بدأ العد العكسي للانتخابات البرلمانية الجزائرية المبكرة، المقررة في 12 يونيو/ حزيران الحالي، وفيما تسابق الأحزاب السياسية الـ28 المشاركة في الاستحقاق وأكثر من 800 قائمة للمستقلين، الزمن لإنهاء آخر تجمّعاتها وأنشطتها الدعائية في خضم الحملة الانتخابية، يزداد الضغط والحسابات السياسية للمآلات التي ستنتهي إليها أول انتخابات برلمانية بعد الحراك الشعبي في فبراير/ شباط 2019، في ظل رهانات مختلفة لكل طرف على هذه الانتخابات، فالسلطة تسعى لتثبيت الخيار الدستوري، والمشاركون يريدون إثبات موقع، فيما تراهن كتلة المقاطعين على العزوف الانتخابي.
وتأخذ هذه الانتخابات أهمية سياسية بالغة، لكونها أول انتخابات برلمانية تجري بعد الحراك الشعبي الذي أطاح بحكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وغيّر الكثير في المعادلة السياسية في الجزائر. وتنفرد هذه الانتخابات بكونها الأولى التي تشرف عليها هيئة مستقلة للانتخابات في تاريخ الاستحقاقات الانتخابية في الجزائر، إذ منح الدستور الجديد وبعده القانون الانتخابي الجديد، الهيئة كامل صلاحيات تنظيم الانتخابات وترتيباتها السياسية والقانونية والفنية، والتي تم سحبها من وزارة الداخلية، بدءاً من تسلّم قوائم المرشحين والبت فيها وقبول أو رفض المرشحين والقوائم، إلى تسجيل الناخبين في البلديات، وصولاً إلى الإشراف على الحملة الانتخابية وتسيير مكاتب الاقتراع حتى إعلان النتائج الكاملة.
هذه الانتخابات هي الأولى التي تشرف عليها هيئة مستقلة
وعلى الرغم من أن هذه التجربة الأولى من نوعها بالنسبة للهيئة المستقلة ليست مثالية على الصعيد التنظيمي، بحكم أنها شهدت بعض العوائق الفنية والارتباك في تطبيق القانون الانتخابي، وبعض المشاكل المرتبطة بغموض مواد قانونية، إلا أن الأمر يُعد تطوراً إيجابياً في مسار العملية الانتخابية في الجزائر، لجهة تحييد الإدارة وإحداث قطيعة مع الممارسات السابقة التي كانت تُفقد الانتخابات ونتائجها المصداقية السياسية. ويُعدّ استحداث الهيئة المستقلة للانتخابات أحد أبرز المطالب التي نجحت قوى المعارضة السياسية في تحقيقها، إذ كانت قد طالبت باستحداثها للمرة الأولى في وثيقة مؤتمر المعارضة، الذي عقد في يونيو 2014.
وتشهد الانتخابات أيضاً عودة بعض الأحزاب السياسية التي كانت قد قاطعت واعترضت على المسار الانتخابي الجديد منذ بدايته في ديسمبر/ كانون الأول 2019، أبرزها حركة "مجتمع السلم"، أكبر الأحزاب الإسلامية، التي كانت قد قاطعت الانتخابات الرئاسية التي جرت في نهاية عام 2019، كما اعترضت على دستور نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، ودعت في تلك الفترة إلى إجراء حوار وطني للتفاهم بين السلطة والمعارضة على توافقات سياسية مستقبلية. كما عادت أحزاب أخرى إلى المسار الانتخابي، كـ"جبهة العدالة والتنمية" و"حركة النهضة" وغيرها.
بيد أن الانتخابات ستشهد مشاركة عدد من الأحزاب السياسية للمرة الأولى في المسار الانتخابي، بعد سنوات من المقاطعة ورفض المشاركة في الانتخابات التي كانت تنظم في عهد بوتفليقة. أبرز هذه الأحزاب "جيل جديد"، الذي يقوده جيلالي سفيان، والذي يعتبر أن انخراطه في المسار الانتخابي مرتبط بالتغييرات الكبيرة داخل السلطة، وانكسار النظام الذي كان يحكم البلاد في عهد بوتفليقة. ويقول سفيان، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن "هناك متغيرات سياسية حقيقية حدثت بفعل الحراك الشعبي، فالنظام الذي كان يحكم لم هو يعد نفسه، والنظام السياسي السابق قد انكسر من الداخل وسيبنى حتماً نظام جديد، ويتوجب أن نكون شركاء في بناء هذا النظام بفكر جديد، ويتعيّن على القوى السياسية الجادة أن تكون حاضرة ومشاركة وشريكة في إعادة البناء"، مشيراً إلى أن "الأوضاع لن تتغير في البلاد من دون تحمّل النخب السياسية مسؤوليتها ومشاركة حقيقية للمواطن في اختيار مرشحيه للبرلمان".
يشهد الاستحقاق مشاركة أحزاب كانت قد قاطعت المسار الانتخابي
وإذا كانت هذه الأحزاب قد راجعت مواقفها إزاء المسار الانتخابي، فإن الانتخابات الحالية ستشهد للمرة الأولى وجود كل مكونات التيار الديمقراطي خارج السباق الانتخابي، فستة أحزاب سياسية تمثل الأضلاع الرئيسة للكتلة الديمقراطية قررت مقاطعة انتخابات 12 يونيو، بسبب التزامها مع الحراك ورفضها إجراء الانتخابات قبل حصول حوار وطني للتوافق على خريطة طريق انتقالية. هذه الأحزاب هي "جبهة القوى الاشتراكية" و"التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية"، وهما أبرز أحزاب المعارضة ويتمركزان في منطقة القبائل (ذات الغالبية من السكان الأمازيغ)، و"الحركة الديمقراطية الاجتماعية" (وريث الحزب الشيوعي سابقاً)، وحزب "العمال"، وحزب "العمال الاشتراكي"، و"الاتحاد من أجل التغيير"، والحزبان الأخيران تسعى السلطات لتعليق نشاطهما تمهيداً لحلهما، بسبب ما تعتبره مخالفتهما للقوانين. ويضاف إلى هذه الأحزاب المقاطعة حزب غير معتمد، هو "الاتحاد الديمقراطي"، الذي يقوده الناشط البارز كريم طابو.
لكن بعض القراءات السياسية الفاحصة لموقف الكتلة الديمقراطية، تعتبر أن موقف المقاطعة يطرح مسألة مثيرة للجدل عن دوافع قرار مقاطعة انتخابات تشرف عليها للمرة الأولى هيئة مستقلة، وتقلّص فيها تدخّل وهيمنة الإدارة وسلطات وزارة الداخلية، فيما كانت هذه الأحزاب تشارك بشكل مستمر في الاستحقاقات الانتخابية السابقة، والتي كان تزويرها مؤكداً لكونها تجري بتنظيم كامل من قبل وزارة الداخلية التي كانت تتلاعب بالنتائج. وبغض النظر عن المبررات السياسية التي ساقتها الأحزاب المقاطعة، بكونها فضّلت الاستمرار في الالتزام السياسي والأخلاقي مع الثورة الشعبية لحراك فبراير، فإن هناك تفسيرات تعتبر أن قرار المقاطعة هو الأقل كلفة لهذه الأحزاب، مقارنة مع موقف المشاركة، وتكتيك إنقاذ سياسي من انتحار مزدوج بحال قررت المشاركة. وهذه الأحزاب ستخسر الرهان الانتخابي لأن أغلبها محدودة الانتشار والتنظيم، بما فيها الحزبان البارزان "جبهة القوى الاشتراكية" و"التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية"، اللذان يبقى تمركزهما الأكبر داخل منطقة القبائل، وهي منطقة متمردة تسجل في الغالب أدنى نسب مشاركة، وبلغت في الاستفتاء الماضي نسبة 1 في المائة، إضافة إلى خسارة الموقف السياسي إزاء الحراك المستمر.
وإضافة إلى هذه القوى السياسية، تبدي مكونات الحراك الشعبي المختلفة في توجهاتها ومشاربها الأيديولوجية، اعتراضاً على إجراء الانتخابات البرلمانية، وتصف ذلك بالمسرحية السياسية التي ستسمح للسلطة بإعادة إنتاج مؤسسة نيابية خاضعة وعاجزة عن إحداث التغيير السياسي. هذا يعني أن الحراك بقي رهن الموقف نفسه الرافض للآلية الانتخابية منذ اندلاع الحراك الشعبي في 22 فبراير/ شباط 2019، بعد رفض إجراء الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في 19 إبريل/ نيسان 2019، وإحباط محاولة السلطة تنظيم الانتخابات الرئاسية في الرابع من يوليو/ تموز 2019، وهي انتخابات تم إرجاؤها إلى ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، ورفض قطاع واسع من مكونات الحراك المشاركة فيها. ودفع الحراك بعد ذلك إلى مقاطعة الاستفتاء على الدستور في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، ونجح في رفع مؤشر المقاطعة والعزوف عن صناديق الاقتراع إلى حدود 77 في المائة (سجلت نسبة المشاركة 23 في المائة).
وإضافة إلى اعتبار الانتخابات المقبلة جزءاً من خريطة طريق فرضتها السلطة لصالح تقديراتها السياسية، فإن مكونات الحراك الشعبي تعتبر أن الظروف السياسية المتوترة والتضييق الحاصل على الحريات وحالة الإغلاق التي تفرضها السلطة، لا توفر أي ظروف طبيعية لإجراء انتخابات نزيهة وشفافة. ويستند الحراك في هذا الموقف إلى رفض السلطة السماح لمجموعة من الأحزاب السياسية الفتية التي أنشأتها مجموعات من شباب الحراك بالنشاط السياسي، وهو ما يعتبره الناشط في الحراك سمير العربي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه "تعبير واضح عن رغبة السلطة في استبعاد كل قوة سياسية غير مضمونة في مواقفها بالنسبة للسلطة، ومستقلة في توجهاتها وخياراتها". ويضيف أن "الدليل على ذلك أن السلطة استبعدت شباباً وناشطين من الحراك قدّروا أن المشاركة في الانتخابات قد تكون آلية للتغيير، ورفضت ملفات ترشحهم للانتخابات، وهذا يعني أن السلطة تريد إجراء انتخابات فقط، ولا تستهدف منها تشكيل برلمان قوي بنواب مستقلين عن خيارات السلطة".
مكونات الحراك تعتبر أن الظروف السياسية المتوترة والتضييق على الحريات وحالة الإغلاق التي تفرضها السلطة، لا توفر أي ظروف طبيعية لإجراء انتخابات نزيهة
وإذا كانت القوى السياسية والمكونات المدنية المقاطعة للانتخابات المقبلة تراهن على تكرار إنجاز مقاطعة شعبية كبيرة لصناديق الاقتراع، كتلك التي شهدها الاستحقاقان السابقان، وبما يصب في رصيدها السياسي ويثبت صدقية موقفها وتقديرها السياسي بعدم حيازة المسار الانتخابي بالمجمل على إجماع شعبي، فإن باقي أطراف المعادلة السياسية تختلف رهاناتها من طرف إلى آخر. وبعيداً عن حسابات القوى المقاطعة، تتدافع أربعة رهانات أساسية لأربعة أطراف، فهناك قوى المعارضة الفاعلة والمشاركة في الانتخابات والتي كانت تتعرض للظلم السياسي والتزوير ضدها، كحركة "مجتمع السلم" مثلاً، والتي تراهن على أن تنصفها الانتخابات المقبلة لتثبت قوتها وانتشارها، ولتؤكد أن المقاعد التي كانت تحصل عليها في الاستحقاقات السابقة لم تكن تُعبّر مطلقاً عن رصيدها الشعبي الحقيقي. أما الطرف الثاني فهي أحزاب الموالاة التي كانت محسوبة على نظام بوتفليقة، والتي تبقى الانتخابات بالنسبة لها فرصة لتثبيت نفسها في الساحة السياسية، بعد فترة ارتباك كبيرة نتيجة الحراك الذي طالب بحل هذه الأحزاب، إضافة إلى حالة النزيف الكبير من الكوادر التي انسحبت منها. ويشير الكاتب والمحلل السياسي مولود ولد الصديق، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى أن "هناك طرفاً ثالثاً ومهماً دخل في قلب المعادلة الانتخابية هذه المرة بشكل غير مسبوق، وهي القوائم المستقلة التي فاق عددها الـ800 قائمة، وتفوّقت عددياً على مجموع القوائم الحزبية المقدّرة بأكثر من 600 قائمة"، مضيفاً أن "المستقلين هذه المرة يشكّلون رهاناً لإثبات عجز الأحزاب السياسية ووجود قطيعة بينها وبين الناخبين من جهة، ومن جهة أخرى تقديم المستقلين كبديل للكيانات الحزبية في البرلمان، وما ينبثق عن ذلك باتجاه حكومة الرئيس".
لكن القوائم المستقلة لا تشكل رهاناً لذاتها بقدر ما تمثّل أحد أبرز الرهانات التي أطلقتها السلطة لأجل تحييد ما أمكن من الأحزاب وتضييق الفرص عليها لمنع أي منها من الهيمنة على البرلمان، وإحداث توازن يسمح بتشكيل ائتلاف رئاسي يشكّل بموجبه الرئيس عبد المجيد تبون حكومة رئيس، بدلاً من أن تفوز قوى غير موالية بتشكيل الحكومة. هذا الرهان يبقى تقنياً بالنسبة للسلطة، مقابل الرهانات الحقيقية، وهي تثبيت الخيار الدستوري والانتخابي وتحييد نهائي لكل الخيارات الانتقالية التي كانت تطرحها قوى المعارضة. وفي هذه الحالة يصبح إنجاز الانتخابات البرلمانية في حد ذاته هو الهدف، إضافة إلى رهان خلق مؤسسة برلمانية جديدة تدعم السلطة السياسية في خياراتها المستقبلية وفي إعادة بناء مؤسسات الدولة وفق التقديرات التي تعتقدها السلطة. ويبقى الرهان الأخير هو إعادة الثقة بين الناخب وصندوق الاقتراع، عبر ضمان حد أقصى من الشفافية والنزاهة في سير ونتائج الانتخابات، ورفع نسبة المشاركة وتجاوز صدمة المقاطعة القياسية التي تلقتها السلطة في استفتاء الدستور في نوفمبر الماضي، خصوصاً بالنسبة لمنطقة القبائل التي تبقى عقدة أخرى بحد ذاتها بالنسبة للسلطة كما للأحزاب السياسية.