المغرب والجزائر: "القبائل" مقابل الصحراء

08 نوفمبر 2021
تفجرت الأزمة الحالية من الكركرات في نوفمبر الماضي (فاضل سنا/فرانس برس)
+ الخط -

الخلافات المغربية - الجزائرية ليست جديدة، بل مزمنة. لا تعود إلى التوتر الحالي الذي بدأ منذ حوالي عام في منطقة الكركرات (المتنازع عليها في الصحراء الغربية بين المغرب وجبهة البوليساريو)، إنما تذهب جذورها بعيداً في التاريخ، وتتعلق بالحدود، إلا أنه طغى عليها النزاع الذي بدأ بين البلدين مع جلاء إسبانيا عن الصحراء الغربية عام 1975، والتي يعتبرها المغرب من ترابه الوطني. ويستند المغرب في ذلك إلى الرأي الاستشاري من محكمة العدل الدولية حول الصحراء الغربية بعد رحيل إسبانيا، والذي ينصّ على أنّ "الصحراء الغربية لم تكن أرضاً بلا سيّد غداة الاستعمار الإسباني، بل كانت هناك روابط البيعة بين سلطان المغرب وقبائل الصحراء الغربية". ولم تقبل الجزائر هذا الحكم، وساندت شخصيات من الصحراء على تأسيس "جبهة البوليساريو" ودعمتها من أجل المطالبة بـ"حق تقرير المصير للشعب الصحراوي". وكان إعلان ما سميت بالجمهورية الصحراوية عام 1976 سبباً في قطع المغرب علاقاته الدبلوماسية مع الجزائر.

ترسيم الحدود المغربية - الجزائرية ملف معقّد ومتشابك، لم تتم تسويته حتى اليوم

تبدأ الحكاية من خلاف ترسيم الحدود المغربية - الجزائرية، وهو ملف معقّد ومتشابك، ولم تتم تسويته حتى اليوم. ويذكر مؤرخون مغاربة أنّ السلطان محمد الخامس رفض عرضاً مغرياً من فرنسا لترسيم الحدود مع الجزائر عام 1957، كي لا تفسّره فرنسا اعترافاً باحتلال الجزائر، وترك المغرب هذا الملف إلى حين استقلال الجزائر بوقت قصير، وجرت مفاوضات بين الطرفين لم تسفر عن تحريك الموقف الجزائري. وتطورت الخلافات إلى مناوشات حدودية أدت إلى ما عرف بـ"حرب الرمال" في أكتوبر/ تشرين الأول 1963، التي دارت على حدود الصحراء الغربية في ضواحي تندوف وحاسي البيضاء وفكيك، وتوقفت بوساطة من الجامعة العربية في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني من العام ذاته. وجرى التوصل إلى اتفاق رعته منظمة الوحدة الأفريقية وتم توقيعه في فبراير/ شباط 1964، ولكنه أبقى الجمر تحت الرماد، ليعود إلى الاشتعال مع كلّ أزمة بين البلدين، سواء كانت صغيرة أو كبيرة.

الأزمة الحالية تفجرت من قرية الكركرات في 13 نوفمبر من العام الماضي على حدود الصحراء، عندما قامت عناصر من "جبهة البوليساريو" عبر المنطقة العازلة بين الحدود الموريتانية - المغربية بنصب خيام في نقطة العبور التي تربط المغرب بالعمق الأفريقي، الأمر الذي دفع الرباط إلى التدخل لفض الاعتصام وإزالة الخيام، وفتح الطريق بين المغرب وموريتانيا بعد ثلاثة أسابيع على إغلاقه، وتم ذلك بإشراف قوات الأمم المتحدة. وما حصل يتجاوز في أبعاده إزالة المخيم من نقطة حدودية، كانت تقع تحت إشراف قوات الأمم المتحدة، بل هو ربط المغرب حدوده مع موريتانيا بجدار أمني عازل، وقطع الطريق على "البوليساريو" للوصول إلى المحيط الأطلسي، ما أبقاها محاصرة في الشرق ما بين منطقة تندوف الجزائرية والجدار المغربي المضروب من حول القسم الأكبر من الصحراء الذي يسيطر عليه المغرب، ويشكل حوالي 80 في المائة من مساحتها البالغة 252 ألف كيلومتر مربع.

وأعقبت هذه العملية النوعية تطورات مهمة عدة في ملف الصحراء. الأول هو اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء. ففي 10 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب اعتراف بلاده بسيادة المغرب على إقليم الصحراء، وفتح قنصلية أميركية في مدينة الداخلة. وقال ترامب في تغريدة له على "تويتر": "اقتراح المغرب الجاد والواقعي للحكم الذاتي هو الأساس الوحيد لحل عادل ودائم لتحقيق السلام الدائم والازدهار". وذهب ترامب أبعد، حين أكد أنّ "الولايات المتحدة تعتقد أنّ قيام دولة صحراوية مستقلة ليس خياراً واقعياً لحل النزاع، وأنّ الحكم الذاتي الحقيقي تحت السيادة المغربية هو الحلّ الوحيد الممكن". وشكّلت هذه التغريد انقلاباً ونقطة مهمة ضد الجزائر، التي تدعم "البوليساريو" وتقف إلى جانبها بقوة منذ بدء النزاع، وهي تناصر مشروع إقامة جمهورية صحراوية، وتعارض بشدة مشروع الاستفتاء الذي طرحه مجلس الأمن في عام 1991 بعد وقف إطلاق النار وإرسال قوات دولية للمنطقة. وكان قد سبق الموقف الأميركي قرار كلّ من الأردن والإمارات والبحرين فتح قنصليات لها في مدينة العيون، كبرى مدن الصحراء، ويشكل ذلك أول اعتراف صريح من قبل دول عربية بمغربية الصحراء، بعدما كان الأمر يقتصر على دول أفريقية عدة.

دخلت الرباط على ملفات الخلافات الجزائرية الداخلية

التطور الدبلوماسي الثاني الذي جاء في صالح المغرب، تمثل في القرار الذي صدر عن مجلس الأمن الدولي في نهاية شهر أكتوبر الماضي، ليجدد مهمة بعثة الأمم المتحدة في الصحراء لمدة عام، ودعا إلى استئناف المفاوضات تحت رعاية المبعوث الأممي الجديد الإيطالي ستيفان دي ميستورا، من أجل "الوصول إلى حل سياسي عادل ودائم ومقبول للطرفين" بهدف "تقرير مصير شعب الصحراء الغربية". وأبدت الجزائر استياءها من القرار، لأنّه يتراجع في نظرها عن قرارات سابقة، كانت تنص على "تقرير مصير الشعب الصحراوي"، وهنا يكمن سبب ترحيب المغرب بالقرار على لسان وزير الخارجية ناصر بوريطة. ورأى بوريطة أنه "قرار مهم بالنظر لسياقه... يقدم أجوبة مهمة على مناورات الأطراف الأخرى"، بينما أعرب ممثل "جبهة البوليساريو" لدى الأمم المتحدة، سيدي محمد عمار، عن استيائه إزاء هذا القرار "الذي حكم مسبقاً بالفشل على مهمة المبعوث الأممي". وهذا أول تطور من نوعه في النزاع الذي يدور منذ عقود بين المغرب والجبهة، التي أعلنت بعد أحداث الكركرات انسحابها من قرار وقف إطلاق النار، الذي صدر عن الأمم المتحدة عام 1991، وبالتالي بات المشهد مفتوحاً على شتى الاحتمالات.

وهناك من بين الخبراء المتابعين لشؤون المنطقة من يرجح إمكانية التصعيد واتساع مجاله بسبب تنامي الخلافات بين الجزائر والمغرب، والتي أخذت أبعاداً بينية منذ يوليو/ تموز الماضي، حين دخلت الرباط على ملفات الخلافات الجزائرية الداخلية، خلال المناقشة الوزارية العامة في اجتماع حركة عدم الانحياز، الذي عقد بشكل افتراضي يومي 13 و 14 يوليو/ تموز الماضي، ورد السفير الممثل الدائم للمغرب لدى الأمم المتحدة، عمر هلال، على وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة في مذكرة وجهها إلى الرئاسة الأذربيجانية للحركة، ووزعت على جميع الأعضاء، وذلك بسبب تطرقه لموضوع قضية الصحراء. وجاء في المذكرة المغربية أن الوزير الجزائري، الذي "يقف كمدافع قوي عن حق تقرير المصير، ينكر هذا الحق نفسه لشعب القبائل، أحد أقدم الشعوب في أفريقيا، والذي يعاني من أطول احتلال أجنبي". وأضاف هلال أن "تقرير المصير ليس مبدأ مزاجياً. ولهذا السبب يستحق شعب القبائل الشجاع، أكثر من أي شعب آخر، التمتع الكامل بحق تقرير المصير".

كان أول رد فعل للجزائر أنها استدعت سفيرها من المغرب، عبد الحميد عبداوي، وقطعت العلاقات بعدها، وصدر عنها بيان شديد اللهجة يصف المذكرة المغربية بأنها انخراط في حملة معادية للجزائر من خلال "الدعم العام والصريح لحق مزعوم في تقرير المصير لشعب القبائل". واعتبر البيان أن هذه المذكرة "اعتراف بالدعم المغربي متعدد الأوجه المقدم حالياً لمجموعة إرهابية معروفة"، في إشارة إلى حركة "الماك" الانفصالية التي صنفتها الجزائر أخيراً حركة إرهابية.

ورقة القبائل على درجة عالية من الحساسية، وسبق للمغرب أن لعبها في عام 1963

ويقود هذا التراشق إلى توازن جديد للرعب بين البلدين. المغرب يلعب ورقة القبائل ويربطها بالصحراء. وهذا أهم تطور من نوعه منذ استقلال الجزائر، ثم إن هذه الورقة على درجة عالية من الحساسية، وسبق للمغرب أن لعبها في عام 1963 عندما أيّد انتفاضة أحد قادة جبهة التحرير حسين آيت أحمد في منطقة القبائل، والتي استمرت أشهراً عدة وسقط خلالها مئات القتلى، عندما اصطدم مع الرئيس الجزائري حينذاك أحمد بن بله، وحمل السلاح، ودخل متخفياً إلى منطقة القبائل التي ينحدر منها، ولكنه أوقف عام 1964، وحكم عليه بالإعدام، ثم أفرج عنه وغادر الجزائر.

يترتب على التداعيات الحالية أكثر من قطع العلاقات الدبلوماسية، بل هناك حالة من الاستنفار العسكري بين البلدين لا تشبه ما جرى في توترات سابقة، كما حصل حين قطع المغرب العلاقات مع الجزائر عام 1976، بعد وقوفها وراء مشروع قيام "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية"، ولم تستأنف إلا في 1988 بعد وساطة سعودية، شكلت فاتحة تعاون بين البلدين. ومن بين ثمارها التوصل إلى إعلان اتحاد المغرب العربي في 17 فبراير 1989 في مدينة مراكش، وقد ضمّ كلاً من المغرب، الجزائر، ليبيا، تونس، وموريتانيا. وكان هذا المشروع واعداً حين قاد على نحو خاص إلى فتح الحدود بين أكبر بلدين عضوين فيه، هما المغرب والجزائر، واللذان يشكلان 80 في المائة من اقتصاد دول هذه المنطقة و75 في المائة من سكانها. ولكن الخلافات الثنائية بين هاتين الدولتين حالت دون تقدم هذا المشروع، الذي وقفت أطراف دولية ضد تفعيله، لأنه يوحّد قرابة 100 مليون نسمة، يعيشون على مساحة تعادل مساحة الاتحاد الأوروبي بست مرات. وفي عام 1992، عادت الجزائر وأغلقت حدودها مع المغرب، وهذا الأمر لا يزال ساري المفعول حتى الآن.

أما اليوم، فإن تطورات الأزمة توحي بما هو أبعد من قطع العلاقات الدبلوماسية، وإغلاق المجال الجوي ووقف مرور الغاز من الجزائر إلى إسبانيا عبر المغرب. فثمة مناوشات عسكرية في الآونة الأخيرة، واتهمت الجزائر المغرب في مطلع نوفمبر الحالي بـ"اغتيال 3 مواطنين في قصف همجي من طرف الاحتلال المغربي بالصحراء الغربية". وقال البيان الجزائري إن الضحايا يعملون في مجال النقل على خط ورقلة الجزائرية - نواكشوط الموريتانية.

النزاع يتطور بسرعة وسط ردود فعل دولية باردة جداً، سواء من طرف الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، ويحتمل ذلك تفسيران. الأول هو احتمال أنّ التوتر لن يتجاوز السقف الحالي، لأن الطرفين يدركان أن تبعات الحرب كبيرة. والثاني هو أن تفجر الأوضاع في شمال أفريقيا بالنسبة لبعض الدول الأوروبية يتيح هامشاً لخلط الأوراق والحصول على بعض المزايا، كما حصل في ليبيا.

 

المساهمون