أصبح الملء الثاني لسد النهضة الإثيوبي قاب قوسين أو أدنى، بعدما أرسلت أديس أبابا بيانات جديدة بشأن عملية الملء إلى الخرطوم والقاهرة، في إطار محاولتها الالتفاف على مطالبتهما بالتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم على قواعد الملء والتشغيل. وكشفت البيانات المرسلة عن احتمالية إتمام عملية الملء خلال شهري مايو/ أيار ويونيو/ حزيران المقبلين، ما يؤكد ما نشره "العربي الجديد" في 30 مارس/ آذار الماضي، نقلاً عن مصادر مصرية، من أن "التقديرات الفنية على ضوء مستويات الأمطار المسجلة حالياً في هضبة الحبشة تشير إلى احتمالية تبكير موعد الفيضان، وبالتالي إمكانية إنجاز الملء الثاني للسد قبل الموعد المحدد"، ومن ثم وضع مصر والسودان أمام الأمر الواقع للمرة الثانية على التوالي. مقابل ذلك، تراجعت نبرة الحرب والحلّ العسكري في خطاب الدوائر المصرية الرسمية، بشأن الأزمة.
بدأت مصر والسودان التصرف فنياً على أساس إتمام عملية الملء الثاني خلال أقل من 90 يوماً
وقال مصدر فني مصري في وزارة الري، لـ"العربي الجديد"، إن مصر والسودان بدأا بالفعل التعامل فنياً مع خطط التصرفات المائية الخاصة بهما على أساس إتمام عملية الملء الثاني خلال أقل من 90 يوماً، وإن جميع المؤشرات تؤكد عدم وقوع ضرر جسيم أو بسيط على مصر تحديداً جرّاء عملية الملء بسبب توافر كميات المياه المستهدفة، سواء في بحيرة ناصر أو من المياه المرتقب وصولها في نهاية الفيضان. لكن الجانب السوداني مشغول حالياً، بحسب المصدر، في وضع خطة محكمة لتحسين إمكانات السدود لتمرير الكميات المطلوبة بعناية والحيلولة دون تكرار مشكلة فيضان العام الماضي، أو انخفاض المنسوب في عدد من السدود الصغيرة.
ورأى المصدر الفني أن المشكلة الحقيقية في الملء الثاني هي تكريس الأمر الواقع وتفويت الفرصة على مصر والسودان للتوصل إلى اتفاق نهائي ملزم، ما يسمح لإثيوبيا مستقبلاً بالتحكّم في النيل، بعد انقضاء سنوات الرخاء ووفرة الفيضان الحالية، وهو ما تركز عليه القاهرة والخرطوم حالياً في الاتصالات السرّية الجارية مع إثيوبيا عبر وسطاء عديدين من المنطقة وأفريقيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وأشار المصدر في الوقت ذاته إلى أن "التعليمات الصادرة حديثاً من الاستخبارات العامة إلى وزارة الري، تطالب بنشر خطاب طمأنينة بين المواطنين على استطاعة مصر مواجهة الملء الثاني"، وهو ما دارت حوله تصريحات وزير الموارد المائية والري محمد عبد العاطي التلفزيونية مساء أول من أمس السبت، عندما أسهب في التأكيد على نجاح الاستعدادات المصرية لهذا الإجراء، الذي وصفه بـ"الصدمة"، مثل مشروع تبطين الترع وتطوير محطات معالجة المياه وتقليل المساحات المزروعة بالمحاصيل المستهلكة للمياه.
ويتزامن هذا الخطاب المطمئن للرأي العام مع انقلاب واضح في اتجاهات الإعلام المصري الموالي للنظام الحاكم، والمؤتمر أساساً بأمر الاستخبارات العامة. فبعدما شنّت وسائل الإعلام وحسابات التواصل الاجتماعي الموالية للرئيس عبد الفتاح السيسي حملة بتصعيد الحديث عن "ضرورة الحسم بالقوة" والإشارة الصريحة إلى "مطالبات استخدام القوة العسكرية" طالما استمرت أديس أبابا على موقفها المتشبث باستمرار العمل للملء الثاني المنفرد للسد، دون اشتراط التوصل إلى اتفاق نهائي على قواعد الملء والتشغيل، عادت وسائل الإعلام ذاتها للتخويف من استخدام الحلّ العسكري، ودعوة المواطنين للهدوء والاطمئنان ودعم قرارات الدولة.
تراجع نبرة الحلّ العسكري بعد التلويح الغربي بالعقوبات في حال تمّ استهداف السد
وكشفت مصادر إعلامية عن رسائل جديدة للإعلاميين، بشأن تخفيض مستوى تطلعات الشارع المصري، بشأن الحلّ العسكري وتوضيح مخاطره على مصر. وبحسب المصادر، فقد "تناولت الرسالة التي وصلت إلى عدد من كبار الكتّاب الصحافيين والإعلاميين توجيهات بضرورة التهدئة، وإيلاء الأولوية لخطاب السياسة والدبلوماسية على خطاب الحرب الذي أخذ يتمدد في الشارع في أعقاب تصريحات الرئيس المصري خلال تفقده قناة السويس عقب تعويم السفينة إيفرغيفين".
مقابل ذلك، قال مصدر خاص، لـ"العربي الجديد"، إن تراجع نبرة الحلّ العسكري جاءت بتوجيهات بعد التلويح الغربي بالعقوبات، في حال تمّ استهداف السد بأي عمل عسكري، أو تخريبي. وكشف المصدر أن "التباين في الموقف السوداني ووجود تيارين داخل منظومة الحكم في الخرطوم بشأن التعامل مع الأزمة وتقديم ملاحظات بشأن تعلية خيار الحرب أديا أيضاً إلى تراجع من جانب الأجهزة المصرية بشأن خطاب الحل العسكري". وأوضح المصدر أن "هناك انقساماً كبيراً داخل مجلس السيادة السوداني والحكومة في الخرطوم، في ظلّ خشية المكون المدني من عودة السودان إلى قوائم العقوبات الدولية مجدداً، في حال الإقدام على الحل العسكري ودفعهم في اتجاه التوصل لحل وسط يضمن الحد الأدنى من مطالب كافة الأطراف". وقال المصدر إن "الرأي السائد حالياً بين القاهرة والخرطوم هو اللجوء إلى مجلس الأمن، على الرغم مما يحمله هذا الحل من ضياع للوقت مع التعويل على بعض الوساطات".
الانقلاب الواضح في اتجاهات الإعلام المصري طرأ بعد ساعات من حديث السيسي يوم الأربعاء الماضي خلال مؤتمر حكومي، والذي استهدف تحجيم التطلعات الشعبية إلى حل عسكري. وتحدث السيسي عن "خيارات مصرية مفتوحة للتعامل مع الأزمة"، منبهاً في الوقت ذاته إلى "التكلفة العالية التي تترتب على أي مواجهات عسكرية"، مطالباً المصريين بتذكر ما حدث بعد مشاركة جيشهم في حرب اليمن أوائل الستينيات من القرن الماضي، ثم الهزيمة في يونيو/ حزيران 1967، مشدداً على أن "الاتفاق والتفاهم أفضل بكثير من أي بدائل أخرى".
مصادر دبلوماسية وحكومية مطلعة قالت لـ"العربي الجديد" إن هذا الانقلاب سببه الرئيسي رد فعل سلبي على تهديد السيسي بالحل العسكري، من القوى الدولية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا، وتم إبلاغ الخارجية المصرية برسائل مختلفة تحمل معاني القلق من هذا النهج، وتؤكد أن عواقب أي حل عسكري للأزمة ستكون وخيمة على الجميع، وستمثل خروجاً عن المشروعية الدولية، أكبر من الخرق الذي تصر عليه إثيوبيا.
وأضافت المصادر أن الحديث عن الخيار العسكري استفز أيضاً عدداً من رجال الأعمال والمستثمرين المصريين الكبار، وقيادات وزارة الخارجية والدبلوماسيين السابقين الذين تواصلوا بطرق مختلفة مع شخصيات قريبة من السيسي ووزير الخارجية سامح شكري، وطالبوها بالتدخل لوقف حالة الاستنفار الشعبي، خصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي، والتلويح الإعلامي بقرب توجيه ضربة عسكرية لسد النهضة، لتبديد مخاوف عدة طُرحت في الدوائر الخاصة بتلك الشخصيات، على المستوى الاقتصادي والدبلوماسي، بما قد يخل بمصداقية مصر ونظامها السياسي وجاذيتها للمستثمرين.
وبحسب المصادر، فإن هذه التحذيرات ربطت بين اهتزاز البورصة المصرية وتراجعها الأسبوع الماضي بشدة، وكذلك تراجع بعض المستثمرين العرب والأجانب عن مشاريع كان من المقرر الإعلان عنها الشهر الماضي، بقضية سد النهضة ككل، من الخطاب الحكومي الذي يصدّر في المقام الأول سلبيات السد على المصريين، ثم التهديدات التي من شأنها التلويح بدخول البلاد في حالة حرب قريباً.
إلا أنه بالتوازي مع تلك النقاشات التي أثمرت واقعاً دعائياً جديداً يقوم على خطاب الطمأنة والتعقّل، ما زالت الدوائر الدبلوماسية والاقتصادية نفسها قلقة بشدة من رد الفعل الرسمي المتأخر على التعنّت الإثيوبي، والفشل المستمر في استمالة القوى الكبرى، خصوصاً الولايات المتحدة، في ظل التردي الواضح في موقف الإمارات والسعودية والاحتلال الإسرائيلي، وعدم مساهمتها بشكل فعّال في حلحلة الأزمة.
وأوضحت المصادر أن مصر أبلغت جميع الوسطاء بعدم قبولها بأي آلية بديلة عن الاتفاق النهائي قبل الملء الثاني، أو بالتزامن معه على أبعد تقدير، علماً أن الآليات البديلة مثل الاتفاق المؤقت أو الاكتفاء بالتنسيق وتبادل البيانات، كانت تحظى بدعم الإمارات تحديداً، وبموقف محايد من الاتحاد الأفريقي.
وجود تيارين داخل منظومة الحكم في الخرطوم بشأن التعامل مع الأزمة أثّر على الخطاب المصري
وأكد الوزير عبد العاطي في تصريحاته التلفزيونية ما سبق أن نشره "العربي الجديد" نهاية الشهر الماضي، عن تلقي مصر مقترحاً إثيوبياً في صورة اتفاق ثلاثي مؤقت، بالتنسيق حول فترة الملء الثاني إلى شهرين، كحد أقصى، مع عدم اضطرار الدول الثلاث إلى عقد مفاوضات مطولة جديدة حول قواعد الملء والتشغيل قبل الملء الثاني، ومن ثم تأجيل المفاوضات الأساسية، والمستمرة بفشل ذريع منذ عشر سنوات، إلى ما بعد هذه المرحلة من الملء، والتي سيتبعها عملياً توليد الكهرباء للمرة الأولى واستكمال النسبة الباقية من الإنشاءات والتركيبات، والتي لا تزيد حالياً عن عشرين في المائة.
وذكر عبد العاطي أن مصر رفضت المقترح الإثيوبي الذي كان يتمثل في تشكيل آلية لتبادل البيانات حول الملء الثاني من دون اتفاق شامل على الملء والتشغيل يؤمن مصالح مصر المائية، مؤكداً أن المقترح يخالف مقررات القمم الأفريقية التي عقدت حول ملف سد النهضة والتي أكدت ضرورة التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم حول ملء وتشغيل سد النهضة. ولفت الوزير إلى أن هذا المقترح لا يعدو كونه محاولة مكشوفة لاستخلاص إقرار مصري على المرحلة الثانية من الملء التي تنوي إثيوبيا تنفيذها خلال صيف العام الحالي، حتى لو لم تصل الدول الثلاث لاتفاق حول ملء وتشغيل سد النهضة.
وتركز مصر حالياً على تشديد الحصار السياسي لإثيوبيا ووضعها تحت الضغط، وعقدت في أسبوع واحد اتفاقيتي تعاون وتبادل معلومات عسكرية مع كل من أوغندا وبوروندي، وهما من الدول الموقّعة على الاتفاق الإطاري لدول حوض النيل، الذي تعارضه القاهرة منذ 11 عاماً، والذي تحارب إثيوبيا لإدخاله حيّز التنفيذ قريباً بتصديق 6 دول عليه برلمانياً.
ويهدف التنسيق العسكري والاستخباري المصري مع دول منابع النيل إلى وضع إثيوبيا تحت ضغط دائم، وإزعاجها على المدى الطويل، وليس تهديدها بسرعة استخدام الحل العسكري لحسم قضية سد النهضة. كذلك تراهن مصر على توثيق العلاقات مع دول المنبع لأسباب أخرى أهم استراتيجياً، مثل العمل على تعديل الاتفاق الإطاري، بما يضمن وضعاً خاصاً لمصر والسودان كدولتي مصب، في القرارات المشتركة والحصص وضمان إبلاغهما قبل إقامة مشاريع تنموية على حوض النيل، فضلاً عن محاولتها تعطيل إدخال الاتفاقية حيز التنفيذ بتثبيت موقف كل من جنوب السودان والكونغو الديمقراطية اللتين لم تصدقا عليها حتى الآن.