برز في المشهد السياسي الجزائري في الفترة الأخيرة تحول عدد من النشطاء المستقلين في الحراك الشعبي، إلى الانخراط في أحزاب سياسية، أغلبها أحزاب تعاني من فراغ قيادي يتيح لهؤلاء النشطاء التموقع في القيادة.
وتتباين التفسيرات السياسية لهذا التحول، بين اقتناع بضرورة التنظّم السياسي، وبين الرغبة في توجيه المجهود السياسي بناء على تجربة الحراك الشعبي. لكن ذلك لا يلغي مخاوف بشأن أن تكون السلطة بصدد استيعاب هؤلاء النشطاء داخل مشهد حزبي غير مؤثر.
بعد فترة من النشاط المستقل المدني والسياسي، أعلن عضو هيئة الدفاع عن معتقلي الرأي والحراك الشعبي المحامي عبد الرحمن صالح، انخراطه في حزب اتحاد القوى الديمقراطية والاجتماعية.
عبد الرحمن صالح: أي مبادرة سياسية يقودها حزب ستكون أقوى وأكثر تأثيراً من أي حركة فردية
وقال صالح، لـ"العربي الجديد"، إن قراره جاء نتيجة خلاصة تشكلت لديه بعد فترة من النضال المستقل، مؤكداً أن "العمل الفردي والمستقل مهما كان متقناً وهادفاً، إلا أنه سيبقى عملاً غير ناجع، لا ينتج شيئاً سوى بعض الصوت بالتعبير الحر، بينما الانتظام في إطار سياسي مهيكل، هو ما يسمح بتضافر الجهود من أجل تحقيق الأهداف النضالية المشتركة".
ثمار النشاط السياسي المنظم أكثر نضجاً
صالح، الذي أصبح الأمين العام المساعد في الاتحاد، رأى أن "أي مبادرة سياسية يقودها حزب ستكون أقوى وأكثر تأثيراً من أي حركة فردية، وتنظّم النشطاء في أحزاب وأطر سياسية حتمية وليست فقط قناعة، لأن ثمار النشاط السياسي المهيكل والمنظم والجماعي تكون أكثر نضجاً"، مضيفاً أن "الأحزاب تشكل الإطار القانوني الشرعي والرسمي الذي يمكن للأفراد العمل والنضال من خلاله، وحتى في حال قررت السلطة أن تتحاور، فإنها تتحاور مع أحزاب وليس مع أفراد".
وانضم إلى الصف القيادي في الحزب نفسه، سمير بلعربي، وهو ناشط سياسي برز قبل الحراك الشعبي وخلاله، وسُجن أكثر من مرة بسبب مواقفه السياسية المعارضة.
لكن بلعربي لم يعد قادراً على التصريح والتعبير عن أي مواقف من دون العودة إلى قيادة الحزب، وهذه واحدة من متغيرات الالتزام الحزبي. فكثير من المواقف وردود الفعل بشأن تنظم النشطاء في الأطر الحزبية، في الفترة الأخيرة، تعتبر أن ذلك سيدفع هؤلاء إلى خسارة تدريجية لالتزاماتهم مع المسألة الديمقراطية التي ستصبح خاضعة للتقدير الحزبي، ناهيك عن اعتبار الانتظام في أحزاب سياسية لن يضيف شيئاً للمشهد السياسي والمطلب الديمقراطي، وأن البيئة السياسية الجزائرية ستطحن هؤلاء النشطاء في لجة معترك حزبي مرتبك وصوري بحسب هذه المواقف.
لكن الناشط عبد الكريم زغيليش، الذي نشط لفترة بشكل مستقل، قبل أن يقرر منذ أشهر قليلة الانخراط في حزب الاتحاد من أجل التغيير والرقي، والذي تقوده القاضية السابقة زبيدة عسول، يرفض هذه التقديرات.
العمل السياسي دائماً جماعي
وأكد زغيليش، لـ"العربي الجديد"، أنه "لا يوجد شيء اسمه العمل السياسي الفردي، فالعمل السياسي دائماً جماعي، وعندما يجتمع المواطنون لنفس الهدف السياسي، يسمى حزباً". وأضاف: "الحزب يعطي إطاراً للناس الذين لديهم نفس الاتجاه السياسي والفكر السياسي، وهو مجرد أداة عمل وليس هدفاً".
ورداً على الذين يقولون إن المناخ السياسي ليس مناسباً لنشاط سياسي في الجزائر، قال إن "المناخ لم يكن قط مناسباً ولن يكون أبداً مناسباً، ولن يتغير بمجرد الانتظار. أنا قررت وانضممت إلى حزب يعبّر عن مواقفي، وفي مقر حزبنا لا توجد صورة لـ(الرئيس الجزائري عبد المجيد) تبون".
اللافت أن أغلب النشطاء الذين قرروا الخيار الحزبي أخيراً، اختاروا الانخراط في أحزاب فتية، أو تعاني نسبياً من فراغ قيادي وهيكلي، ويفهم ذلك على أنها إمكانية تتيح لهؤلاء النشطاء التمركز في القيادة والقفز إلى صدارة الهيكل القيادي، من دون المرور على السلم النضالي والقاعدي الذي يتطلب بعض السنوات.
وهذا يقلب المعادلة السياسية من حيث إن هؤلاء النشطاء سيعتبرون أنفسهم رافداً للحزب، ويقع على عاتقهم الترويج له وإعادة صياغة حضوره في المشهد ومواقفه، من دون أن يكون للحزب أي فضل عليهم. وتذهب بعض التفسيرات إلى أبعد من ذلك، وتفترض وجود دافع من قبل جهات في السلطة لاستيعاب انتقائي للنشطاء الذين أمكنهم تجاوز المواقف الراديكالية.
بحث عن ملجأ سياسي
وعلى الرغم من التجارب التي برزت أخيراً لتنظم وانخراط نشطاء في أحزاب سياسية، قد تشجع نشطاء آخرين على نهج الطريق نفسه، إلا أن بعض التفسيرات السياسية لظاهرة انخراط النشطاء في الأحزاب السياسية، تفسر الأمر على أنه بحث عن ملجأ سياسي أكثر منه قناعة نضالية لأجل مشروع سياسي يحمله هذا الحزب أو ذاك، وأن سعي بعض النشطاء للتنظم تحت يافطة حزب سياسي معتمد، قد يحررهم ويجنبهم تبعات النشاط غير المؤطر في ظل البيئة السياسية المغلقة.
وفي السياق أكد الناشط نور الدين خدير، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "غياب رؤية واضحة ومشروع متكامل هو ما يمكن أن يميز هذه المرحلة، لأن هذا التوجه بالنسبة لبعض نشطاء قد يكون بحثاً عن ملجأ أكثر منه مشروع سياسي".
توقع إسلام بن عطية فشلاً مسبقاً لتجارب انخراط النشطاء في أحزاب سياسية مستهلكة
وأضاف أن "هناك تفكيراً مشروعاً في استغلال الفضاءات الممكنة للتعبير عن الرأي واقتراح البديل، ومنها الانخراط في أحزاب كملجأ لممارسة الفعل السياسي وتفادي الركود، خصوصاً بعد توقف المسيرات وانتهاء موجة الحراك، لكن يقابله وجود بيئة سياسية وإعلامية شبه منغلقة ناهيك عن انعدام آمال اعتماد الحزب".
وتابع أنه "بسبب هذا الوضع، نجد أن هناك عدداً كبيراً من النشطاء يفضّلون البقاء خارج المشهد الحزبي والرسمي لتفادي تبعات قد تنعكس سلباً على رصيد أصحابها، وتقضي على كل مشروعية في حالت عرفت الساحة تغييراً".
في المقابل، يتمسك نشطاء آخرون في الحراك الشعبي، برغبتهم في الاستقلال بأحزاب تحمل مشروعاً ملتزماً بالمسألة الديمقراطية، من دون التفاف سياسي.
ومنذ فورة الحراك الشعبي حاول الناشط البارز إسلام بن عطية، تأسيس حزب سياسي يضم شباب الحراك الشعبي ونشطاءه، وله برنامجه السياسي، لكنه اصطدم برفض السلطات منحه الاعتماد وعرقلة تأسيس الحزب. وعلى الرغم من قناعته بضرورة العمل والتنظم الحزبي، فإن بن عطية اعتبر، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه لا طائل من وراء الانخراط في أحزاب "مستهلكة"، طالما أن ذلك لا يسهم في بروز طبقة وخطاب سياسي جديد.
وقال إن "أي عملية سياسية تبنى على الأحزاب، لكن في الحالة الجزائرية الأمر يتعلق بعاملين، حالة الانسداد السياسي والجمود التي تشرف عليها السلطة وتتمادى في خنق الحريات وانتهاكها بشكل متصاعد، وهذا ما يجعل هامش تحرك الأحزاب ضيقاً جداً".
وأضاف: "التساؤل الأهم هو نوع الخطاب السياسي والنهج العام لهذه الشخصيات المستقلة بعد انخراطها، هل ساهمت في ولادة طبقة سياسية جديدة بأفكار وخطاب مغاير، أم أن هذه الشخصيات ضحية لاستيعابها في أحزاب سياسية مستهلكة واجترار نفس الخطاب في مشهد ديمقراطي مفبرك؟".
وتوقع بن عطية فشلاً مسبقاً لتجارب انخراط النشطاء في أحزاب سياسية يصفها بالمستهلكة. وقال: "أعتقد أن بعض الإطلالات الإعلامية الأولى لهؤلاء أكدت أننا بصدد عملية استيعاب وتغيير في الأهداف أملته حالة اليأس والإحباط بعد فشل الحراك في تحقيق أهدافه وجعلت البعض يمارس الواقعية بعيداً عن الواقع وبمنطق جربته كثير من التشكيلات الحزبية".