خسائر روسيا العسكرية منذ مطلع شهر سبتمبر/أيلول الحالي، تشكل منعطفاً مهماً في حرب أوكرانيا التي أكملت شهرها السابع. وتشير النتائج الأولية إلى احتمال تغير مجرى الحرب خلال فترة قصيرة.
وعلى الرغم من إعلان موسكو التعبئة الجزئية، فمن المرجح انتقال القوات الأوكرانية من الدفاع إلى الهجوم، ومن تلقي الضربات إلى تسديدها للجيش الروسي، الذي تأكد فشله في التخطيط للحرب وإدارتها.
لعدة أشهر، تحدث الأوكرانيون عن نيّتهم تنفيذ هجوم حول منطقة خيرسون في الجنوب، إذ كانوا يقومون بعمليات نوعية بقاذفات صواريخ "هيمارس" الأميركية لعزل الضفة الغربية لنهر دنيبر عن باقي المنطقة المحتلة.
وألقى الرئيس فولوديمير زيلينسكي ووزراؤه خطابات عن الحرب في الجنوب، الأمر الذي أدى لتركيز الانتباه الروسي وتعزيز القوات هناك، وكانت النتيجة انخفاض الضغط على الأوكرانيين. كما بات لديهم ما يكفي من القوات لاستغلال أي فرص قد تنشأ في الشمال الشرقي والشرق.
الهجوم الأوكراني المضاد
خطوة تكتيكية أتت ثمارها عندما شنّ الجيش الأوكراني هجوماً مضاداً قوياً في الشرق منذ مطلع سبتمبر في منطقة خاركيف، التي تضمّ مدينة تحمل الاسم نفسه وهي ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا ومحاصرة منذ فترة طويلة.
ووفقاً لـ"معهد دراسة الحرب" ومقره واشنطن، استعاد الأوكرانيون في غضون خمسة أيام "أراضي، أكثر مما استولى عليه الروس في جميع عملياتهم منذ إبريل/نيسان الماضي".
وأدت الضربة العسكرية التي تلقتها روسيا في خاركيف إلى هيمنة الأوكرانيين بفضل التسلح الأميركي، وصار في وسعهم تنفيذ هجمات في العمق الروسي. وأخذوا يعملون على مستويين لمنع الروس من إعادة تنظيم قواتهم. الأول دفع الروس إلى التراجع، والثاني قصفهم كلما حاولوا إعادة تجميع صفوفهم.
عملية عسكرية كبيرة جداً شنتها أوكرانيا. والأهم هو أنها ولّدت زخماً للنصر، ووضعت الروس تحت الضغط. وهي المرة الأولى التي يجد فيها الجيش الروسي نفسه أمام القوات الأوكرانية في هذا الموقف الميداني، في وقت تراجعت فيه القوات الانفصالية في إقليم لوغانسك إلى الحدود الروسية، بالقرب من فوفشانسك.
ويعتبر خبراء عسكريون غربيون أن تحرير إقليم لوغانسك بالكامل بات مسألة وقت، وأن الأوكرانيين سيجدون أنفسهم مباشرة على الحدود مع روسيا. وما يشجع على ذلك هو أن الأوكرانيين تمكنوا من مفاجأة الروس في هذه المنطقة ضعيفة الدفاع، وحققوا اختراقاً مهماً وراء الخطوط الدفاعية الروسية.
وسيكون لهذا عواقب تكتيكية وتشغيلية، ولن يؤدي إلى هز الحسابات الروسية على الجبهة الشرقية فحسب، بل سيجبر الروس على تعزيز انتشارهم هناك، مما قد يقلل قدرتهم على الدفاع عن أجزاء من الجنوب، ويفتح للأوكرانيين المجال لتسجيل انتصارات جديدة.
خبراء عسكريون غربيون: تحرير إقليم لوغانسك بالكامل بات مسألة وقت
باتت موسكو تحت ضغط كبير، وهذا ما يفسر إعلان التعبئة الجزئية من قبل الرئيس فلاديمير بوتين، والتي لن يكون لها مفعول فوري يؤثر على مجرى الحرب، لأن قطعات الاحتياط لن تدخل المعركة قبل إعادة تأهيلها، وهذا يستغرق وقتاً يزيد عن ثلاثة أشهر. ثم إنها لن تكون على كفاءة عالية، ومن المرجح أن تسند لها مهام الأمن في المناطق التي قامت بالاستفتاء للانضمام إلى روسيا.
أجهزة مخابرات الكرملين تعرضت لضربة في مصداقيتها، لأنها لم تكن قادرة على توقع الهجوم المضاد الأوكراني. وسرّبت هيئة الأركان العامة الأوكرانية اقتراب هجوم مضاد مخطط له نحو الجنوب، لكن فجأة هاجم الأوكرانيون في الشمال والشرق.
وفي المقابل، تكتسب أوكرانيا مصداقية إضافية، لا سيما على الصعيد الدولي، من خلال إثبات أن المساعدات بالأسلحة الدولية أتت ثمارها. ويكفي هذا لإقناع الدول الغربية التي زعزعتها أزمة الغاز كي تزيد دعمها لكييف، التي تستعد لتوجيه ضربة قوية لروسيا قبل فصل الشتاء، الذي يعد بأن يكون قاسياً بشكل خاص، وحاسماً في ساحة المعركة.
هذه الانتصارات تخيف روسيا في الأراضي التي تحتلها. فهي تظهر أن أوكرانيا قادرة على إلحاق خسائر كبيرة وتوجيه صفعة تلو أخرى للجيش الروسي، الأمر الذي بدأ يثير ضجة في روسيا.
حتى أن الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف جاهر في انتقاد استراتيجية الجيش الروسي، والتعامل مع المعلومات على الأرض. وعرض تقديم المشورة للجنرالات، ولكن الأمر الخطير هو أن الإخفاقات الروسية بدأت تثير الغضب وسط المتشددين الروس.
وهذا ما دفع بوتين إلى التحرك وإعلان التعبئة الجزئية بحشد 300 ألف جندي، وسيتعين عليه اعتباراً من الآن التحدث عن حرب واسعة، وليس فقط عن عملية خاصة.
هل تشكل خسائر روسيا الكبيرة مناسبة لوقف الحرب والتفاوض؟ هذا السؤال طرحه خبراء غربيون بموازاة إعلان وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو خسارة روسيا نحو 6 آلاف جندي في غضون 7 أشهر من الحرب على أوكرانيا، في حين أن الاتحاد السوفييتي لم يخسر طيلة حرب أفغانستان (1979 ـ 1989) أكثر من 15 ألف جندي.
ومن طرف أوكرانيا، يبدو مبكراً الحديث عن مفاوضات لوقف إطلاق النار، بل إنها عاقدة العزم على الذهاب في عمليات تحرير الأراضي التي استولى عليها الروس. ولتصبح أوكرانيا قادرة على التفاوض، يجب أن تكون في وضع أقوى. ولذا يشترط زيلينسكي أن تستعيد أوكرانيا جميع أراضيها.
أكثر من 9 آلاف كيلومتر مربع تم تحريرها حتى الآن في الشرق والجنوب، لكنها لا تكفي للتفاوض، فهي قليلة جداً، غير أنها كافية لإلحاق الهزيمة بروسيا، استراتيجياً ونفسياً.
وهناك إجماع لدى الخبراء الغربيين على أن الهجمات الأوكرانية ستتواصل، من أجل كسب أكبر قدر ممكن من الأراضي قبل الشتاء، المليء بالثلج والبرد والمطر والوحل. وطالما لم يحن فصل الشتاء بعد، فسيحاولون استعادة أكبر قدر ممكن من الأراضي.
وفي هذه الأثناء، يستمر الجدل بصدد احتمال تزويد الولايات المتحدة أوكرانيا صواريخ باليستية متوسطة المدى، في ظل تسريبات من مسؤولين أميركيين إلى صحيفة "نيويورك تايمز"، بأن أخطر لحظات الحرب في أوكرانيا لم تحن بعد.
ونقلت عن مسؤولين أميركيين إعرابهم عن مخاوفهم من استخدام بوتين أسلحة نووية، وهو ما نفاه المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف، بقوله إن روسيا تستخدم السلاح النووي، بناء على عقيدتها النووية فقط.
ولكن الرئيس الأميركي جو بايدن، أخذ الأمر على محمل الجد، وصرح بأن استخدام روسيا السلاح النووي سيغير وجه الحرب بصورة لم تحدث منذ الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945).
من غير المستبعد أن يتقرر المصير النهائي للحرب في هجوم الشتاء المقبل
العقيدة النووية الروسية تتلخص في عدة سيناريوهات. الأول هو حصول روسيا على بيانات موثوقة تؤكد عزم جهة ما إطلاق صواريخ باليستية نحو أراضيها أو أراضي حلفائها.
والسيناريو الثاني هو تعرض روسيا أو أحد حلفائها لهجوم بأي نوع من أنواع أسلحة الدمار الشامل، والتي تشمل الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية، بكلمات أخرى الأسلحة غير التقليدية.
والسيناريو الثالث هو، يمكن لروسيا أن تستخدم ترسانتها النووية، حتى لو استهدفت بأسلحة تقليدية، لكن في حال كان هذا الاستهداف يهدد وجود الدولة.
بينما يفيد السيناريو الرابع في حال تعرض مواقع حكومية أو عسكرية حساسة إلى هجوم من قبل عدو ما، فإن العقيدة النووية الروسية تتيح لها استخدام السلاح النووي للرد. واللافت في هذه الأمثلة أنها لا تتطلب أن تكون الضربة الأولى من دولة معادية، إذ يمكن لموسكو استخدام السلاح النووي في ضربة استباقية.
معركة الشتاء الفاصلة
روسيا تبدو أمام خيارين. الأول استمرار الحرب على الوتيرة التي تسير فيها، وهذا يعني أن عليها أن تتقبل المزيد من الخسائر، واستعادة أوكرانيا كل الأراضي التي خسرتها منذ بداية الحرب بما في ذلك كامل أراضي منطقة دونباس (تضمّ إقليمي لوغانسك ودونيتسك). ومن غير المستبعد أن يتقرر المصير النهائي للحرب من خلال هجوم الشتاء المقبل، الذي تستعد له أوكرانيا.
والخيار الثاني أن تلجأ روسيا لاستخدام أسلحة نوعية تلحق خسارة كبيرة بأوكرانيا تدفعها إلى إعلان الهزيمة، وهنا أمامها خياران أيضاً. الأول هو اللجوء إلى قنابل نووية تكتيكية بقدرة تدمير تصل بحدّها الأدنى إلى طن واحد من المتفجرات، وهذا النوع من الأسلحة خارج الاتفاقات الدولية الخاصة بأسلحة الدمار الشامل، التي جرى التوصل إليها بعد الحرب العالمية الثانية. والخيار الثاني استخدام أسلحة كيميائية تكتيكية.
وفي الوقت الذي حذّر بايدن بوتين، يدعو خبراء عسكريون أميركيون إلى التعاطي بجدية مع التهديد النووي الروسي، لأن ما يحصل في أوكرانيا يرقى إلى تهديد روسيا.
ويقولون، إن بوتين هو الذي يفسر العقيدة الروسية وفق حساباته، ولا أحد يمنعه من أن يستخدمها على هواه. ويرى خبراء أميركيون أن قراراً من هذا القبيل ستكون له عواقب سلبية على روسيا، التي يرى خبراؤها أن الحرب في أوكرانيا لا تستدعي استخدام أسلحة نووية، فما يجري في أوكرانيا حتى الآن هو عبارة عن عملية عسكرية، يشارك فيها جزء صغير من الجيش الروسي.
قد يكون هدف التهديدات الروسية هو ثني الولايات المتحدة عن إرسال أسلحة هجومية فتاكة إلى أوكرانيا، من نوع الصواريخ الباليستية الموعودة بها.
وقد يكون الهدف منها الدخول في جولة تصعيد كبيرة قبل الانتقال إلى المواجهة النهائية التي ستضع حداً للحرب، لكن في جميع الأحوال بات من المؤكد أن الجولة الكبرى ستكون في الشتاء، والهجوم الأوكراني المضاد لم يكن سوى بروفة.