كثّف اليمين المتطرف في أوروبا، خلال الأسابيع الأخيرة، مساعيه لاستغلال بعض الأزمات لزيادة شعبيته في طريقه نحو انتخابات البرلمان الأوروبي، في 9 يونيو/ حزيران المقبل، في ظل تقارير تفيد بمكاسبه مستغلاً أزمات القارة.
وأظهرت دراسة أجراها الشهر الماضي "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية" أن اليمين المتشدد في دول أوروبا يحقق فعلياً بعض المكاسب، وعلى أرضية أن التصويت تحسمه الآن الأزمات، وليس مقياس اليمين واليسار التقليديين.
ويسعى اليمين المتطرف إلى ركب موجات الأزمات المتعلقة بسياسات أوروبا المناخية، وبأزمة الفلاحين والهجرة، وبالتضخم، وبالحرب في أوكرانيا، ولخصت تصريحات نائب رئيس كتلة اليسار والاشتراكيين في البرلمان الأوروبي، البرتغالي بيدرو ماركيز، المشهد، بقوله: "بينما يعاني مواطنو أوروبا يصفق البلطجية الأوروبيون ويستغل الشعبويون الغضب والإحباط الذي يخلق حالياً الكراهية والانقسام في المجتمع "، مؤكداً أن "أوروبا تمر بلحظة وجودية حاسمة".
معالم شعبية هذا المعسكر ظهرت في هولندا، حيث حقق حزب "الحرية" بزعامة غيرت فيلدزر فوزاً مفاجئاً في انتخابات نوفمبر الماضي. وفي فرنسا تتقدم شعبية زعيمة "التجمع الوطني" (الجبهة سابقاً) مارين لوبان على حزب الرئيس إيمانويل ماكرون الليبرالي.
أما في ألمانيا، فحدّث ولا حرج، إذ رغم الكشف عن مخطط "البديل لأجل ألمانيا"، بالتعاون مع النازيين الجدد، لترحيل الملايين من أصول مهاجرة عن البلاد، وخروج مئات آلاف المحتجين عليه، يبدو الحزب متقدماً وبثبات. ففي آخر استطلاع أسبوعي نشرت نتائجه، أول من أمس الاثنين (أجري ما بين 16 و19 الشهر الحالي)، واصل "البديل" تجاوز أحزاب كبيرة وعريقة، مثل "الاجتماعي الديمقراطي"، حزب المستشار أولاف شولتز.
ويحقق "البديل"، لو أن انتخابات البرلمان الاتحادي أجريت الأحد الماضي (18 الشهر الحالي)، نسبة تراوح حول 20 في المائة، بينما حزب شولتز يتراجع من 25 في المائة في 2021، إلى 14.5 في المائة. ذلك يعني ببساطة أن "البديل" المتطرف يتجاوز يسار ويسار الوسط، وسيحل في المرتبة الثانية بعد المسيحي الديمقراطي، الذي يحقق نسبة تتراوح بين 30 و31 في المائة.
اليمين المتطرف: تأثير أوسع وأوروبا أخرى
ومع أن مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي لم تعد أولوية عند كل أقطاب هذا المعسكر، وخاصة بعد تعقيدات الخروج البريطاني منه، وتزايد تأييد الشوارع الأوروبية، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في 2022، للتعاون تحت مظلة الاتحاد الأوروبي، إلا أن صعود القوى ذات المنبت المناهض لأوروبا، وبصورة خاصة كتلة "الهوية والديمقراطية" (آي دي)، إضافة إلى "المحافظين الإصلاحيين"، ينذر بصعوبة استمرار سياسة التجاهل التي انتهجتها الأحزاب التقليدية في البرلمان الأوروبي.
زعيم كتلة الأحزاب الشعبية المحافظة في البرلمان الأوروبي، الألماني مانفريد فيبر، استشعر أخيراً صعود شعبية هذا المعسكر، إذ اعتبر في تصريحات نقلتها صحف أوروبية أن المشكلة تكمن في أن ذلك المعسكر لا يحل المشكلات "بل يعمقها ويستغلها، لتحقيق أجنداتهم الأنانية".
وهاجم بصورة مباشرة لوبين، والمجري فيكتور أوربان، وحزب "البديل" الألماني. ردّ رئيس كتلة "الهوية" اليمينية المتشددة في برلمان أوروبا، الإيطالي ماركو زاني (من حزب ليغا، بزعامة ماتيو سالفيني) بأن "العواء عن خطر الشعبويين أصبح متعباً ولا يطاق".
القلق بين ساسة بروكسل الأوروبيين مرده إمكانية ترجمة تقدم معسكر اليمين المتطرف في البرلمان الأوروبي، على شكل المطالبة بمناصب عليا في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، لكسر احتكارها من كتلتي يسار الوسط ويمين الوسط، إلى جانب إمكانية التأثير على التشريعات. وما تشير إليه معظم الاستطلاعات الأوروبية هو احتمال أن تنتقل كتلة "الهوية" من المركز السادس إلى ثالث أكبر مجموعة برلمانية أوروبية.
ووفقاً لـ" المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية" فإن الأحزاب اليمينية المتشددة في برلمان أوروبا ستصبح أكبر الأحزاب في 9 من دوله الـ27، وهي النمسا وبلجيكا وجمهورية التشيك وفرنسا والمجر وإيطاليا وهولندا وبولندا وسلوفاكيا. وفي 9 دول أخرى ستصبح ثاني أو ثالث أكبر الأحزاب، وهي بلغاريا وإستونيا وفنلندا وألمانيا ولاتفيا والبرتغال ورومانيا وإسبانيا والسويد.
مع ذلك فإن معسكر اليمين المتطرف ليس على قلب رجل واحد. فبينما يعتبر الناخب الأوروبي قضية الأمن وحلف شمال الأطلسي (ناتو) والتحول الأخضر وروسيا والحرب في أوكرانيا أولويات، فإن اليمين المتطرف يختلف عليها. إذ في حين تقلد، على سبيل المثال، الفرنسية لوبين سياسات الإيطالية جيورجيا ميلوني في جعل مسافة بينها وبين روسيا، وتؤيد استمرار دعم أوكرانيا، فإن حزب "البديل" في ألمانيا يصر، مع زعيم "ليغا" الإيطالي سالفيني، صاحب العلاقة المميزة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على استغلال الأزمات المالية للدعوة إلى وقف مساندة أوكرانيا.
في نهاية العام الماضي حاول سالفيني استئناف جهود تنسيق اليمين المتشدد في أوروبا، التي باشر فيها قبل سنوات رفقة مستشار ترامب السابق، المتشدد ستيف بانون. استضاف في ديسمبر/ كانون الأول الماضي في قلعة من القرون الوسطى بفلورنسا الأحزاب القومية المتشددة، والعين على تعزيز نتائج تقدمهم في بعض الانتخابات المحلية (كما في هولندا وألمانيا وفنلندا) والاستطلاعات للأوروبي، مستحضرين استغلال استمرار آثار أزمة الطاقة وارتفاع معدلات التضخم وغضب القطاع الزراعي الأوروبي.
ويتفق هؤلاء في بعض القضايا المهمة، كمعارضة المهاجرين والإسلام ودعاة العولمة ونشطاء المناخ ونخبة الاتحاد الأوروبي، والدعوات للتصويب السياسي والنسوية.
في كل الأحوال، ينظر هؤلاء إلى أنفسهم كأحزاب قومية تحمي أوروبا، بدفاعهم عن: الدولة القومية والقيم المسيحية، والأسرة التقليدية، ومن أجل استمرار العمل بالوقود الأحفوري، لمعارضة السياسات المناخية للاتحاد الأوروبي، والذي وصفه المضيف سالفيني بأنه "العدو الأكبر لأوروبا، ويجب تطهير بروكسل من التكنوقراط الماسونيين، الذين يريدون تدمير هوية قارتنا وجذورها وقيمها"، وبعضهم يؤيد إلغاء العقوبات على روسيا ووقف دعم أوكرانيا.
ورغم الاختلافات بين أحزاب المعسكر، بل وظهور بعضهم منافساً على التطرف، مثل ابنة أخت لوبين، ماريون ماريشال لوبين، التي التحقت بيميني أكثر تطرفاً من جدها المؤسس للتطرف جان ماري لوبين، زعيم حزب "الاسترداد" إريك زامور، المبدي إعجابه ببوتين وكراهيته لحلف شمال الأطلسي، إلا أنهم يلتقون عند تحميل "النخبة في بروكسل" مسؤولية مشروع "استبدال السكان الأوروبيين بالأفارقة والآسيويين".
كذلك يتفقون على أنه يجب أن تكون هناك معركة ضد تحويل أوروبا إلى "فندق خمس نجوم لأفريقيا"، وأن "الحلم الأوروبي يتعرض للاغتصاب من قبل النخبة اليسارية بتدمير الأسرة الطبيعية"، والتسبب في "نهاية المسيحية"، وبأنه يجب على الأوروبيين النضال من أجل قيمهم المشتركة: "الوطن، الأسرة، الله والحرية"، كما لخّص ماتيو سالفيني في ضيافة رفاقه في التطرف.