اهتز الجمود الذي يحيط بملف الصراع في الصحراء، بتحرك عسكري مغربي، أمس الجمعة، لطرد جبهة "البوليساريو" من المنطقة العازلة في الكركرات بعدما عمد عناصر الجبهة إلى إقفال المعبر الحدودي مع موريتانيا قبل أيام، لتعلن الرباط سريعاً انسحاب عناصر الجبهة من المنطقة، في وقت كان مسؤولو "البوليساريو" يعتبرون ما حصل إعلان حرب، مهددين بالرد. التطورات المتسارعة أمس تشكّل مرحلةً مفصلية في تاريخ النزاع في الصحراء، مع انتظار تداعياتها على مصير وقف إطلاق النار والمسار الأممي لحل الملف، كما تفتح العملية العسكرية المغربية الباب أمام عدد من السيناريوهات، يتصدرها الدخول في مرحلة فرض واقع جديد في مسار الملف الذي يعرف جموداً منذ استقالة المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة بالصحراء، هورست كوهلر، في 2019، وصولاً إلى احتمالات اندلاع حرب إقليمية في المنطقة.
وبدأت بوادر الأزمة منذ عودة التوتر إلى منطقة المعبر الحدودي "الكركرات"، الرابط بين المغرب وموريتانيا، منتصف الشهر الماضي، بالتزامن مع مناقشة مجلس الأمن الدولي قرار التمديد لبعثة الأمم المتحدة في الصحراء، بعدما عمد محسوبون على "البوليساريو" إلى إغلاق المعبر، على الرغم من التحذير الذي كان قد أطلقه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، ودعوته إلى التحلي بأقصى درجات ضبط النفس ونزع فتيل أي توتر. لكن قيادة "البوليساريو" واصلت التصعيد بإعلانها، الأربعاء الماضي، أن "تخطي القوات المغربية للجدار الرملي يعني العودة إلى الحرب"، وتأكيدها أن إغلاق المعبر "قرار نهائي لن تتراجع عنه"، وأن نشطاءها في المنطقة "باتوا يتحركون بكل أريحية وصولاً إلى شواطئ المحيط الأطلسي".
في ظل هذا الواقع، أعلنت وزارة الخارجية المغربية في بيان، أمس، أنه "أمام الاستفزازات الخطيرة وغير المقبولة لمليشيات البوليساريو في المنطقة العازلة بالكركرات، قرر المغرب التحرك وتحمل مسؤولياته من أجل وضع حد لحالة العرقلة الناجمة عن هذه التحركات وإعادة إرساء حرية التنقل المدني والتجاري"، مشيرة إلى أن "البوليساريو ومليشياتها، التي تسللت إلى المنطقة منذ 21 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، قامت بأعمال عصابات هناك، وبعرقلة حركة تنقل الأشخاص والبضائع على هذا المحور الطرقي، والتضييق باستمرار على عمل المراقبين العسكريين للمينورسو". واعتبرت أن "هذه التحركات تشكل أعمالاً متعمدة لزعزعة الاستقرار وتغيير الوضع بالمنطقة، وتمثل انتهاكا للاتفاقات العسكرية، وتهديداً حقيقياً لاستدامة وقف إطلاق النار".
الخارجية المغربية: تحركات "البوليساريو" تشكل أعمالاً متعمدة لزعزعة الاستقرار وتغيير الوضع بالمنطقة
من جهتها، كشفت القوات المسلحة المغربية في بيان، أنه "إثر الحصار الذي قام به نحو ستين شخصاً تحت إشراف عناصر مسلحة من البوليساريو في محور الطريق الذي يقطع المنطقة العازلة بالكركرات ويربط المغرب وموريتانيا، وتحريم حق المرور، انتقلت القوات المسلحة الملكية، ليلة الخميس-الجمعة، إلى إقامة طوق أمني من أجل تأمين السير العادي للبضائع والأشخاص في المنطقة". وأكدت أن هذه العملية غير هجومية، ومن دون أي نيّة قتالية، وتتم وفقاً لقواعد واضحة للاشتباك، تتطلب تجنب أي اتصال بالناس المدنيين وعدم اللجوء إلى استخدام السلاح إلا للدفاع عن النفس.
كذلك، قال وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة لوكالة "فرانس برس": "لا يتعلق الأمر بعملية هجومية إنما هو تحرك حازم إزاء هذه الأعمال غير المقبولة"، مؤكداً أن عناصر المينورسو الموجودين على الأرض "سجلوا عدم حدوث أي احتكاك مع المدنيين". وأشار مسؤول في وزارة الخارجية المغربية متحدثاً لـ"فرانس برس"، إلى أن موريتانيا و"دولاً أخرى معنية بالملف" أبلغت بالعملية قبل إطلاقها.
وعصراً، أعلن رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني، الذي التقى زعماء الأحزاب السياسية، أن "تدخل الجيش في الكركرات اتسم بالاحترافية والدقة وأدى إلى انسحاب عناصر البوليساريو المدنية والعسكرية من دون أي حادث يذكر". وفيما أكدت كل الأحزاب دعمها للعملية، قالت مصادر حزبية مغربية، حضرت اللقاء، لـ"العربي الجديد"، إن رئيس الحكومة أكد الاحترام الكامل للشرعية الدولية، حيث تم إطلاق رصاص عشوائي، وإزالة الخيام التي كانت قد نصبت في المنطقة، من دون تسجيل أي احتكاك للجيش مع المدنيين. فيما قال الأمين العام لحزب "التقدم والاشتراكية" المعارض محمد نبيل بنعبد الله، الذي شارك في الاجتماع، لـ"العربي الجديد"، إن تدخل الجيش المغربي أدى إلى انسحاب عناصر الانفصاليين المدنيين والعسكريين، وإزالة الخيم دون أي حادث يذكر، مضيفاً أن "المغرب استرجع السيطرة المطلقة على حدوده وأرجع الأمور إلى نصابها باستئناف عمل المعبر"، كاشفا أن القوات المغربية تمكنت من إقامة جدار أمني يؤمن الوضع مستقبلا ضد أي وجود لعناصر "البوليساريو" في منطقة الكركرات. ويتعلق الأمر بمسافة سبعة كيلومترات غير مبنية ضمن الحدود مع موريتانيا، كانت تستغلها عناصر الجبهة لإغلاق المعبر.
في المقابل، أعلنت ما تسمى بـ"وزارة الدفاع في الحكومة الصحراوية" التابعة للجبهة أن اشتباكات اندلعت لحوالي 35 دقيقة، ولم يتم تسجيل أي إصابات أو خسائر في صفوف مقاتلي الجبهة، وتوقفت المواجهات في وقت لاحق. كما قالت الجبهة في بيان، إنها اتخذت قرار العودة لحمل السلاح، متهمة في بيان، المغرب بخرق اتفاق وقف إطلاق النار الموقع سنة 1991، ومعلنة "اندلاع الحرب". فيما قال سفير "البوليساريو" لدى الجزائر، عبد القادر عمر، إن القوات المغربية "فتحت النار على متظاهرين مدنيين أبرياء"، وإن مقاتلي الجبهة قدموا للدفاع عن المتظاهرين، ما أدى إلى "اشتباكات عنيفة". وأضاف في حديث لشبكة "البلاد" التلفزيونية الجزائرية، أنه "من واجب الأمم المتحدة التدخل بشكل عاجل لوقف هذا العدوان على الشعب الصحراوي". وأرسل رئيس جبهة "البوليساريو" إبراهيم غالي رسالة عاجلة إلى الأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بشأن التدخل، بحسب وكالة الأنباء الجزائرية.
من جهتها، دعت وزارة الخارجية الجزائرية إلى الوقف الفوري للعمليات العسكرية "التي من شأن انعكاساتها أن تؤثر على استقرار المنطقة برمتها". وحثت في بيان الطرفين "إلى التحلي بالمسؤولية وضبط النفس، والاحترام الكامل للاتفاق العسكري رقم 1 الموقع بينهما وبين الأمم المتحدة"، مستنكرة "بشدة الانتهاكات الخطيرة لوقف إطلاق النار".
أعلنت الجبهة العودة لحمل السلاح، متهمة المغرب بخرق اتفاق وقف إطلاق النار
وسبقت أحداث الأمس رسالة تحذير شديدة اللهجة كان قد وجهها العاهل المغربي الملك محمد السادس إلى الجبهة، ليلة السبت الماضي، حيث أعلن أن بلاده "ستتصدى بكل قوة وحزم للتجاوزات التي تحاول المساس بسلامة واستقرار أقاليمه الجنوبية"، وذلك في ردّ على عرقلة محسوبين على الجبهة السير في معبر الكركرات، واستفزاز الجيش المغربي خلال الأسابيع الماضية. وأكد العاهل المغربي، في خطاب ألقاه بمناسبة الذكرى الـ45 للمسيرة الخضراء، رفض بلاده القاطع للممارسات المرفوضة ومحاولة عرقلة حركة السير الطبيعي بين المغرب وموريتانيا، أو تغيير الوضع القانوني والتاريخي شرق الجدار الأمني، أو أي استغلال غير مشروع لثروات المنطقة.
وفي موازاة أجواء التوتر، كانت الأمم المتحدة قد عبّرت، أمس الأول الخميس، عن قلقها من خطورة الوضع في معبر الكركرات، خلال اتصال هاتفي جرى بين الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، ووزير الخارجية الموريتاني إسماعيل ولد الشيخ أحمد.
وهذه ليست المرة الأولى التي يثير فيها معبر الكركرات أزمة بين أطراف نزاع الصحراء، فمنذ العام 2016 ضاعفت "البوليساريو" تحركات اعتبرها المغرب خطيرة وغير مقبولة في هذه المنطقة، وانتهاكاً للاتفاقات العسكرية، فيما توالت تنبيهات الأمين العام للأمم المتحدة ودعواته للجبهة لـ"وضع حد" لهذه الأعمال وضبط النفس. وتُعتبر منطقة الكركرات منطقة منزوعة السلاح بموجب اتفاق وقف إطلاق النار (1991)، الذي ترعاه الأمم المتحدة، والذي يعتبر الجدار الذي شيده المغرب في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي خطاً لوقف النار، وتنتشر القوات الأممية "المينورسو" لمراقبة تنفيذه.
وفي ظل تطورات الأمس، بات السؤال المطروح حول المدى الذي يمكن أن يصل إليه التصعيد في المنطقة. ورأى مراقبون أن سيناريو اندلاع حرب في الصحراء بين المغرب و"البوليساريو" يبقى مستبعداً، باعتبار أن الحرب لن تكون في الواقع بين هذين الطرفين بل بين المغرب وجارتها الجزائر في مواجهة ميدانية مباشرة، وهو سيناريو لن تسمح به العديد من القوى الدولية التي لا ترى أي مصلحة لها في اندلاع حرب عسكرية في الصحراء، بقدر ما سيضرّ بمصالحها الاستراتيجية والأمنية، خصوصاً في خضم استفحال تهديدات الجماعات الإرهابية في الساحل الأفريقي وجنوب الصحراء واستمرار الأزمة الليبية.
يستبعد مراقبون اندلاع حرب في الصحراء بين المغرب و"البوليساريو"
واعتبر رئيس مركز الصحراء وأفريقيا للدراسات الاستراتيجية عبد الفتاح الفاتحي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن التدخل المغربي مجاله مضبوط وواضح هو المنطقة العازلة، لكن الأسوأ سيحدث إذا قامت الجبهة باستعمال التراب الجزائري للهجوم على المغرب، مستبعداً هذا السيناريو بالقول: "لا أعتقد أن الجزائر سيورط نفسه في قضية باتت خاسرة". ولفت الفاتحي إلى أن "المغرب بعد هذا التحرك بصدد إنهاء التعاطي مع "البوليساريو"، إذ لم تعد طرفاً في النزاع لأنها باتت في وضع تمرد على الشرعية الدولية"، لافتا إلى أن المغرب يحظى بتأييد دولي للقيام بما يلزم، لا سيما أن واقعة الانتهاك الممنهج للاتفاق العسكري كانت واضحة ومتكررة ومعلنة بشكل صريح. واعتبر أن "تحرك الأمس يجعلنا نعيش تدخلاً عسكرياً ينهي عضوية الجبهة كطرف في نزاع الصحراء. وهو ما يعني أن هذا التدخل متوافق مع القانون الدولي، حيث أكد القرار 2548 أن الجزائر طرف رئيس في النزاع"، متوقعاً أن تكون التسوية ثنائية بين المغرب والجزائر مع طرف مراقب هو موريتانيا.
من جهته، ذهب الباحث في الشؤون الصحراوية نوفل البوعمري، في تحليله لسيناريوهات ما بعد التحرك العسكري المغربي في الكركرات، إلى أن الأمر لا يتعلق بإعلان الحرب من قِبل المغرب بقدر ما هو تحرك أمني فرضته التطورات الأخيرة التي شهدتها المنطقة ككل منذ قيام عناصر الجبهة بخرق اتفاق وقف إطلاق النار عند قيامها بتحركات مشبوهة بالمنطقة العازلة، سواء في تيفاريتي أو بئر لحلو، ثم لاحقاً في الكركرات، حيث قامت عناصر الجبهة باستفزازات كبيرة ومرفوضة للقوات المغربية التي واجهت الأمر بالكثير من الانضباط والحكمة. واستبعد البوعمري، في حديث لـ"العربي الجديد"، سيناريو اندلاع حرب تشمل الجزائر، معتبراً أن التحرك المغربي جاء في سياق ميداني ثم سياق أممي بعد قرار مجلس الأمن حول الصحراء 2548 الصادر في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وهو "القرار الذي وضع جبهة البوليساريو خارج الشرعية الدولية وخارج سياق مسلسل التسوية السياسية للملف".