انتفاضة كل فلسطين نموذجاً لفشل المشروع الصهيوني

30 مايو 2021
انتفض الفلسطينيون في الداخل لأجل القدس وغزة وضد الابرتهايد (أحمد غرابلي/فرانس برس)
+ الخط -

لا يمكن فهم ما يحدث من انتفاضة؛ بكل معانيها؛ في كل مدن فلسطين من القدس إلى غزة مرورا بكل مدن الضفة الغربية ومدن الداخل الفلسطيني، من مواجهات وإضراب وعصيان مدني ومقاومة عسكرية من دون التطرق للفضاء الفلسطيني العام الذي تتحكم فيه دولة الاحتلال الإسرائيلي، وتسيطر عليه بالمطلق من دون رادع أو حساب منذ النكبة عام 1948، التي شكلت منعطفا تاريخيا في حياة الفلسطينيين، الذين تعرضوا لكافة اشكال التطهير العرقي من مجازر وتهجير قسري ونزوح للسكان في الداخل الفلسطيني واستيطان واحلال شكلا أولوية للحركة الصهيونية في فلسطين التاريخية.

شكلت أحداث نكبة فلسطين وما تلاها من تهجير مأساة كبرى للشعب الفلسطيني، لما مثلته وما زالت هذه النكبة من عملية تطهير عرقي حيث تم تدمير وطرد شعب بكامله وإحلال جماعات وأفراد من شتى بقاع العالم مكانه، وتشريد ما يربو عن 800 ألف فلسطيني من قراهم ومدنهم من أصل 1.4 مليون فلسطيني كانوا يقيمون في فلسطين التاريخية عام 1948 في 1,300 قرية ومدينة فلسطينية، وانتهى التهجير بغالبيتهم إلى عدد من الدول العربية المجاورة إضافة إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، فضلاً عن التهجير الداخلي للآلاف منهم داخل الأراضي التي أخضعت لسيطرة الاحتلال الإسرائيلي عام النكبة وما تلاها بعد طردهم من منازلهم والاستيلاء على أراضيهم.

سيطر الاحتلال الإسرائيلي خلال مرحلة النكبة على 774 قرية ومدينة فلسطينية، حيث تم تدمير 531 منها بالكامل وما تبقى تم اخضاعه إلى كيان الاحتلال وقوانينه، وقد رافق عملية التطهير هذه اقتراف العصابات الصهيونية أكثر من 70 مجزرة بحق الفلسطينيين أدت إلى استشهاد ما يزيد عن 15 ألف فلسطيني. بعد 73 عاما على النكبة تضاعف الفلسطينيون أكثر من 9 مرات.

ورغم أن الفلسطينيين منذ اتفاق أوسلو عام 1993 ارتفعت آمالهم بإمكانية نهاية النكبة كما سوق لهم، لكن على ارض الواقع أسست تلك المرحلة الفرصة أمام الصهيونية نحو المزيد من الاستيلاء علي الأراضي بالاستيطان والتهويد، وعملت على مرحلة جديدة من تهميش أجزاء مهمة من الشعب الفلسطيني في داخل فلسطين التاريخية وفلسطينيي الشتات، ومع ذلك استمرت الصهيونية في تكريس عقيدتها في التهويد والاحتلال وسياسات الفصل العنصري ليس في مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني فحسب بل تمارسه علي السكان الفلسطينيين داخل الخط الأخضر والقدس الشرقية.

تلك السياسات الاستعمارية الاستيطانية لدولة الاحتلال والمتعلقة بالأراضي شكلت ركيزة رئيسة لنظام الفصل العنصري الذي تنتهجه الصهيونية في التعامل مع الفلسطينيين حتى الآن كما حدث في مسألة الشيخ جراح وهو ما أدى إلى انفجار الأوضاع في القدس وغزة وكل مدن فلسطين منذ منتصف إبريل/نيسان الماضي حتى بعد وقف إطلاق النار المؤقت على غزة في 21 مايو/ أيار الحالي. هل توقفت الحرب، هل هدأ الداخل الفلسطيني الذي أعلن إضرابا عاما في البلاد إلى أجل غير مسمى، هل توقفت دولة الاحتلال عن مصادرة الأراضي في القدس أو تهجير حي الشيخ جراح؟ الإجابة بالقطع لا.

لا تزال دولة الاحتلال تسيطر على فلسطين من خلال ممارسات الاستثناء، وحالات الطوارئ الدائمة التي شرعت بها منظومة كاملة من القوانين للضرورة والآمن، واستثناءاتها المزعومة هذه تضعها فوق القانون المحلي والدولي وخارجه، عندما يتعلق الأمر بالمواطنين الفلسطينيين، وكذلك الرعايا المحتلين، والمحاصرين، والعاملين، واللاجئين. وأتطرق، على خطى أغامبين، إلى التقنيات الحكومية الإسرائيلية التي تنتظم في فئات عنصرية مختلفة موجّهة نحو الفلسطينيين -المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل واللاجئون الداخليون (فلسطينيو 1948) والرعايا الفلسطينيون المحتلون (فلسطينيو 1967) والفلسطينيون المقيمون في القدس والشتات الفلسطيني- من خلال التقنيات الحكومية في الفصل والإقصاء والمراقبة، التي تعود بجذورها إلى "الخطة دال" للعام 1948.

منذ ذلك الحين وحتى الوقت الحاضر، كل تلك الأنماط من التشريعات والقوانين والإجراءات المتنوعة والمتعددة تعمل كلها للسيطرة المستمرة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، والحصار المفروض على قطاع غزة، ومنع عودة اللاجئين الفلسطينيين، ومنع عودة اللاجئين الداخليين إلى قراهم المهجورة، فضلاً عن تقنيات إدارة السكان والمراقبة في فلسطين الأربعينية وفي الأراضي المحتلة الستينية على حد سواء، وللقدس سلة من القوانين والإجراءات المتنوعة فبعد ضمها عام 1967 الذي يعد في حد ذاته انتهاكا للقانون الدولي، لم يمنح سكان المدينة الفلسطينيين الجنسية الإسرائيلية بشكل تلقائي. على العكس من ذلك، فقد فرض على هؤلاء الفلسطينيين وذرياتهم الذين تم تسجيلهم في إحصاء عام 1967 بطاقة الإقامة الدائمة في القدس، وأعلنت سلطات الاحتلال "أن الإقامة الدائمة، على عكس المواطنة، هي مسألة رهن بالظروف التي يعيشها الفرد، وعندما تتغير الظروف، يتم سحب تصريح الإقامة، وينتهي حقهم بالتواجد في المدينة.

النكبة الفلسطينية ليست حدثاً تاريخياً فحسب لكنها دائمة ومستمرة، وأدت بطبيعة الحال للحروب والانتفاضات والثورات التي لا حد لها في فلسطين وحولها في الأردن ولبنان. الصراع مستمر في كل يوم، فتارة يعبر عن نفسه حول القدس وتارة حول يهودية الدولة وتطهيرها من العرب، وتارة حول غزة والحروب عليها والضفة وتهويدها وتارة ينتقل الصراع من ضرورة وآد أو احتواء ثورات الربيع العربي، أو ضرب إيران عسكريا أو حصارها من خلال التطبيع مع دول الخليج ودعم النظم الاستبدادية في المنطقة.

لذا فإن الصهيونية قامت ولا تزال على هدفين، الاستيلاء على الأرض بالقوة وهذا تحقق بالقوة العسكرية، بدأ في 1948 واستكمل في 1967. والنقطة الثانية هي إنهاء الوجود الفلسطيني البشري عبر التطهير العرقي كما جرى عام 1948وجزئياً عام 1967. حتى يومنا هذا بدعاوى كثيرة ومتعددة منها "آمن إسرائيل" والحفاظ على "يهودية الدولة " من منطلق الدفاع عن النفس، ذلك هو ما قامت عليه الصهيونية في فلسطين وتحت ستار وجود أمة يهودية ودولة يهودية يتم تطبيق نظام استعماري – استيطاني يحتل بطبيعته السكان الأصليين (الفلسطينيين) ويسعى بحكم طبيعته تلك الى محو وجودهم وثقافتهم الأصلية بدءا من الفصل العنصري باعتباره وسيلة لذلك وصولا الي الإبادة الجماعية كما يفعلون منذ عام 1948 حتى انتفاضة القدس 2021.

وفقا لكل القوانين والأعراف الدولية فما يحدث في فلسطين من سياسات التطهير العرقي الذي تمارسه دولة الاحتلال يخضعها وفقا لاتفاقيات جنيف الأربع بشأن الحرب وملحقاتها لما يعرف بارتكاب "جرائم حرب" حيث تقوم في أوقات النزاع باستخدام أساليب حربية من شأنها نشر الرعب بين السكان المدنيين كما حدث في غزة طيلة الأيام الماضية، كما تقوم بالترحيل القسري للسكان في القدس وتهجيرهم كما يحدث في البلدة القديمة والقدس الشرقية والشيخ جراح، بجانب مصادرة الأراضي الفلسطينية في عام 1967 والاستيلاء علي الممتلكات وتهجير سكانها فهي تقوم بنقل بعض أو كل السكان الفلسطينيين من مكان لمكان داخل المناطق المحتلة أو خارجها كما يحدث في الضفة الغربية ومدن الداخل الفلسطيني.

في انتفاضة القدس والتي تزامنت مع ذكري النكبة عام 1948 أعلن الشعب الفلسطيني في كل مناطق فلسطين التاريخية رفضه لكل تلك السياسات التي تنتهجها دولة الاحتلال معلنا رفضه التام لترك الأرض واخلائها، ورغم موجات الهجرة الممنهجة لليهود الى أرض فلسطين فإن عدد الفلسطينيين يتجاوز عدد اليهود الإسرائيليين بزيادة تقدر بـ ١٦٦ ألف فلسطيني أي بنسبة 56% للشعب الفلسطيني مقابل 44% للسكان اليهود. ورغم محاولات دولة الاحتلال بكل الطرق استمرارها في سياسات التطهير العرقي ليس عن طريق الإبادة الجماعية الواسعة كما تريد ولكن عبر احتواء العنصر الديمغرافي كفصل غزة عن الضفة، واحتواء الفلسطينيين في الداخل بـ"أسرلتهم"، والوسيلة الثالثة هي احتواء الضفة الغربية من خلال الحكم الذاتي الهزيل تحت السيطرة «الإسرائيلية»، كل تلك الأشكال فشلت في انتفاضة القدس الحالية كما رأيتم فالقدس ملتحمة بغزة، والضفة تكمل غزة في نضالها، وفلسطينيو الداخل يلتحمون بفلسطين التاريخية، وأعلنت الانتفاضة الحالية سقوط خيارات التسوية وخيارات الدولتين الذي فرض على الفلسطينيين منذ التسعينيات وثبت فشله عمليا.

هذا النظام الاستيطاني والاستعماري يستند إلى سلسلة من الامتيازات العنصرية المقدمة للقادمين اليهود الجدد والقدامى هدفه ربط أكبر قطاع من مواطني الدولة الإسرائيلية من اليهود مع العنصرية وسياسة الاضطهاد والطرد، ولا يوجد في المدى المنظور ما ينبئ بمقدرة الصهاينة أو النظام الإسرائيلي على التخلي عن هذا الوضع. معضلة الصهيونية أنها سائرة نحو مزيد من الصدامات بينما ضحاياها من الفلسطينيين والعرب سائرون نحو مزيد من التمسك بالحقوق والصمود والبقاء على الأرض والتعايش مع التحدي.. في سياساتها تكرر إسرائيل النكبة كل يوم، وتخلق تواصلاً جباراً بين كل جيل والجيل الفلسطيني والعربي الذي يليه. ولا يوجد أمام الحركة الصهيونية للخروج من مأزقها ومعضلتها ليست الأخلاقية فحسب، بل القانونية إلا واحد من حلّين، إما أن تنهي احتلالها بشكل فوري وتلبي حقوق الشعب الفلسطيني في فلسطين التاريخية بهدم كل مظاهر الفصل العنصري فوراً، أو ستكون هنالك دولة واحدة ديمقراطية على كل أرض فلسطين.

المساهمون