لا يختلف كثيرون على أن استخدام القانون هو من الأدوات الفعالة في النضال لتحصيل الحقوق، سواء كانت فردية أو جماعية.
مقولة "أخذ القانون بيده" التي تطرح بطريقة استنكارية أحياناً لم تأت من فراغ. من جهة هناك، في هذه الجملة اعتراف أن القانون هو وسيلة يمكن استخدامها لتحصيل الحقوق وأخذ القانون باليد هي إحدى طرق استخدام القانون. ومن جهة أخرى، هذا المصطلح نابع أصلاً من ويشمل اعترافاً بقيمة القانون وحضوره في الوعي العام في مرتبة عليا محترمة، كإحدى أدوات تحصيل الحقوق وفض النزاعات، سواء كانت فردية أو جماعية أو بين الفرد والسلطة أو بين الدول، ولكن يحصر الاستخدام الصحيح للقانون في اتباع قواعد وإجراءات ولوائح ومكان اختصاص وصلاحيات استخدام وتطبيق القانون أمام العوام.
القانون هو مجموعة الأعراف والمبادئ والقواعد والأنظمة التي يتعارف عليها المجتمع ويتفق على تأصيلها وترتيبها في منظومة لوائح وقواعد متناسقة لترتيب العلاقات والتفاعلات بين أعضاء ذلك المجتمع كأفراد وجماعات وبين الفرد والسلطة الرسمية في الدولة التي تصدر القانون. في حال حدوث نزاع يلجأ إلى المحاكم في تلك الدولة لتُفَسِر وتفتي في النزاع حسب القانون النافذ في حينه.
إذا أسقطنا ذلك التعريف على المجتمع الدولي فالسلطة الرسمة هي المنظمات الدولية التي تعارفت الدول الأعضاء فيها على أهليتها لسن القوانين والمواثيق وتنظيمها وتطبيقها بين الدول. هناك تباين بين القوانين المحلية والدولية سأذكره لاحقاً.
لا شك في أن اللجوء للقانون هو أداة قوية في السعي لتثبيت وتحصيل الحقوق. قليل من البشر اليوم لا يعترفون بسلطة القانون وفضيلة ولزوم احترامه وتطبيقه. لا يعني ذلك عدم وجود مخالفين ومخالفات لتلك القاعدة. إذا قبلنا أنه غالباً ما يكون اللجوء للقانون من قبل الطرف الضحية وغالباً، ليس دائماً، الضحية هو الطرف الأضعف، فإن اللجوء للقانون يوفر نوعاً من القوة والحماية، إن لم يكن للأشخاص، فللحقوق مهما طال الزمن.
اللجوء للقانون كإحدى وسائل النضال يعبر عن ويؤكد مرتبة أخلاقية عليا يعترف الكثيرون بها للضحية تشكل الركيزة الأساسية التي يستند إليها الضحية في نضاله لتحصيل حقوقه وإنصافه من المعتدي. يكون عادة من الصعب على المعتدي أن يحوز على ذلك السبق ويتفوق على الضحية في دفاعه عن عدوانه وتصرفاته. إذا اتفقنا أن القانون يمتلك سلطة وقوة لأنه يمثل أعراف وإجماع المجتمع الذي سنّه لنفسه.
آفاق النضال القانوني لا محدودة وتتوسع باستمرار مع تطور القانون الدولي والمحلي، وخاصة مع ازدياد القضايا التي تقدم للمحاكم وصدور فتاوى قضائية فيها بتطوير مبادئ وقواعد قانونية تكون عادة مفيدة في قضايا أخرى تستقي من سابقاتها.
بعد صدور قرار المحكمة الجنائية الدولية في 5 فبراير/ شباط 2021 والذي أكد أن قانون المحكمة ينطبق على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، مما فتح الطريق للتحقيق في إمكانية ارتكاب جرائم حرب هناك، جُنّت إسرائيل ولم تجد رداً سوى الادعاء أن قرار المحكمة "جوهر اللاسامية" "وقمة النفاق" واتهمت الولايات المتحدة المحكمة بأنها صارت "وسيلة انتقام سياسي" وبريطانيا علقت بأن التحقيق "هجوم على إسرائيل". نلاحظ أنه لم يقم أحد حتى إسرائيل، المتهمة بالعدوان، وأصدقاؤها، بمهاجمة القانون أو أن يدعوا أنه ليس صالحاً ولكن صوبوا نقدهم على المحكمة، السلطة المخولة بتطبيق القانون. كذلك مهم أن نلاحظ أنهم لم ينتقدوا الفلسطينيين على مساعيهم القانونية ولجوئهم للمحكمة.
في 2012 أصدر قاضي المحكمة العليا في لندن قراراً بقبول دعوى أقامها ضد الحكومة البريطانية خمسة من قبيلة ماو ماو الكينية بسبب جرائم ارتكبتها القوات البريطانية في عام 1952 أثناء محاولات قمع وإخماد الثورة المسلحة ضد الاحتلال البريطاني لكينيا. بعد محاولات عدة من الحكومة البريطانية لرد الدعوى في المحكمة التي بدأت في 2009، اعترفت الحكومة بجرائمها بعد أكثر من 50 عاماً على حدوث الجرائم، وقدمت اعتذاراً للضحايا ودفعت تعويضات لهم.
في عام 2001 تقدم مجموعة من السكان الأصليين لجزر تشاغوس وأكبرها جزيرة دييغو غارسيا بشكوى ضد الحكومة البريطانية طالبين التعويض وحق العودة إلى جزرهم التي أُخلو منها بين 1968-1971 بقرار من السلطات البريطانية التي كانت قد أجّرت الجزر للحكومة الأميركية لإقامة قاعدة عسكرية عليها. وبعد جولات عديدة في المحاكم العليا بين قبول ورفض، ومماطلة ومحاولات يائسة من الحكومة وادعاءات إجرائية لإسقاط الدعوى وعدم كشف الوثائق، تركزت الدعوى على طلب التعويضات التي كانت الحكومة البريطانية قد عرضتها، ولكن رفضت السماح للسكان الأصليين بالعودة. وفي عام 2019 قامت الحكومة البريطانية بالاعتذار رسمياً عن إجراءاتها ضد السكان الأصليين.
في فبراير 2019 كانت موريشيوس قد حصلت على قرار، غير ملزم، من محكمة العدل الدولية، قضى بأحقيتها في الجزر وبتخلي بريطانيا عنها وإعادة توطين السكان الأصليين فيها. وفي نفس العام كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد اعتمدت وبأغلبية ساحقة، القرار 12146 الذي يطالب بريطانيا بإنهاء حكمها لجزر تشاغوس وتسليمها لموريشيوس. لم يحصل ذلك ولكن تم تثبيت حق موريشيوس في جزرها والظلم الذي وقع على سكانها.
بعد ويلات الحروب عادة ما تتداعى الدول للعمل على محاولة تفادي الجرائم والمخالفات للأعراف الانسانية والقوانين الدولية. في عام 1945 أي بعد الحرب العالمية الثانية شكلت الدول المنتصرة محاكم نورمبرغ لمحاكمة النازيين على جرائم ارتكبت خلال الحرب. وفي عام 1949 صدرت اتفاقيات جنيف الأربع. معظم دول العالم كيفت قوانينها المحلية لتتوافق مع اتفاقيات جنيف وكثير منها سنت قوانين الولاية الدولية للقوانين المحلية والتي تسمح بملحقة الجرائم أينما وقعت. تلك القوانين وعدة محاكمات خاصة صارت مثالاً رادعاً لمنع ارتكاب جرائم وممارسات صنفت على أنها جرائم تحت القانون الدولي أو المحلي.
في عام 1995 وقعت مجازر وجرائم حرب من قبل الصرب بحق المسلمين في البوسنة والهرسك وُصفت بأنها الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية.
في يوليو/ تموز 1998 صدر في روما الميثاق الدولي لتأسيس المحكمة الجنائية الدولية الذي يعرف بميثاق روما. صنف الميثاق الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة وهي أربع رئيسة قبل تفصيلها وتوصيفها، (أ) الإبادة الجماعية، (ب) الجرائم ضد الإنسانية، (ج) جرائم الحرب، (د) جريمة العدوان. وبعد عدة قضايا ومحاكمات ناجحة وخاصة لمجرمي حرب من صربيا وأفريقيا، صارت المحكمة مؤسسة ثابته في الوعي العام وملجأً للضحايا لمحاولة إنصافهم.
ورغم ذلك هناك من يجد مبرراً لادعاء عدم جدوى النضال القانوني لمحدودية تنفيذ القرارات القضائية إلا على الضعاف من الأشخاص والدول ولعدم توفر الإرادة الدولية لمتابعة القرارات القضائية التي لا تكون في صالح الأقوياء. نذكر مثلاً أن إسرائيل والولايات المتحدة ليستا من أعضاء المحكمة الجنائية الدولية. بسبب النفوذ والسطوة الأميركية في النظام الدولي رفضت الولايات المتحدة أن تسمح بإجراء تحقيق مع جنودها بتهم ارتكاب جرائم حرب في أفغانستان والعراق. الأهم والأخطر في هذه الزاوية هو إحجام سلطات دول الضحايا، إما كرهاً أو تواطؤاً عن السعي لإنصاف مواطنيها في المحاكم المحلية أو الدولية. نذكر هنا رفض القيادة الفلسطينية متابعة نتائج وتوصيات تقرير جولدستون لعام 2009 في جرائم حرب ارتكبت خلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2008. كذلك أحجمت الحكومات الأفغانية والعراقية عن تقديم شكاوى ضد الجنود الأميركان لجرائم حرب وقعت في أراضيها وضد مواطنيها.
معضلة أخرى يجب الإشارة إليها وهي أن عضوية المحكمة الجنائية الدولية طوعية وتعتمد في عملها على تعاون السلطات الرسمية في الدولة العضو، التي وقعت فيها الجرائم، لإجراء التحقيق وحماية طواقم التحقيق وتقديم التسهيلات والوثائق والمعلومات. بدون ذلك التعاون لا تستطيع المحكمة إنجاز عملها الحساس جداً والذي يعتمد على صدقية الشهود والوثائق التي قد تستخدم في محاكمات المتهمين.
المحكمة الجنائية الدولية هي ملجأ أخير ويجب على الضحايا اللجوء أولاً الى القضاء المحلي لتقديم شكاويهم، وإذا لم يتوفر لهم ذلك يستطيعون اللجوء للقضاء الدولي. هذا يسبب بطء في الإجراءات التي تستخدم أحيانا لإحباط الشكاوى وأمل الضحايا في الإنصاف من المعتدين.
القضاء المحلي أيضاً يعاني من تقصير في متابعة شكاوى من ضحايا الجرائم التي ترتكب في بلدانهم ومن قبل سلطات أنظمة الحكم فيها. أسباب ذلك متعددة، الفساد القضائي والإداري في توثيق الجرائم أو وضع عقبات إدارية أمام الضحايا مصممة لتضييق السبل على الضحايا، وأحيانا التهديدات ضد عوائل الضحايا لردعهم، وغالبا المماطلة في متابعة الشكاوى وملاحقة المتهمين والذين غالبا هم من أصحاب السلطة المتنفذين في مفاصل الدولة.
في شباط من عام 1982 قامت قوات عسكرية نظامية تحت إمرة رفعت الأسد، أخي الرئيس السوري حينها حافظ الأسد، بارتكاب مجازر بحق المدنيين في مدينة حماة السورية قدر عدد ضحاياها بين 2000 و20000. ما زال النظام المسؤول قائماً في سورية وهو ما يمكن أن يفسر عدم قيام أهالي الضحايا بملاحقة الجرائم بحقهم. لكن لا يوجد تفسير لعدم ملاحقة رفعت الأسد أمام المحاكم الأوروبية وخاصة بعد خروجه الإجباري من سورية وإقامته في أوروبا.
مهما كانت الأسباب والظروف يصح القول إن الحالة الإنسانية والسلم العالمي والمجتمعي يعتمدان كثيراً على تحقيق العدالة والشعور بسيادة وسلطة القانون على الجميع.