغراض الصيانة. هذه الإشارات فهمت مراراً في الغابون على أنها موجهة لبونغو الابن، الذي كان يحاول تنويع الشراكات الاقتصادية لبلاده.

ويؤكد غلاسير، رغم ذلك، أن المصالح الفرنسية تبقى اليوم قوية، في الغابون، رغم كل التباعد، لا سيما في حقول النفط (كان لفرنسا حصة 50 في المائة، أما اليوم فتراجعت كثيراً) والمنغنير، عبر شركة "إيراميت"، لكن الشريك الأول للغابون اليوم هو الصين، و"العالم كلّه له تجارات مع الغابون". ويضيف أن فرنسا "لم ترَ أفريقيا تتعولم، وظلّت تفعل كما لو أنها في بيتها، بل حتى أن القاعدة العسكرية لها في الغابون، ليست اليوم كما كان حالها في عهد عمر بونغو".

ولا يمنع هذا التراجع في العلاقات منذ سنوات بين باريس والعائلة الحاكمة لعقود في الغابون، من أن يحمل تناقضات. ويقول معارضون لصحف فرنسية، إنه في باريس، منذ إصابة بونغو بجلطة دماغية في 2018، "الكل يعلم أن الحاكمة الفعلية، كانت زوجته سيلفيا، المولودة في باريس، والقريبة جداً من سيغولين رويال"، السياسية اليسارية التي ترشحت لانتخابات الرئاسة في 2007، وهي شريكة هولاند السابقة، وأم أولاده.

لكن صحيفة "لوباريسيان" رأت أمس، بما معناه أن رب ضارة نافعة، فقد أعاد الانقلابيون أمس، بثّ الإذاعات والقنوات الفرنسية، التي أوقفها بونغو، السبت الماضي، مع عملية الانتخابات الرئاسية التي أعلن فيها فوزه (قبل رفض النتائج من قبل الانقلابيين). كما رأت الصحيفة أن قائد الانقلاب، قائد الحرس الجمهوري الجنرال بريس أوليغي نغيما، قد يكون أقرب للفرنسيين من علي بونغو، وأن الإليزيه الذي دان الانقلاب، لم يطالب كما في النيجر بعودة الرئيس "فوراً" إلى السلطة (نفى أي اتصال بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وعلي بونغو بعد الانقلاب)، لكن كلّ الضرر يبقى "في الهيبة الفرنسية".

(العربي الجديد)

المساهمون