استمع إلى الملخص
- **تأثير التصعيد على مفاوضات السلام**: التصعيد يثير تساؤلات حول تأثيره على مفاوضات السلام بين روسيا وأوكرانيا، حيث يهدف لتعزيز مواقف كييف، بينما يرى باحثون روس أنه سيطيل أمد الحرب ويزيد من انعدام الثقة.
- **احتمالات إضعاف روسيا وتوسيع النزاع**: الهجوم يهدف إلى تشتيت القوات الروسية وإضعافها، مما يزيد من مخاطر استمرار التصعيد، وقد يساعد في تهيئة الأجواء للمفاوضات عبر إضعاف روسيا.
مع اقتراب العملية الهجومية الأوكرانية على مقاطعة كورسك الروسية من إكمال أسبوعها الأول، غداً الثلاثاء، يتجلى بوضوح أن هذه ليست عملية خاطفة على غرار حوادث اختراق الحدود التي كانت تنفذها عناصر تخريبية أوكرانية وأخرى روسية منشقة في المناطق الحدودية، وفي مقدمتها بيلغورود في المرات السابقة. وتشهد المناطق الحدودية في مقاطعة كورسك معارك طاحنة منذ الثلاثاء الماضي، ما اضطر السلطات الروسية إلى فرض حالة الطوارئ في المقاطعة وإرسال دبابات ومدرعات، وحتى توظيف الطيران الحربي لشن ضربات ليلية على مواقع القوات المسلحة الأوكرانية داخل الأراضي الروسية، وسط انتشار أنباء عن عودة عناصر مجموعة فاغنر من أفريقيا إلى روسيا لتقديم العون.
ولم تبق بيلاروسيا، بصفتها حليف روسيا الرئيسي في حربها ضد أوكرانيا، بمنأى عن التصعيد الأخير، إذ أمر الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، أول من أمس السبت، بنشر قوات على الحدود مع أوكرانيا، بعد إعلانه عن إسقاط الدفاع الجوي البيلاروسي بضع مُسيّرات كانت قادمة من أوكرانيا. ولما كانت بيلاروسيا إلى جانب بضع جمهوريات سوفييتية سابقة أخرى، عضواً في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، ثمة تساؤلات حول قابلية الدول الأعضاء بالمنظمة لإرسال قواتها إلى روسيا لحماية أرضها، ما سيوسع حتماً رقعة النزاع الروسي الأوكراني بتوريط مزيد من الأطراف.
مكسيم يالي: لن تتجلى أهداف العملية الأوكرانية إلا بعد أسبوع أو أسبوعين
الهجوم على كورسك والمفاوضات
إلى ذلك، ثمة تساؤلات تفرض نفسها حول تأثير التصعيد الأخير على إمكانية عقد مفاوضات السلام بين روسيا وأوكرانيا التي بدأت تلوح في الأفق، بعد نجاح عملية تبادل السجناء بين روسيا والغرب، وتنامي الدورين المجري والصيني في إجراء الاتصالات مع مختلف الأطراف المعنية. وفي الوقت الذي زعم فيه مستشار مكتب الرئيس الأوكراني، ميخايلو بودولياك، أن الهدف من الهجوم على مقاطعة كورسك هو تعزيز مواقف كييف وقت المفاوضات، جزم كبير الباحثين في معهد المعلومات العلمية حول العلوم الاجتماعية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، بوريس ميجويف، بأن التصعيد الأخير سيخلق حالة من انعدام الثقة ستحول دون عقد أي مفاوضات في الأفق المنظور.
وقال ميجويف لـ"العربي الجديد": "لا أؤمن بالطرح أن الطرف الأوكراني يسعى من خلال الهجوم على مقاطعة كورسك لتعزيز مواقفه التفاوضية، بل يمكن الجزم بأن الأحداث الأخيرة ستطيل أمد الحرب عاماً آخر على الأقل، إذ لن تقبل روسيا بالتفاوض لا أثناء وجود العدو على أراضيها ولا بعد إقصائه، نظراً لفقدان الثقة إلى غير رجعة، بعد أن أثبتت السلطة الأوكرانية الحالية عدم قابليتها للاتفاق". وقلل ميجويف من أهمية المزاعم أن كييف اتخذت قرار الهجوم بمعرفتها من دون ضوء أخضر أميركي، مضيفاً: "يكشف رد الفعل الأميركي المنضبط مباركة واشنطن لهذا الهجوم، وانتصار معسكر الصقور غير المعني بالمفاوضات والذي كان ينتقد الرئيس جو بايدن على تراخيه في التعامل مع روسيا. وأعتقد أن هذه نفس القوى التي باركت اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران".
ومع ذلك، من غير المتوقع اتساع رقعة الحرب وشمولها دولاً جديدة وفقاً لميجويف، مشيراً إلى أن "بيلاروسيا تسعى لإثبات ولائها لروسيا وتوجيه رسائل تحذيرية إلى كييف بإمكانية تفعيل الرد الجماعي من دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وتوسع رقعة النزاع ليشمل دولاً جديدة في حال تكررت مثل هذه الهجمات، وأعتقد أن هذا العامل الردعي سيكون كافياً من دون فتح جبهة بيلاروسيا". وأبدى ميجويف أسفه لإغفال ما اعتبره "التوقيت الأنسب" لاستئناف المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا بعد صفقة تبادل السجناء وتزايد المؤشرات لإجراء مشاورات خلف الكواليس بشأن تجميد النزاع، متوقعاً إطالة أمد الحرب واستمرارها في استنزاف روسيا وأوكرانيا على حد سواء.
وأقرّ أن شرط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لوقف الحرب وبدء المفاوضات، غير مقبول للجانب الأوكراني، معتبراً في الوقت نفسه أنه كان يمكن النظر إليه على أنه دعوة إلى مفاوضات تفضي للتوصل إلى حل وسط بدلاً من إجهاضها بواسطة هجوم كورسك. في السياق نفسه، اعتبر أستاذ قسم العلاقات الدولية في "الجامعة الوطنية للطيران" بكييف مكسيم يالي، أن الهجوم الأوكراني على مقاطعة كورسك قد حقق بعض النجاحات لجهة تشتيت القوات الروسية ورفع الروح المعنوية للجيش والمجتمع الأوكرانيين. وأضاف لـ"العربي الجديد" أنه "لن تتجلى أهداف العملية الأوكرانية إلا بعد أسبوع أو أسبوعين، واتضاح ما إذا كانت القوات الأوكرانية ستتمكن من تثبيت وجودها على الأراضي التي احتلتها. ربما تطمح أوكرانيا إلى احتلال محطة كورسك النووية ثم استبدالها بمحطة زابوريجيا (الأوكرانية التي تسيطر عليها روسيا)، ولكن هذا الاحتمال لا يبدو واقعياً نظراً لبدء روسيا بإرسال تعزيزات إلى المنطقة".
ومع ذلك، اعتبر يالي أن الهجوم على كورسك قد حقق بعض النجاحات، متوقعاً اضطرار "روسيا إلى سحب قوات من الأراضي المحتلة داخل أوكرانيا وخفض وتيرة العمليات الهجومية في مقاطعة دونيتسك، بعد سحب موسكو قسماً من قواتها منها. أضف إلى ذلك رفع الروح المعنوية للعسكريين الأوكرانيين والمجتمع بشكل عام، وفضح عجز روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين عن السيطرة حتى على الأراضي الروسية، إذ دخلتها قوات أجنبية لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)". وأكد يالي أن بيلاروسيا لن تشارك في الحرب ضد أوكرانيا، قائلاً: "يسعى لوكاشينكو لدعم بوتين عبر الدفع بأوكرانيا إلى سحب قسم من قواتها نحو الحدود مع بيلاروسيا، ولكن من دون اعتزام الدخول في اشتباك معها".
بوريس ميجويف: تريد بيلاروسيا إثبات ولائها لروسيا من دون فتح جبهة مع أوكرانيا
احتمالات إضعاف روسيا
أما الباحث المختص في الشؤون الأوكرانية، قسطنطين سكوركين، فوضع هو الآخر هدف أوكرانيا من هجوم كورسك في سياق تشتيت القوات الروسية، من دون استبعاد احتمال أن يساعد الهجوم في تهيئة الأجواء للمفاوضات عبر إضعاف روسيا. ورأى سكوركين في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أنه "يبدو أن هدف أوكرانيا الرئيسي هو تشتيت القوات الروسية وإبعادها عن محاور أخرى عبر إلحاق ضربات بمناطق غير محمية في العمق الروسي، وهو ما يفضح غطرسة الجنرالات الروس الذين لم يقيموا دفاعات حتى في المقاطعات الحدودية". وحول رؤيته للتداعيات طويلة الأجل لهجوم كورسك، قال سكوركين: "من جانب، يزيد إجراء مثل هذه العملية داخل الأراضي الروسية من مخاطر استمرار التصعيد، ولكن من جانب آخر، بات هناك أمل في تهيئة الظروف للمفاوضات عبر إضعاف روسيا".
واللافت أن هجوم كورسك وقع بعد أسابيع عدة على تبلور مؤشرات داعمة لفرضية تزايد الجهود الدولية لبدء المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، لعل أبرزها جولة رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، في يوليو/تموز الماضي، والتي شملت كييف وموسكو وبكين وواشنطن، وزيارة وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا، إلى الصين، وهي الأولى من نوعها منذ بدء الحرب الروسية في أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022. وقبل ذلك، حدد بوتين، خلال لقاء مع قيادة وزارة الخارجية الروسية منتصف يونيو/حزيران الماضي، انسحاب القوات الأوكرانية من المقاطعات الأربع، دونيتسك ولوغانسك وزابوريجيا وخيرسون، التي ضمتها روسيا على نحو أحادي الجانب عام 2022، شرطاً وحيداً لوقف إطلاق النار في أوكرانيا وبدء المفاوضات.
تجدر الإشارة إلى أن مقاطعة كورسك لها رمزية خاصة في أذهان الروس، إذ شهدت عام 1943 معركة تعرف باسم "قوس كورسك" التي تعد حدثاً مفصلياً في تاريخ الحرب العالمية الثانية، وجمع "الجيش الأحمر" خلالها بين عمليات استراتيجية دفاعية وأخرى هجومية أفضت إلى تحرير مدن سوفييتية عدة، ومن بينها أوريول وبيلغورود وخاركيف، من الاحتلال الألماني النازي. كذلك ارتبطت إحدى أكبر أزمات بدايات عهد بوتين باسم المدينة بشكل غير مباشر، إذ غرقت الغواصة النووية "كورسك" في بحر بارنتس الشمالي في أغسطس/آب 2000، وعلى متنها 118 بحاراً لقوا جميعاً مصرعهم في أسوأ حادثة في تاريخ أسطول الغواصات الروسي.