المسار التفاوضي وسيناريوهات التصعيد الإقليمي

25 اغسطس 2024
خطر حرب إقليمية إن لم يوقف الاحتلال عدوانه على غزة (محمد حمود/Getty)
+ الخط -

استعرض الكاتب في العدد السابق من ملحق فلسطين، الصادر عن العربي الجديد، في مقالته "قراءة في جولات التفاوض الراهنة ومساراتها"، المسار التفاوضي بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني، بوساطةٍ قطريةٍ مصريةٍ أميركيةٍ، وتضمنت المقالة الكثير من المعلومات والمؤشرات التي تؤكد مرونة مواقف المقاومة العالية من أجل التوصل لوقف حرب الإبادة الجماعية، مقابل تعنت رئيس الحكومة الصهيونية بنيامين نتنياهو الواضح، الذي وصل الأمر به إلى أن ينقلب على الورقة الإسرائيلية ذاتها، المؤرخة بـ27/5/2024، والتي تبناها الرئيس الأميركي جو بايدن، وأصبحت تعرف بمبادرة بايدن لوقف إطلاق النار، وانبثق من رحمها قرار مجلس الأمن رقم 2735، حين أعلن عن أربعة خطوطٍ حمر لا يسمح للوفد الإسرائيلي بتجاوزها، هي:

1.    يجب على أيّ اتّفاقٍ لوقف إطلاق النار في قطاع غزّة أن يتيح لإسرائيل مواصلة القتال حتّى تحقق أهداف الحرب.
2.    يجب أن يمنع الاتّفاق تهريب الأسلحة إلى حماس عبر الحدود بين قطاع غزّة ومصر.
3.    يجب ألا يسمح الاتّفاق لآلاف المسلحين بالعودة إلى شمال قطاع غزّة.
4.    ستعمل إسرائيل على إعادة أكبر عدد من الرهائن الأحياء.

خطوطٌ حمرٌ أفشلت المسار التفاوضي، إلّا أنّ الإدارة الأميركية، المدركة لحجم التحديات التي تعصف بالمنطقة، والمقبلة على انتخاباتٍ رئاسيةٍ، ومن خلال التنسيق مع الوسيطين القطري والمصري ما زالت تبذل جهوداً لاحتواء التصعيد الإقليمي.

أما في حالة ردٍ منضبطٍ من قبل الأطراف كافّة، فسينقل ثقل التغطية الإعلامية والسياسية إلى الإقليم على المدى القصير، ويبقى إسرائيل منفردةً في عملياتها ضدّ المدنيين في قطاع غزّة

لكن لم يكترث نتنياهو بالجهود الدولية، كما تبين في اغتيال إسرائيل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في قلب العاصمة الإيرانية طهران، خلال حفل تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشيكان. كما اغتالت القيادي العسكري في حزب الله فؤاد شكر، في قلب الضاحية الجنوبية، يهدف الاغتيالان، بالدرجة الأولى، إلى جر إيران وحلفائها إلى ردٍ عسكريٍ قويٍ، يقابله ردٌ إسرائيليٌ عنيفٌ يدخل المنطقة في مواجهةٍ تدفع واشنطن وحلفاءها نحو المشاركة المباشرة في صراعٍ إقليميٍ للدفاع عن أمن إسرائيل ووجودها.

طموحات أوكرانيا ليست بعيدةً عن طموحات نتنياهو نفسه، أيّ جرّ واشنطن إلى الحرب المباشرة ضدّ روسيا، فالخطوة الأوكرانية الأكثر استفزازًا لموسكو، المتمثّلة في استهداف محطة زابوروجيا للطاقة النووية، واحتلال أراضٍ روسيةٍ، والسلوك الأوكراني حسب الخبير الروسي ألكسندر نازاروف، تهدف إلى جر فلاديمير بوتين إلى توجيه ضربةٍ نوويةٍ لكييف، ما سيدفع واشنطن والغرب الأطلسي للدخول مباشرةً في الحرب ضدّ روسيا.

واشنطن في موقفٍ لا تحسد عليه، وهي تدرك ما سبق كلّه، ففي حالة نجاح نتنياهو وفولوديمير زيلينسكي في جر واشنطن سيؤدي ذلك إلى أكبر عملية استنزاف لعناصر القوّة الأميركية، عندها ستكون الصين المستفيد الأوحد من ذلك.

المفاوضات مجدداً

أعَلن البيان الثلاثي الأميركي القطري المصري استئناف العملية التفاوضية في الخامس عشر من أغسطس/آب 2024، لكن كان لحركة حماس، ممثّل فصائل المقاومة الفلسطينية، رأيٌ مغايرٌ، عبرت عنه في بيانٍ صحفيٍ أكدت فيه أن المطلوب الآن ليس الدخول في عمليةٍ تفاوضيةٍ يستغلها نتنياهو غطاءً لتنفيذ مزيدٍ من جرائم الإبادة الجماعية، بل المطلوب تنفيذ ما اتُّفق عليه، والمستند إلى رؤية الرئيس بايدن، وقرار مجلس الأمن رقم 2735. إذ وصف القيادي في حركة حماس سامي أبو زهري لوكالة فرانس برس التقارير عن قرب التوصل إلى اتّفاق بأنّها كانت "ادعاءاتٌ خادعةٌ".

كما ستلقي سيناريوهات التصعيد الإقليمي بتداعياتها على المشهد في قطاع غزّة، فالتصعيد الشامل يعبر عن رغبة نتنياهو، لكنه لا يعكس رغبة طهران والإدارة الأميركية، إذ تعيش طهران في خضم جدلٍ داخليٍ بشأن أحد مسارين:

1.    الأول استراتيجي يتعلق باستكمال المشروع النووي، بل وامتلاك السلاح النووي، كونه الوحيد الذي سيمنح طهران تفوقاً عسكرياً في منطقة الشرق الأوسط.
2.    الثاني تكتيكي ويتمثل في الثأر لشرف إيران وانتهاك سيادتها.

في تقدير الكاتب؛ سيتغلب الاستراتيجي على التكتيكي، لكن سيكون أمام طهران تحدياتٍ في ما يتعلق بصورتها أمام شعبها وحلفائها وخصومها وأعدائها، وهنا قد يذهب بعضهم إلى احتمالاتٍ أخرى، وهو ما يعني تعدد سيناريوهات الرد الإيراني المحتمل، وتعدد تبعاتها على قطاع غزّة وفلسطين، وبالتالي على المسار التفاوضي. إذ يمكن إجمال سيناريوهات الرد الإيراني وتبعاته بـ:

أما انعكاساته بعد نهاية الحرب فتتوقف على نتائجها، وأيًّا كانت النتيجة فإن انعكاسات الحرب الشاملة إيجابيةٌ على قطاع غزّة

1.    سيناريو التصعيد الشامل

التصعيد الشامل أو الحرب الإقليمية، من أخطر السيناريوهات الممكن حدوثها لأنها قد تغير خريطة الشرق الأوسط، بل النظام الدولي كاملاً، لأنّ حدود الحرب الشاملة لا يمكن تحديدها أو تقديرها بدقةٍ، أو استشراف مآلاتها ونتائجها، فالتداخل في المصالح بين القوى الكبرى كبيرٌ وغير مضمون العواقب.

يدرك المتتبع لسلوك نتنياهو في إدارة العملية التفاوضية أنّه يريد كسب مزيدٍ من الوقت، لبقاء الحرب على غزّة مستمرةً، وصولاً إلى آماله في وصول ترامب إلى البيت الأبيض في يناير القادم، انطلاقاً من قناعة نتنياهو بأن جر الجمهوريين لحربٍ في الشرق الأوسط أكثر ترجيحاً من جر بايدن لها، التي أعلنت إدارة بايدن أنّها لا تريدها.

حالياً، يستطيع نتنياهو الذهاب إلى التصعيد الشامل، إنّ أراد، انطلاقاً من قدرته على إفشال الصفقة الشاملة، أو عبر الرد العسكري القوي على أيّ تصعيدٍ منضبطٍ، ما يدفع طهران إلى الانزلاق نحو الحرب الشاملة. وهو ما يرجح سيناريو التصعيد الشامل، رغم الكوابح التي ذكرناها سابقاً، التي تتمثل في رفضٍ واسعٍ دوليٍ وإقليميٍ له.

وفقاً لهذا السيناريو فإن انعكاساته على قطاع غزة خلال فترة الحرب محدودةٌ، إذ قد تتراجع حدّة العمليات العسكرية الإسرائيلية خلالها، نظراً لانشغال الاحتلال في الساحات الأخرى. أما انعكاساته بعد نهاية الحرب فتتوقف على نتائجها، وأيًّا كانت النتيجة فإن انعكاسات الحرب الشاملة إيجابيةٌ على قطاع غزّة، فإن هزمت إسرائيل، ومن خلفه المشروع الغربي في الحرب فهذا يعني ضمنياً انتصار فلسطين، أما إذا هزم محور المقاومة، وانتصر المشروع الغربي فلا يوجد ما تخسره غزّة أكثر مما خسرته خلال العدوان الحالي عليها، كما ستضعف الحرب الشاملة كيانات الشرق الأوسط كلّها، بغض النظر عن هوية المنتصر، ما يعزز من فرضية حاجة الجميع لاستراحةٍ من القتال، وهو ما يصب أيضًا في صالح غزّة المنهكة نتيجة الحرب.

2.    سيناريو الصفقة الشاملة

تسعى إيران، عبر قنواتها الدبلوماسية، إلى تعزيز فرص الذهاب نحو خيار الصفقة الشاملة مع غزّة، التي يبقى فيها التهديد الإيراني عاملاً ضاغطاً على تل أبيب، وضامناً لأيّ اتّفاق تهدئةٍ مع المقاومة الفلسطينية، بذلك تجنب إيران نفسها سيناريو الحرب، وتكسب مزيدًا من الوقت لاستكمال برنامجها النووي، وتظهر أنّها الضامن لأيّ اتّفاق تهدئةٍ محتمل.

كذلك؛ وكما أشرنا إليه سابقًا بشأن رغبة إسرائيل وأوكرانيا بجر أميركا إلى حربٍ مكلفةٍ في توقيت سيئ لها، يتقاطع خيار الولايات المتّحدة مع طهران بشأن إبرام صفقةٍ شاملةٍ، ما عكسه البيان الثلاثي، كما تعكسه الرشوة الأميركية المالية والسياسية لنتنياهو (الإفراج عن ثلاثة مليارات دولار، والتراجع عن تصنيف كتيبةٍ في الجيش الإسرائيلي قتلت مواطناً أمريكياً في الضفّة الغربية ضمن المنظمات الإرهابية)، لذا تتمحور الإرادة الأميركية حول دفع نتنياهو للعودة إلى ما اتفق عليه وتنفيذه.

واشنطن في موقفٍ لا تحسد عليه، وهي تدرك ما سبق كلّه، ففي حالة نجاح نتنياهو وفولوديمير زيلينسكي في جر واشنطن سيؤدي ذلك إلى أكبر عملية استنزاف لعناصر القوّة الأميركي

على الرغم من أن هذا السيناريو منسجمٌ مع توجهات واشنطن والإقليم وإيران، لكنه يتعارض مع توجهات نتنياهو، وعليه يتوقف تعزيز هذا السيناريو على حجم الضغط الأميركي المحتمل على نتنياهو، وهو ما سيظهر خلال الجهود التي رافقت البيان الثلاثي، وفشل هذا الخيار سيعزز السيناريو الأول أو الثالث.

انعكاسه على غزّة والمنطقة إيجابيٌ جداً، إذ تخشى المنطقة سيناريو الحرب الشاملة الذي سينعكس، شاءت أم أبت، على أمنها القومي، وعلى مصالحها الحيوية، وعلى صورتها أمام شعوبها، وقد تتوسع رقعة القتال لفضائها الحيوي، ولا يستطيع أحدٌّ أن يستشرف موقف شعوب المنطقة. كذلك؛ تريد غزّة الصفقة لوقف جرائم الإبادة الجماعية. أيضاً من أهمّ تداعيات سيناريو الصفقة الشاملة زيادة احتمالات سقوط نتنياهو وحكومته الفاشية، ومن ثمّ استبدالها بحكومةٍ جديدةٍ قادرةٍ على تحقيق مقاربةٍ سياسيةٍ تنهي الاحتلال، وتقيم دولةً فلسطينيةً على حدود الرابع من يونيو/حزيران.

3.    سيناريو التصعيد المنضبط

وفقاً لهذا السيناريو؛ تذهب طهران نحو ردٍ عسكريٍ منضبطٍ، مشابهٍ لردها على جريمة استهداف السفارة الإيرانية في دمشق، ما يمنحها، إلى حدٍّ ما، تحسين صورتها، ويستعيد قوّة ردعها، لكنه غير مضمون النتائج والتداعيات، لا سيّما طبيعة التعاطي الإسرائيلي معه، في ظلّ بعض الترجيحات التي تتكهن بردٍ إسرائيلٍ قاسٍ، ما سيؤدي إلى الانتقال إلى سيناريو الحرب الشاملة. مع ذلك؛ احتمالات ضبط رد إسرائيل قائمةٌ، استجابةً للضغوط الداخلية والخارجية. هذا الغموض بشأن رد إسرائيل سيزيد من ضبابية المشهد وتعقيداته.

يتوقف انعكاس هذا السيناريو على غزّة على مساراته، فإن ذهب نحو الحرب الشاملة فنعود إلى انعكاسات السيناريو الأول، أما في حالة ردٍ منضبطٍ من قبل الأطراف كافّة، فسينقل ثقل التغطية الإعلامية والسياسية إلى الإقليم على المدى القصير، ويبقى إسرائيل منفردةً في عملياتها ضدّ المدنيين في قطاع غزّة. أما على المدى الأبعد، فسيضعف صورة محور المقاومة في مخيلة الجماهير الفلسطينية، انطلاقاً من التداعيات السلبية جداً على قطاع غزّة.

4.    سيناريو الوضع الراهن

جوهره بقاء لغة التهديد الإعلامي، ورفض الجهود الدبلوماسية من طرف محور المقاومة، من دون توجيه ضربةٍ عسكريةٍ، والاقتصار على استنزاف إسرائيل، وتحريك جبهاتٍ أخرى ضدّها.

انعكاسه على غزة غير مؤثرٍ في ما يتعلق بالعدوان، لأنّ إسرائيل ستبقي على عملياتها، في مقابل تركيزٍ سياسيٍ وإعلاميٍ على الرد الإيراني، وليس العدوان على قطاع غزّة. لكن انعكاساته على المفاوضات الجارية في الدوحة مؤثرٌ نسبياً، لأنّ الجميع يخشى الحرب الشاملة، وهذا المناخ السائد يعزز من فرص نجاح حوارات الدوحة، ما يرجح توظيفه في صالح قطاع غزّة من خلال التلويح بالصفقة التي تنهي الحرب مقابل تراجع إيران وحلفائها عن الرد. إلّا أنّ نتنياهو، الذي يرفض الصفقة، قد يفشل مفاوضات الدوحة، عبر شروطه الجديدة، لتعزيز سيناريو الحرب الشاملة.

5.    سيناريو تحييد محور المقاومة واحتوائه

سيناريو ضعيف الاحتمال، جوهره عقد صفقةٍ مع محور المقاومة لتهدئة الموقف، مقابل امتيازاتٍ لإيران، بعيداً عن غزّة، وهذا لو تحقق؛ فإن محور المقاومة سيخسر شعبياً كثيراً. كما سنشهد مفاوضاتٍ تضغط على المقاومة، وتدفعها نحو سيناريو الاستسلام، وتحقيق النصر المطلق لنتنياهو، وهو ما يجعل انعكاسات هذا السيناريو على غزّة سلبيةً وخطيرةً جداً، ويجعل مكانة طهران وسط شعوب المنطقة في أدنى مستوياتها.

الخلاصة: تنعكس تعقيدات المشهد على السيناريوهات المحتملة، والتي بدورها ستنعكس على عملية التفاوض، التي تتطلب جهداً إضافياً من الجميع للضغط على نتنياهو أولاً لوقف الحرب، ثم العمل الفوري على معالجة جذر المشكلة المتمثلة بالاحتلال، فهذا المدخل الأوحد للسلام والاستقرار الإقليمي والدولي.

المساهمون