على وقع التطورات الميدانية في إثيوبيا، وتهديد "جبهة تحرير شعب تيغراي" بالزحف نحو أديس أبابا، وفي ظل الزيارة الرسمية التي يقوم بها وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى الولايات المتحدة للمشاركة في الحوار الاستراتيجي بين مصر وأميركا، عاد الحديث بقوة عن أزمة سد النهضة الإثيوبي. ويرى بعض المحللين المصريين أن التهديد الذي يواجهه رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، واحتمال إزاحته من الحكم، أمر إيجابي بالنسبة لمصر وموقفها من سد النهضة. ويعود السبب إلى أن الاضطرابات السياسية التي تشهدها إثيوبيا، وتهديد العاصمة، من شأنها تعطيل مشروع السد، وإضعاف موقف أبي المتشدد في رفضه أي تراجع عن قراره بإتمام ملء السد، قبل التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم مع دولتي المصب مصر والسودان.
وحول تأثير المعارك في الداخل الإثيوبي، اعتبر الباحث محمد شرف، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "حتى لو عادت إثنية تيغراي إلى الحكم في إثيوبيا، فإن ذلك على الأغلب لن يغير في الأمر شيئاً بالنسبة لمصر". وأوضح أنه "على الرغم من أن أبي أحمد يتعامل في ملف سد النهضة بتشدد، ويحقق منذ عام 2018 انتصارات في هذه القضية على حساب مصر والسودان، لكن قبله كانت إثنية تيغراي تفعل ذلك، وهي من بدأت في تشييد السد أصلاً". وأضاف أنه "بالإضافة إلى نجاحها في موضوع السد، فإن لدى إثنية تيغراي خبرة في الحكم والسياسة منذ عام 1991، على عكس أبي أحمد الذي فشل سياسياً، ولم يحقق أي نجاح يذكر سوى في ملف سد النهضة، وكان ذلك على حساب مصر والسودان".
وُلد سد النهضة على يد إثنية تيغراي في عام 2011
ورأى شرف أن موضوع فوز أبي أحمد بجائزة نوبل للسلام عام 2019، بسبب الصلح مع إريتريا "سيسجل كسابقة تاريخية فريدة وغريبة من نوعها. فالرجل تصالح مع إريتريا، من أجل شنّ حرب على عدوهم المشترك أي إثنية تيغراي. وبالفعل استطاع محاصرتهم من الجنوب وإريتريا من الشمال، والاستيلاء على ميكيلي عاصمة إقليم تيغراي، وإجبار سكانها على الهروب إلى الجبال. لكن من الواضح أن إريتريا حصلت على ما تريده من الحرب، وسيطرت على مناطق من إقليم تيغراي تعتبرها جزءاً منها وكانت قد خسرتها في حربها مع إثيوبيا بين عامي 1998 و2000 ثم توقفت عند هذا الحد". وكشف أن "هناك ما يدور في الكواليس عن خلافات وعدم ثقة بين إثيوبيا وإريتريا، وهذا غالباً عامل حاسم في هزيمة أبي أحمد، فلو استمر الجيش الإريتري في الحرب لكان من ممكن أن يختلف الوضع بالنسبة لأبي أحمد".
وعن إمكانية عقد جولة جديدة من المفاوضات بين السودان ومصر وإثيوبيا، برعاية الاتحاد الأفريقي، كما اقترحت الولايات المتحدة، أكد أستاذ القانون العام أيمن سلامة، لـ"العربي الجديد"، أن ذلك "أمر مستبعد، لأن السودان الآن خارج الاتحاد الأفريقي، بقرار من مجلس السلم والأمن الأفريقي، وبالتالي مع من سيكون التفاوض؟". وقال إنه "تم تعليق عضوية السودان في منظمة الاتحاد الأفريقي، وبموجب ذلك التعليق فإن السودان لا يشارك في أي نشاط أو اجتماعات أو فعاليات للمنظمة، ولا يحضر في أي ملتقى لأي هيئة، أو وكالة، أو مؤسسة رئيسية، أو فرعية في منظمة الاتحاد الأفريقي". وأضاف: "وإذا كان الاتحاد الأفريقي هو الذي يرعى ولا يتوسط في المفاوضات الثلاثية بين الدول المتنازعة (مصر وإثيوبيا والسودان)، فكيف يكون هناك مفاوضات ورعاية من الاتحاد الأفريقي، مع مشاركة دولة عضويتها معلّقة في المنظمة".
وأشار سلامة إلى أنه "منذ بدء ماراثون المفاوضات السياسية والمشاورات الفنية بين أطراف النزاع الثلاثة حول سد النهضة، فور إعلان أديس أبابا بدء تشييد سد النهضة في إبريل/نيسان عام 2011، ثبت للقاصي والداني أن المفاوض الإثيوبي لا يتفاوض بحسن نيّة أو جدية، كما أنه لا يقدّم التنازلات المعهودة في المفاوضات لأطراف النزاع. وتفوّق المفاوض الإثيوبي على الجميع في استنزاف الوقت لغرض رئيسي واحد هو تحقيق مصلحته الذاتية من دون أدنى اعتبار لحقوق مصر والسودان، مما يشكل انتهاكاً جسيماً وسافراً لقواعد القانون الدولي العام وقانون المعاهدات الدولية في المقام الأول". وأوضح سلامة أن "محكمة العدل الدولية، الجهاز القضائي الرئيسي لمنظمة الأمم المتحدة، تعرضت في قضايا عديدة لمثل ذلك النهج الإثيوبي، فقد سبق للمحكمة أن شددت في أكثر قضية على كيفية عقد المفوضات بين أطراف النزاع الدولي، فضلاً عن التزامات المفاوضين بموجب أحكام القانون الدولي".
وأشار أستاذ القانون الدولي إلى أن "المفاوضات والمشاورات بين الدول المتنازعة حول تشغيل وإدارة سد النهضة منذ عام 2011، لم تفلح سوى في التوصل لإبرام المعاهدة الدولية الثلاثية بينهم في الخرطوم في 23 مارس/آذار 2015. وهي الاتفاقية الإطارية لإعلان المبادئ لسد النهضة، والتي لا يزال يعوزها اتفاق فني تفصيلي يترجم المبادئ العشرة التي وردت في الاتفاقية الإطارية، إلى قواعد تطبيقية تنصب على كيفية تشغيل وإدارة سد النهضة".
وأوضح سلامة أنه على الرغم من أن "اتفاقية إعلان المبادئ معاهدة دولية ملزمة نافذة، وليست إعلاناً للنوايا السياسية كما ادّعى البعض، إلا أن الاتفاقية الإطارية تعني حاجتها لاحقاً إلى اتفاق فني أو بروتوكول فني يترجم ما ورد من مبادئ عامة إلى قواعد عامة تفصيلية محددة، يتم تطبيقها وتنفيذها في إدارة سد النهضة، في كل القواعد الفنية الخاصة بالإدارة والتشغيل والتصريف والتحكم في المياه وغيرها".
من جهته، قال الخبير الاقتصادي أحمد السيد النجار، إن "قضية سد النهضة والتي تنقل التحكم في شريان حياة مصر وروحها ووجودها إلى أيد عنصرية ومعادية لن تتورع في سنوات الجفاف عن إلحاق أضرار جسيمة وكارثية بمصر، لن يعالجها المجتمع الدولي غير المعني بالتهديد الكبير الذي تتعرض له مصر، طالما لم يتحول إلى أزمة إقليمية كبرى تجبر المجتمع الدولي على الاهتمام ووضع القانون الدولي والاتفاقيات المنظمة كأساس لحل الأزمة. بالتالي فالأمر كله ملقى على عاتقنا ويتعلق بما نفعله والمنطق الحاكم هنا هو: ما حك جلدك مثل ظفرك فتولّ أمر نفسك".
تعليق عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي يعرقل التفاوض
وأضاف النجار في كتابه الصادر أخيراً عن دار "المرايا" بعنوان "نهر النيل.. الأساطير والحقوق والصراع المصري ـ الإثيوبي"، أنه "لن يصعب على مصر مواجهة دولة تعتبر علاقاتها مع كل جيرانها قابلة للانفجار، ومصيرها هي ذاتها هو التفكك بشكل شبه حتمي لأنها مكونة من خليط من الأعراق المتصارعة والتي ينتشر التمييز العنصري والتنموي بينها وتتمركز كل مجموعة عرقية في منطقة محددة. وهو أمر أفضى في كل البلدان المشابهة إلى التفكك حتى في البلدان المتقدمة في أوروبا. تحركت الخارجية المصرية بشكل جيد، حتى لو كان متأخراً، لكن الفعل الآن لجهات أخرى لحماية شريان حياة مصر وسر وجودها وروح شعبها في لحظة مصيرية استثنائية، تعلو فيها شرعية الدفاع عن وجود الأمة وشريان حياتها على كل ما عداها".
من جهته، ذكر الأستاذ في جامعة القاهرة عاطف محمد، في إحدى الندوات التي عقدت في وسط القاهرة عن أزمة سد النهضة الأسبوع الماضي، إنه "كلما تكرست الأزمة الداخلية في إثيوبيا وشعر أبي أحمد بخطر طرده من السلطة وسقوط سياساته، كلما زادت المبالغة في تحويل معركة سد النهضة إلى معركة وجود يوهم فيها الشعب الإثيوبي أنه يصنع لهم مستقبلهم ببناء السد السحري، الذي يسبب مشكلات بنيوية لكل من مصر والسودان. ولن يخفف في نفس الوقت من مخاطر الحروب الأهلية بين الأعراق في البلاد التي تواجه جذوراً استبدادية واستحواذاً مركزياً وأحقاداً قديمة ونعرات ثأرية دموية". وأضاف أن "الخاسر الأكبر من كل ما يجري الآن هو شعب إثيوبيا الذي لا يختلف عن شعب مصر أو السودان في معاناته من الماضي ورغبته في الوصول إلى حياة آمنة كريمة، ينجو فيها من الفقر والجهل والمرض ويرى فيها النور لمستقبل أفضل في حوض النيل العظيم الذي بوسع مياهه، إذا أحسنا إدارتها وتوزيعها والتعاون المتشارك فيها، أن تكفي كل شعوب الحوض".
وعلى صعيد المفاوضات في قضية سد النهضة، حمل شكري في حقيبته وهو متوجه إلى العاصمة واشنطن، طلباً مصرياً لأميركا من أجل الضغط على أديس أبابا في هذا الملف، لكن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، عبّر عن موقف بلاده من هذه القضية، في المؤتمر الصحافي الذي عقده مع نظيره المصري في واشنطن قبل أيام. وقال إن واشنطن "تدعم بدء جولة مفاوضات جديدة بين الأطراف الثلاثة (مصر والسودان وإثيوبيا) من دون شروط مسبقة".
من جهتها، أفادت الخارجية المصرية في بيان حول زيارة شكري بأنه "في ما يتعلق بسد النهضة الإثيوبي، جددت الولايات المتحدة تأكيد دعم الرئيس جو بايدن للأمن المائي لمصر، ودعت إلى استئناف المفاوضات حول اتفاقية بشأن سد النهضة وبرعاية رئيس الاتحاد الأفريقي، اتساقاً مع البيان الرئاسي الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 15 سبتمبر/أيلول الماضي، واتفاق إعلان المبادئ لعام 2015".