تطورت المقاومة الشعبية في فلسطين خلال العامين الماضين تطوراً ملحوظاً ولافتاً، رغم مغادرتها مربع السلمية؛ كما رأيناها في الشيخ جراح وبيتا، لصالح العسكرة؛ كما في نموذجي عرين الأسود بنابلس وكتيبة جنين في المدينة ومخيمها، لكن لا تزال المقاومة الشعبية مستمرة على اعتبارها الوسيلة المثلى لمواجهة بطش الاحتلال وجرائمه، كذلك وبذات الأهمية؛ لمواجهه الفراغ القيادي الفلسطيني، والعجز عن إنهاء الانقسام السياسي والجغرافي الراهن، والتوافق على استراتيجية وطنية متماسكة وناجعة، تسمح بتطوير وتنمية المقاومة الشعبية، الأقل كلفة والأكثر جدوى، في مواجهة الاحتلال وتحقيق المصالح الوطنية، من الصراع الذي كان ولا يزال ماراثونياً بامتياز.
بدايةً؛ لا بد من الإشارة إلى تاريخ طويل وعريق من المقاومة الشعبية في فلسطين، بدءاً من الثورة الكبرى منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، التي استمرت ثلاث سنوات تقريباً، في بداية الاصطدام المباشر مع المشروع الاستعماري الصهيوني والاحتلال البريطاني الداعم له.
العلامة الأبرز بعد ذلك كانت الانتفاضة الأولى؛ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، التي كانت شعبية بامتياز، ومثّلت علامة فارقة في التاريخ الفلسطيني المعاصر، بل نقطة مفصلية في الصراع مع الاحتلال، كونها هدمت أساطير مؤسسة للمشروع الصهيوني، رغم التجيير السيئ لها من قبل القيادة الفلسطينية الرسمية، منها؛ فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، والسعي لتصفية القضية عبر طرح حلول مع الأردن، خياراً أو وطناً بديلاً، أو حتى الحكم الذاتي البلدي الموسع، وصولاً إلى اتفاق أوسلو سيئ الصيت.
لو تراجعت وتيرة العمل المسلح المنظمة، فالعمليات الفردية ستستمر حتماً، كما المقاومة الشعبية السلمية نفسها، رداً على تراجع السلطة وانفصالها وانفصامها عن الشارع الفلسطيني، واستمرار الانقسام السياسي والجغرافي
خلال السنوات الماضية، قبل هبّة الشيخ جراح؛ شهدنا حضوراً لافتاً للمقاومة الشعبية في بؤر ونقاط بلعين ونعلين والنبي صالح، مع صمود وتمسك بالأرض والحقوق، ونجاحات قضائية، واستقطاب التعاطف الدولي، ربما الأهم؛ إبقاء جذوة المقاومة الشعبية مشتعلة في ساحتها الأساسية والمركزية في الضفة الغربية، في مواجهة ترهل وعجز السلطة واستلابها واستغراقها في التنسيق الأمني مع الاحتلال، وشيوع العسكرة والاستلاب لفكرة جيش المقاومة في غزة، وعدم اعتبارها ساحة المقاومة المركزية فقط، بل نقطة انطلاق تحرير فلسطين، في تناقض وانفصام صارخ عن حقائق التاريخ والسياسة والجغرافيا، كما التطورات العربية والإقليمية والدولية العاصفة.
هنا لا بد من الانتباه إلى أن غزة نفسها قد لجأت إلى المقاومة الشعبية السلمية، عبر مسيرة العودة 2018، بغرض رفع الحصار؛ في إقرار ضمني بعجز العسكرة عن رفعه، والتسهيلات الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية، التي تعيشها غزة الآن، مرتبطة مباشرةً بالتفاهمات التي اتفق عليها بغرض إيقاف مسيرة العودة.
اكتسبت المقاومة الشعبية زخماً خلال الفترة الأخيرة، بدا المشهد مطلع العام الماضي 2021؛ هبّة الشيخ جراح وباب العامود، مبهجاً، أعادنا إلى سيرة الانتفاضة الأولى، التي ما زلنا نعيش أثارها الإيجابية، تحقيق أفضل وأكبر النتائج بأقل الأثمان والتكلفة، مع التفاف شعبي عربي ودولي واسع حول الهبّة، تفهم أسبابها ومطالبها العادلة في مواجهة التغيير الديمغرافي، والتهجير القسري غير الشرعي للاحتلال. بالعموم، تقبل الرواية الفلسطينية تجاه الصراع في فلسطين.
دخول غزة على الخط؛ اندلاع معركة سيف القدس، كسر الإطار السلمي، وأدى عملياً إلى إنهاء وانفضاض الهبة، كان من الآثار الجانبية السلبية للمعركة، فضلاً عن عودة النظام المصري للعمل وسيطاً؛ بل سمساراً، في الملف الفلسطيني، عملياً؛ ترك أهل القدس وحدهم مرة أخرى، ما شجع إسرائيل على السعي إلى انتزاع مكاسب منفردة عديدة عجزت عن تحقيقها بالجملة.
كنا للأسف أمام استسهال العمل العسكري، الذي يمكن تجييره حزبياً، على حساب الصبر والنفس الطويل، التضحية بالهبّة، التي كانت وطنية جامعة بامتياز، وأثارت اصطفافاً واسعاً إلى جانبها؛ عربياً وإقليمياً ودولياً، مع تعاطف في مختلف ساحات الرأي العام العالمية المؤثرة، الإعلامية والفكرية والثقافية والفنية والرياضية.
عموماً؛ أظهرت الهبّة الصراع على حقيقته؛ وجه الاحتلال البشع والمظلومية الفلسطينية، وعدالة القضية والشعب الصامد والمقاوم، عبر أساليب يفهمها ويتقبلها العالم، ناهيك؛ عن أنها أكثر جدوى وأقل تكلفة على الصعيدين البشري والمادي، مع الانتباه إلى قاعدة أو حقيقة؛ أن حق المقاومة مكفول للشعب الفلسطيني، هو يحدد الوسائل أو القيادة الشرعية والموحدة التي تمثله، لكنها غير موجودة حالياً، ما دفع؛ ويدفع، الشعب إلى تجاوزها وابتداع الأساليب المناسبة من أجل التصدي للاحتلال.
لا تزال المقاومة الشعبية مستمرة على اعتبارها الوسيلة المثلى لمواجهة بطش الاحتلال وجرائمه
رغم انتهاء وانفضاض هبة الشيخ جراح، تواصلت المقاومة الشعبية؛ بوتيرة منخفضة، في القدس، تحديداً في المسجد الأقصى والأحياء المحيطة به، حيث الصمود والتصدي لاقتحامات المستوطنين المدعومة رسمياً، سعياً إلى فرض تقسيم المسجد والحرم الشريف زمانياً ومكانياً.
بعد ذلك رأينا نموذجاً ساطعاً آخر للمقاومة الشعبية، عنوانه الأبرز؛ بلدة بيتا وجبل "صبيح"، نتيجة توحش الاستيطان، وسعي الحكومة الراحلة إلى إرضاء المستوطنين على أبواب الانتخابات؛ انعكس عليها سلباً بالنهاية، حين صوت المستوطنون لصالح النسخة الأكثر تطرفاً، للأصل بدلاً من الصورة.
أبدع أهل بيتا في المقاومة الشعبية، حين استلهموا من التراث الوطني الفلسطيني الثري، ومن مسيرة العودة في غزة وإرباكها الليلي، والمهرجانات والكرنفالات الحاشدة كل يوم جمعة، حتى أجبرت إسرائيل على التراجع وشق طريق التفافي، عبر إقامة معهد ديني كمستوطنة متنكرة، لكشف القناع عنها عندما تسمح الظروف.
تصاعدت المقاومة الشعبية بعد ذلك، أخذت طابعاً مسلحاً، أولاً؛ عبر العمليات الفردية تخطيطاً وتنفيذاً، في مواجهة المأزق السياسي، وانسداد الآفاق أمام الشباب الفلسطيني، وعجز السلطة عن حلّ مشاكل الناس، أو عن حمايتهم من الاحتلال.
حاز هذا النمط من المقاومة الشعبية؛ أيضاً، على تأييد جماهيري واسع، كما في نموذج الشهيد عدي التميمي الملهم، حين وقفت إسرائيل عاجزة أمامه، رغم إطلاق ما تسميها عملية كاسر الأمواج، التي أدت إلى مزيد من القتل والإجرام، وسياسة عدّ جثث للجيش الأكثر فتكاً حسب عقيدة رئيس الأركان أفيف كوخافي، لكن من دون أن ينال ذلك من عزيمة وإرادة الشعب الفلسطيني.
تطورت المقاومة الشعبية الفردية المسلحة؛ مع الوقت، إلى عمل أكثر تنظيماً؛ مع تجربة كتيبة جنين، رغم الحضور الفصائلي فيها، لكن الدعم والاحتضان الشعبي كان حاضراً، خاصةً؛ مع توسعها لتتجاوز الإطار الحزبي الضيق، كما في تجربة عرين الأسود في نابلس.
في السياق؛ لا يمكن تجاهل الأثر الذي تركته تجربة وبطولة أسرى نفق الحرية، التي دفعت مزيداً من الهواء في أشرعة المقاومة الشعبية مع الاحتضان والانبهار بما فعلوه.
في الأخير وباختصار؛ يبدو الانقسام الفلسطيني وكأنه يتجذر مع الوقت، إضافةً إلى ضعف السلطة وتطرّف الحكومة الإسرائيلية القادمة، بناءً عليه؛ سيكون هناك مزيد من المقاومة الشعبية؛ خاصةً في القدس، في ظل خطط وزير الأمن القومي؛ إيتمار بن غفير، توسيع الاقتحامات، وفرض السيطرة على المسجد، ثم التقسيم الزماني والمكاني، وتسريع وتيرة التهجير القسري والتغيير الديمغرافي في محيط الحرم والأحياء المحيطة به المطلة عليه. تولي رفيقه؛ بتسلئيل سموتريتش، مسؤولية ما تسمى الإدارة المدنية لجيش الاحتلال، وتشريع بؤر الاستيطان والتهويد والتهجير ومصادرة الأراضي.
عموماً؛ حتى لو تراجعت وتيرة العمل المسلح المنظمة، فالعمليات الفردية ستستمر حتماً، كما المقاومة الشعبية السلمية نفسها، رداً على تراجع السلطة وانفصالها وانفصامها عن الشارع الفلسطيني، واستمرار الانقسام السياسي والجغرافي، إذ تبدو غزة؛ رغم التضحيات الجسام، كأنها تدفع ثمن العسكرة المبالغ فيها، مع تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتسهيلات المسكنات الإسرائيلية، والعمل الدوؤب لربطها أو إلقاء مسؤوليتها تدريجياً على مصر، حيث نظامها مستعد؛ كما العادة، شرط قبض الثمن، وفق نظرته ومصلحته الفئوية الضيقة.