على الرغم من مرور نحو ثلاث سنوات على آخر المعارك المباشرة بين القوات العراقية ومسلحي تنظيم "داعش"، نهاية عام 2017، والتي انتهت بتحرير مدينة القائم، أقصى غربي العراق، والقصبات المجاورة لها، إلا أنّ وجود ما يعرف بالمستشارين الإيرانيين في العراق ما زال مستمراً. وبين هؤلاء من يقيم بالعراق، وآخرون يصلون إلى البلاد بشكل غير معلن، ومقصدهم مقرات "الحشد الشعبي"، وتحديداً تلك الفصائل الأكثر قرباً من طهران وتمتلك أجنحة مسلحة لها في سورية، مثل كتائب "حزب الله" و"النجباء" و"الخراساني" و"سيد الشهداء" و"الطفوف" و"البدلاء" و"العصائب" و"بدر" وغيرها. ويضطلع هؤلاء المستشارون بمهام مختلفة، أبرزها تطوير ترسانة فصائل "الحشد" والتدريب الذي يتركز عادة على حرب الشوارع، في صورة لا تختلف كثيراً عن تلك الموجودة في سورية، حيث تنتشر أعداد كبيرة من قوات "فيلق القدس"، ويحملون الصفة ذاتها "المستشارون".
وبعد اجتياح تنظيم "داعش" مساحات واسعة من الأراضي العراقية منتصف عام 2014، دخلت أعداد كبيرة من عناصر "فيلق القدس" الإيراني للعراق، قُدّر عددهم بالمئات، غير أنّ السلطات العراقية وقيادات سياسية وأخرى مسلحة اعتبرت أنهم "مستشارون" على غرار المستشارين الأميركيين العاملين في قوات التحالف الدولي، في مقاربة بدت أنها سياسية أكثر من كونها واقعية. وقتل عدد غير قليل من هؤلاء في العراق، أبرزهم الجنرال حميد تقوي، الذي ينسب له الإشراف على تأسيس عدد غير قليل من الفصائل العراقية التي تقاتل في العراق وسورية، مثل "كتائب حزب الله" و"سيد الشهداء" و"الطفوف" وغيرها. وكان الحضور الأبرز لهؤلاء المستشارين في معارك جرف الصخر وتكريت والفلوجة والكرمة وبيجي، وهي المدن ذاتها التي شهدت أعلى معدلات الانتهاكات الإنسانية وطاولها تدمير واسع.
قتل عدد غير قليل من هؤلاء المستشارين في العراق
وعلى الرغم من تأكيد السفير الإيراني في بغداد إيرج مسجدي، نهاية عام 2018، انسحاب جميع من وصفهم بـ"المستشارين الإيرانيين من الأراضي العراقية بعد إعلان النصر على الجماعات الإرهابية"، وهو الإعلان الوحيد من نوعه، إذ لم يصدر عن بغداد بيان أو تصريح رسمي تعلن فيه انسحابهم من العراق بشكل نهائي، إلا أنّ مصادر أمنية عراقية في بغداد وديالى (شرق العراق)، كشفت لـ"العربي الجديد"، عن استمرار وجود الإيرانيين الذين يعملون بصفة مستشارين في العراق، وجميعهم من العناصر التابعة للحرس الثوري الإيراني، ضمن "فيلق القدس". وبينهم من يقيم بشكل مستمر في العراق، وآخرون يترددون إليه بزيارات دورية، وآخر من تم رصده من هؤلاء كان في قاعدة "معسكر أشرف"، بمحافظة ديالى، شرقي العراق، في الحادي عشر من أغسطس/ آب الماضي.
ومعسكر أشرف هو الموقع السابق لحركة "مجاهدي خلق" الإيرانية المعارضة، ويقع على بعد 20 كيلومتراً من مدينة الخالص، شرق بعقوبة، مركز محافظة ديالى الحدودية مع إيران. وتم إجلاء الحركة منه عام 2012، قبل أن يغادر جميع عناصرها عام 2016 العراق، بطلب من الحكومة العراقية التي اعتبرتهم غير مرغوب بهم.
ويقدر عدد المستشارين الإيرانيين في العراق بالعشرات، ويتواصلون بالعادة مع "أركان هيئة الحشد الشعبي"، التي يتولاها منذ أشهر عدة عبد العزيز المحمداوي (أبو فدك)، الملقب أيضاً بالخال، والذي يشغل في الوقت نفسه قيادة "كتائب حزب الله" العراقية، عقب مقتل نائب رئيس "الحشد" أبو مهدي المهندس مع قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني مطلع العام الحالي بغارة أميركية قرب مطار بغداد الدولي.
عدد من هؤلاء المستشارين أشرفوا في الأشهر الأخيرة على ثلاث مناورات بالذخيرة الحية
وأكدت المصادر الأمنية العراقية التي تحدثت لـ"العربي الجديد"، أنّ عدداً من هؤلاء المستشارين أشرفوا في الأشهر الأخيرة على ثلاث مناورات بالذخيرة الحية؛ الأولى في بلدة جرف الصخر، نهاية مارس/ آذار الماضي، والثانية في مدينة القائم على الحدود السورية في يوليو/ تموز الماضي، والثالثة قرب سلسلة جبال حمرين، شمال محافظة صلاح الدين، منتصف أغسطس/ آب الماضي. كما أنّ عدداً منهم يشرف على تطوير ودعم ترسانة فصائل الحشد الشعبي، وتحديداً الصاروخية منها، فيما يتولى آخرون مهام لوجستية، من أبرزها إدارة الإعلام والتوجيه الديني والمعنوي لفصائل عدة من الحشد.
ومن أبرز المناطق والمواقع التي يتردد إليها هؤلاء المستشارون قاعدة "معسكر أشرف"، قرب بلدة الخالص، في محافظة ديالى، وموقع آخر لـ"الحشد الشعبي" قرب بلدة طوزخورماتو في محافظة صلاح الدين، ومناطق في ضواحي القائم على الحدود العراقية السورية، وموقع في مدينة جرف الصخر، شمال محافظة بابل، جنوبي العراق، التي تسيطر عليها منذ ما يزيد عن 5 سنوات فصائل مسلحة مرتبطة بإيران، أبرزها "كتائب حزب الله" و"النجباء"، وترفض إعادة سكانها إليها البالغ عددهم نحو 180 ألف نسمة.
ولفتت المصادر إلى أنّ دعم المستشارين الإيرانيين يقتصر على الفصائل المقربة من طهران فقط، ولا علاقة له بتلك المحسوبة على النجف أو كربلاء التي تعرف باسم "حشد العتبات" أو الفصائل العراقية الأخرى، مثل "فرقة العباس القتالية" أو "الإمام علي الأكبر" و"أنصار المرجعية".
من جهته، نفى عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي بدر الزيادي، خلال اتصال هاتفي مع "العربي الجديد"، وجود أي مستشار إيراني في العراق، موضحاً أنه "في الوقت الحالي لا يوجد أي مستشار إيراني، فبعد تحرير كامل الأراضي العراقية من تنظيم داعش، تمّ سحب جميع المستشارين الإيرانيين الذين كانوا موجودين بطلب من الحكومة العراقية وبعلمها، ولا وجود لهم أيضاً مع قوات الحشد الشعبي". وأكد الزيادي أنّ "المستشارين الموجودين حالياً في العراق، هم فقط التابعون لقوات التحالف الدولي".
وأشار الزيادي إلى أنه "حتى غرفة العمل الرباعي (بين العراق، إيران، روسيا، ونظام بشار الأسد)، توقف عملها منذ وقت طويل، بعد انتهاء الحرب على تنظيم داعش، خصوصاً أنّ عمل هذه الغرفة ومهامها كانت محددة، وانتهت حالياً"، موضحاً أنّ "هذه الغرفة شُكّلت عندما كان الوضع غير مستقر في سورية والعراق بسبب داعش، لكن الوضع حالياً تغيّر كثيراً".
الزيادي: المستشارون الموجودون حالياً في العراق، هم فقط التابعون لقوات التحالف الدولي
غير أنّ القيادي في "الحشد الشعبي"، محمد البصري، أكّد في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "المستشارين الإيرانيين ما زالوا يعملون في العراق حتى الآن، لوجود حاجة لهم في تقديم الدعم والاستشارة، خصوصاً أنهم يعملون مع الحشد الشعبي فقط". وتابع "الحرب مع تنظيم داعش لم تنته، ولهذا هناك حاجة لوجود مستشارين كهؤلاء". وأضاف أنّ "المستشارين الإيرانيين عملوا في العراق بشكل تطوعي، من دون أي مقابل، وهذا الأمر يشمل أيضاً المستشارين اللبنانيين من حزب الله، فهؤلاء أيضاً عملوا بشكل تطوعي".
وكان رئيس الوزراء العراقي الأسبق، حيدر العبادي، قد اعتبر في وقت سابق أن زعيم "فيلق القدس" السابق قاسم سليماني، مستشار وموجود بعلم من الحكومة العراقية، رداً على انتقادات أثيرت حول دوره المتصاعد في العراق آنذاك.
إلى ذلك، قال الخبير الأمني والمقرب من أجهزة الاستخبارات العراقية فاضل أبو رغيف، في اتصال هاتفي مع "العربي الجديد"، إنّه "تم ترشيق عدد المستشارين الإيرانيين بعد تحرير الأراضي العراقية من تنظيم داعش، والحرب كانت تستدعي عدداً معيناً، لكن الآن تمّ سحب الكثيرين منهم". وأوضح أبو رغيف أنّ "المستشارين الإيرانيين الموجودين حالياً في العراق تقتصر مهامهم على التدريب والتسليح، وعددهم قليل"، لافتاً إلى أنّ عملهم "لا يقتصر على الحشد الشعبي، بل يشمل بعض القوات الأمنية الأخرى". واعتبر أبو رغيف أن وجود هؤلاء "يندرج ضمن الغرفة الرباعية المشتركة بين العراق وإيران وروسيا والنظام السوري"، واصفاً وجودهم بأنه "قانوني".