على وقع أزمة مكتومة مستمرة منذ أشهر بين المغرب وإسبانيا، وفي سياق إقليمي متقلب ومتحول، منذ فرض الجيش المغربي سيطرته على معبر الكركرات الحدودي مع موريتانيا، تعود بوادر التصعيد مجدداً إلى العلاقات بين الطرفين، لاسيما حول أزمة الصحراء وجبهة "البوليساريو"، بعد استقبال مدريد زعيم الجبهة إبراهيم غالي، للعلاج، إثر تدهور وضعه الصحي جرّاء إصابته بفيروس كورونا. وبدت لافتة ارتدادات الكشف عن الدخول السرّي لزعيم "البوليساريو" إلى الأراضي الإسبانية، مساء الأربعاء الماضي، ببطاقة هوية جزائرية مزيفة، والتي لا تزال متواصلة، بعدما سارعت وزارة الخارجية المغربية إلى استدعاء السفير الإسباني في الرباط، ريكاردو دييز هوشلايتنر، أول من أمس السبت، للتعبير عن استياء المغرب من موقف بلاده، الذي وصفته الخارجية المغربية بأنه "غير عادل"، ولتأكيد "عدم تساهل المغرب في قضية وحدته الترابية باعتبار الصحراء موضوعاً وجودياً للمملكة المغربية"، وأن "تجاهل هذا الواقع هو عمل ضد الشراكة الاستراتيجية بين البلدين".
تدور العلاقات بين المغرب وإسبانيا منذ سنوات في فلك ما يصطلح على تسميته بـ"الجوار الحذر"
ويبدو أن استدعاء الخارجية المغربية للسفير الإسباني، ليس سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد المرتبطة بالأزمة الصامتة بين البلدين، والتي تلقي بظلالها على العلاقات الثنائية منذ أشهر. وأصبح السؤال المطروح اليوم يدور حول سقف التوتر الجديد، وإن كان سيتحول إلى أزمة دبلوماسية تُنذر بالأسوأ، خصوصاً في ظلّ تحول لافت للدبلوماسية المغربية نحو المواجهة.
في الخلفية، تبدو مصادر الخلاف المغربي - الإسباني على امتداد السنوات الماضية، متعددة ومتداخلة، يتقاطع فيها التاريخي مع الاستراتيجي، وتتعارض داخلها المصالح الاقتصادية، فيما تلتقي عندها التحديات الأمنية. فعلى الرغم من التعاون الأمني والاستخباري الوثيق بين الطرفين لمحاربة الإرهاب والجماعات المتطرفة، وعلى الرغم من كون إسبانيا هي الشريك التجاري الأول للمغرب منذ العام 2012، فإنّ ذلك لم يمنع إطلاقاً حصول ما بات يصطلح على تسميته بـ"الجوار الحذر" بين البلدين، بالنظر إلى حجم الملفات الساخنة التي غالباً ما تفضي إلى توتّر العلاقات الثنائية، ومنها ملف الصحراء، وخصوصاً مقاربة الحزب الاشتراكي الإسباني للنزاع، وأيضاً ملف الهجرة السرّية، وموضوع مدينتي سبتة ومليلية، وصولاً إلى الاتفاقيات الزراعية.
وخلال الأسابيع الماضية، عاد الحديث بقوة إلى الواجهة عن وجود توتّر غير معلن في العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين مدريد والرباط، بدليل التأجيل المتكرّر للقمة الإسبانية - المغربية، التي كان من المقرّر عقدها في 17 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وتم تأجيلها لأكثر من مرة إلى موعد لم يحدد حتى اليوم. وفي 22 ديسمبر الماضي، تفجر توتر جديد بين البلدين بعدما استدعت الخارجية الإسبانية، بشكل عاجل، السفيرة المغربية في مدريد، كريمة بنيعيش، لتقديم توضيحات حول تصريحات تلفزيونية كان أدلى بها رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني، بخصوص مغربية مدينتي سبتة ومليلية الخاضعتين للإدارة الإسبانية. وقبل ذلك، شهدت العلاقات بين الدولتين الجارتين توتراً آخر، بعد إعلان الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، في 10 ديسمبر الماضي، اعترافه بسيادة المغرب على الصحراء، إذ اعتبرت مدريد على لسان وزارة خارجيتها أن القرار الأميركي لا يخدم نزاع الصحراء، بل يزيده تعقيداً، لأنه يقوم على ما وصفته بـ"القطبية الأحادية"، وليس على البحث عن الحلّ الذي تشارك فيه مختلف الأطراف، سواء القوى الممثلة في مجلس الأمن أو القوى الإقليمية التي لديها علاقة بالنزاع، وبالتالي ضمان استمرار الحلّ.
وفي وقت اعتبرت فيه الأوساط الإسبانية أنّ الخطوة الأميركية وتمدّد المغرب في الصحراء، من شأنهما إضعاف موقف مدريد على المستوى الإقليمي أكثر، مشيرة أيضاً إلى أن الرباط تحظى أيضاً بدعم لندن لعزل إسبانيا بشأن قضية الصحراء، كان لافتاً أيضاً حرص وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، في ذلك الوقت، وبالتزامن مع قرار ترامب، على بعث رسالة مباشرة إلى الجارة الشمالية، عنوانها أن المغرب لن يقبل مستقبلاً من أي دولة، الحديث عن حلّ عادل ودائم (لقضية الصحراء)، بل فقط عن مقترح الحكم الذاتي كأرضية لحلّ النزاع.
كما كان افتتاح "المرصد الأفريقي للهجرة"، في الرباط، في ديسمبر الماضي، مناسبة لبعث بوريطة رسالة أخرى إلى مدريد، مفادها أن بلاده لن تلعب دور الشرطي لأي جهة ما، أو دور الدركي لأوروبا، في وقت كان فيه الائتلاف الحكومي اليساري في إسبانيا، بقيادة رئيس الحكومة بيدرو سانشيز، يحاول إعادة تفعيل عمليات الترحيل إلى المغرب، في محاولة منه لمواجهة ما تعيشه إسبانيا من أزمة هجرة كبيرة في جزر الكناري.
إعلان ترامب اعتراف بلاده بسيادة المغرب على الصحراء وتّر الأجواء أكثر بين مدريد والرباط
وقبل ذلك، شكلت ثلاثة قرارات اتخذها المغرب منذ الأول من أغسطس/ آب 2018، والمتمثلة بإغلاق المعبر البرّي الجمركي بني أنصار على حدود مليلية المحتلة (شمال شرق المغرب)، وإغلاق معبر باب سبتة الثاني (تارخال 2 في المصطلح الإسباني)، وترسيم حدوده البحرية وتحديدها قبالة جزر الكناري، مؤشرات أخرى على توتر العلاقات بين البلدين.
ولئن كانت تلك المؤشرات تأتي في سياق يجعل العلاقات بين الرباط ومدريد على المحك، فإن الأمور لا تبدو، بحسب مراقبين مغاربة، متجهة إلى تأزم على خلفية سماح إسبانيا لزعيم "البوليسايو" بالعلاج في أراضيها، بل ربما إلى مستوى معين من التوتر يسمح للطرفين أو يدفع بهما إلى تسوية أكثر ملاءمة لمصالح كلّ منهما خلال الأسابيع المقبلة.
وبرأي مراقبين مغاربة، فإن تجارب الأزمات السابقة تشير إلى أن مدريد والرباط تدركان جيّداً سبل وتوقيت وحدود استغلال القضايا الخلافية بينهما بحسب ظروف الأزمات التي تمر بها علاقاتهما، وأن ما يمكن أن يشكل أسباباً لها اليوم، قد يتحول غداً إلى سبيل للتعاون والتفاهم اللذين يحتمهما التاريخ المشترك، ويفرضهما الموقع الجغرافي وتمليهما المصالح المتداخلة.
وبرأي الباحث المغربي في العلاقات الدولية، بوبكر أونغير، فإن ما يجمع الرباط ومدريد أكثر ممّا يفرقهما، وأنه بحكم التاريخ والجغرافيا، لا يمكن إلا أن يحافظا على علاقتهما وحسن الجوار، لاسيما أن إسبانيا شريك اقتصادي للمغرب، فيما تلعب الرباط دوراً كبيراً في الحفاظ على أمن واستقرار الجارة الشمالية. ورأى أونغير، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن مصلحة مدريد هي بالحفاظ على علاقات مميّزة مع المغرب، باعتباره بلد عبور لآلاف الأفارقة نحو الضفة الأخرى، لافتاً إلى أن "التصرف المغربي باستدعاء السفير الإسباني في محلّه، لأن الرباط ضاقت ذرعاً بازدواجية المواقف الإسبانية، وباستمرار مدريد في لعب أدوار غامضة وغير مفهومة في علاقتها مع الوحدة الترابية المغربية". ورأى الباحث المغربي، أن ما لا تعيه مدريد، هو أن الدبلوماسية المغربية غيّرت أسلوب عملها خلال السنوات الأخيرة الماضية، من دبلوماسية متسامحة إلى درجة كبيرة، إلى أخرى فاعلة مؤثرة ومستعدة للمواجهة الدبلوماسية.
وذهب الباحث المغربي إلى القول إن خطوة بلاده الأخيرة باستدعاء السفير الإسباني لديها تهدف إلى بعث رسالة إلى الساسة الإسبان، ومن خلفهم إلى الأوروبيين، بأن الرباط لا يمكن أن تقبل بعد الآن اللعب على الحبلين وازدواجية المواقف بخصوص قضية مصيرية بالنسبة للمغرب، وهي الوحدة الترابية.