بعد أشهر من التحريض الإسرائيلي ضد وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" على خلفية اتهام الاحتلال لـ12 موظفاً يعملون في الوكالة من أصل نحو 13 ألفاً بالتورط في عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والذي بلغ حد الدعوة إلى إنهائها، وانجرار دول عدة خلف هذه الحملة عبر قطع تمويل الوكالة أو تجميده، انتقلت "أونروا" أول من أمس الاثنين، إلى موقع الهجوم والتصدي للحملة.
واتهمت أونروا" إسرائيل بسحب اعترافات من موظفيها تحت التعذيب فضلاً عن رفضها تقديم أي أدلة تثبت اتهاماتها للوكالة، في الوقت الذي كان الاحتلال يضخ معلومات مضللة جديدة بحقها بما في ذلك اتهام المنظمة الأممية بتوظيف "أكثر من 450 إرهابياً" بحسب تعبير إسرائيل بزعم أنهم ينتمون إلى فصائل فلسطينية من بينها "حماس".
وعلى الرغم من أنها ليست المرّة الأولى التي تُحرّض فيها إسرائيل على وكالة "أونروا" التي يبلغ عمرها 75 عاماً، إذ تعتبر إنهاءها في صلب استراتيجيتها لتصفية القضية الفلسطينية ولا سيما ورقة اللاجئين، تأتي الحملة اليوم مترافقة مع حرب إبادة وتجويع يشنّها الاحتلال على قطاع غزة بالتزامن مع دخول العدوان شهره السادس، فيما "أونروا" فاقدة للتمويل والدعم وصلاحيات العمل، وهو ما يعني اختيار الاحتلال لحملته الجديدة على الوكالة في توقيت مدروس، مستغلاً هجوم 7 أكتوبر، لقطع شريان الحياة الذي يتمسك فيه الغزّيون، وتفعيل آلية التحريض على عمل الوكالة كله، سواء داخل فلسطين المحتلة أو خارجها.
اتهمت إسرائيل "أونروا" بتوظيف "أكثر من 450 إرهابياً"
أونروا... اعترافات تحت التعذيب
وتزامن قرار المفوض العام للوكالة فيليب لازاريني، الذي يتعرّض هو نفسه لحملة استهداف شخصية من المسؤولين الإسرائيليين، بالبدء في تسمية الأمور بأسمائها وتفنيد التّهم الموجهة إلى "أونروا" واعتبارها باطلة، مع اتهام رسمي وجهته الوكالة إلى إسرائيل بتعذيب عدد من موظفيها الذين اعتقلتهم خلال العدوان على غزة، مؤكدة في بيان أن "عدداً من موظفينا أبلغوا فرق أونروا أنهم أرغموا على الإدلاء باعترافات تحت التعذيب وسوء المعاملة"، وذلك أثناء استجوابهم بشأن هجوم 7 أكتوبر.
وقالت المتحدثة باسم الوكالة، جوليات توما، في بيان أول من أمس، إن "بعض موظفينا أبلغوا فرق أونروا أنهم أجبروا على الإدلاء باعترافات تحت التعذيب وسوء المعاملة. هذه الاعترافات الباطلة جاءت رداً على استجوابات بشأن العلاقة بين أونروا وحركة حماس ودورها في هجوم 7 أكتوبر".
وأعدت "أونروا" تقريراً لم ينشر رسمياً بعد، وثّقت فيه تعذيب إسرائيل المعتقلين من غزة، جسدياً ونفسياً، بمن فيهم 21 موظفاً من أونروا، قال بعضهم إنهم تعرضوا للضرب والتهديد. وتحدث المعتقلون في التقرير عن انتهاكات بالضرب والحرمان من النوم والاعتداءات الجنسية والتهديد بالعنف الجنسي بحق الرجال والنساء على السواء. كما أن بعض المعتقلين، بحسب التقرير الذي قالت شبكة "سي أن أن" أنها اطلعت عليه، فقدوا حياتهم تحت التعذيب.
بدورها استعرضت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية الأحد الماضي بعض ما ورد في التقرير غير المنشور، بما في ذلك "مجموعة من سوء المعاملة التي أبلغ سكان غزة، من جميع الأعمار والقدرات والخلفيات، عن التعرض لها في مرافق الاحتجاز المؤقتة في إسرائيل"، مشيرة إلى أن مثل هذه المعاملة "استُخدمت لانتزاع معلومات أو اعترافات، وللترهيب والإذلال، والمعاقبة".
الوكالة في "منطقة مجهولة"
وبموازاة توثيق ما قامت به إسرائيل ضد موظفي الوكالة وباقي المعتقلين في غزة، أكد المفوض العام لـ"أونروا"، أول من أمس، أمام اجتماع للجمعية العامة الأممية لنقاش المخاطر التي تواجهها الوكالة والتهديد الوجودي لتفويضها وتبعاته الإنسانية والاجتماعية على الفلسطينيين عموماً واللاجئين على وجه التحديد، أن حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة، لم تقدم أي دليل أو ملف يدعم ادعاءاتها، علماً أن هذه الحكومة لم تكتف بحياكة اتهامات ملفقة لـ"أونروا" منذ بداية الحرب، بل كثّفتها أخيراً، وأرفقتها بحملة فضحت مدى الكراهية التي تكنّه دولة الاحتلال لمنظمة الأمم المتحدة نفسها.
وأشار لازاريني إلى الادعاءات الإسرائيلية باشتراك 12 موظفاً من "أونروا" في عملية "حماس" والخطوات التي اتخذها بإقالة الموظفين وفتح تحقيق مستقل في الموضوع، لافتاً إلى أنه "رغم ذلك، أوقفت 16 دولة مؤقتاً تمويلها الذي يبلغ إجماليه 450 مليون دولار" في السنة، مشيراً إلى أن المنظمة دون أي تمويل إضافي، "ستكون في منطقة مجهولة مع ما يترتب على ذلك من عواقب خطيرة على السلام والأمن الدوليين".
وحذّر لازاريني من أن "مصير الوكالة وملايين الأشخاص الذين يعتمدون عليها، على المحك، حيث تواجه أونروا حملة متعمدة ومنسقة لتقويض عملياتها وإنهائها في نهاية المطاف"، لافتاً إلى أن "جزءاً من الحملة يتضمن إغراق الأطراف المانحة بمعلومات مضلّلة تهدف إلى زعزعة الثقة وتشويه سمعة الوكالة".
وإذ ذكّر لازاريني بتصريحات رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بأن "أونروا لن تكون جزءاً من غزة ما بعد الحرب"، حذّر من هذه الخطة بقوله إن تنفيذها "جار بالفعل بتدمير بنيتنا التحتية في جميع أنحاء قطاع غزة"، كما لفت إلى أن "القيود المفروضة في الضفة، تؤثر على الحركة ومنع الموظفين المحليين من دخول القدس الشرقية المحتلة، تؤثر على كل جانب من جوانب خدماتنا".
كذلك نبّه من المحاولات الجارية "لطرد أونروا من مقرها الرئيسي في القدس المحتلة"، وأشار إلى "مشروع قانون في الكنيست يهدف إلى الحظر التام لأي نشاط لأونروا على الأراضي الإسرائيلية"، وأكد أن "الدعوات المطالبة بتفكيك الوكالة تكتسب زخماً بين أولئك الذين يبحثون عن بدائل خارج نطاق الولاية المنصوص عليها في قرار الجمعية العامة".
واعتبر أن "الحديث عن تسليم عمليتنا برمتها، خصوصاً خلال الأزمة الإنسانية غير المسبوقة في غزة، تعزز ضمناً الاعتقاد بأنه يمكن تفكيك الوكالة دون المساس بحقوق الفلسطينيين"، وحذر من أن تفكيك الوكالة الذي تطالب به دولة الاحتلال سيؤدي إلى التضحية "بجيل كامل من الأطفال" و"زرع بذور" نزاعات مقبلة.
وحذر لازاريني من جملة مؤشرات تدل على النيّة الإسرائيلية المؤكدة لتصفية الوكالة، وعلى قرب الهجوم البرّي على رفح جنوب غزة، وعلى ما سيخلّفه أي إنهاء لعمل الوكالة، على مصير جيل فلسطيني كامل، كان شاهداً أيضاً على حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة. ومما قاله إن الهجوم "على ما يبدو بات وشيكاً على رفح"، وبرأيه، فإنه "على الرغم من كل الفظائع التي عاشها سكان غزة، قد يكون الأسوأ هو ما لم يأت بعد".
لازاريني: تفكيك الوكالة يعني التضحية بجيل من الأطفال الفلسطينيين
وشكّل الملف الإنساني صلب كلمة المفوض العام لـ"أونروا"، والذي تطرق إلى عدد من النقاط المتعلقة بولاية الوكالة والخطر من انهيارها، مشيراً بداية إلى التحديات المادية، وقال: "يجب حلّ الأزمة المالية التي تواجه أونروا حتى تتمكن من مواصلة عملياتها المنقذة للحياة"، كما توقف عند الوضع الحالي في غزة، إذ "خلال 5 أشهر فقط، قُتل من الأطفال والصحافيين والعاملين في المجال الطبي، وموظفي الأمم المتحدة، عدد يفوق أي مكان في العالم أثناء الفترة نفسها لأي صراع"، وقال: "إن عدد القتلى في غزة مذهل، لقد قتل أكثر من 30 ألف فلسطيني خلال 150 يوماً فقط، و5 في المائة من السكان ماتوا أو أصيبوا أو فقدوا"، مشدداً على استحالة وصف هذه المأساة بدقة. وتوقف عند المجاعة التي تلوح في الأفق، وبتر الأطراف للأطفال وغيرهم دون تخدير وموت الرضع بسبب عدم حصولهم على الغذاء.
وقال المفوض العام لـ"أونروا"، إن الوكالة أمام "لحظة حاسمة"، محذراً من أنه بعد "مرور 75 عاماً على إنشائها من الجمعية العامة للأمم المتحدة كياناً أممياً مؤقتاً، وفي انتظار التوصل إلى حل سياسي عادل لقضية فلسطين، قدرةُ الوكالة على الوفاء بولايتها معرضة لتهديد خطير"، وطالب بأن تتحرك الجمعية العامة للأمم المتحدة من أجل تيسير حلّ سياسي يحقق السلام للفلسطينيين والإسرائيليين، على اعتبار أنه "السياق الوحيد الذي يُمكن أن يسمح للوكالة بعملية انتقالية.
دعم إضافي
في غضون ذلك، تواجه إسرائيل ردّ فعل معاكساً من دول عدة، يبدو أنه سيأخذ شكلاً تصاعدياً مع استمرار حملتها على "أونروا"، إذ أعلنت المندوبة الدائمة لدولة قطر لدى الأمم المتحدة، الشيخة علياء أحمد بن سيف آل ثاني، تقديم دعم إضافي لوكالة "أونروا" بقيمة 25 مليون دولار، وفق وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا"، وأكدت خلال جلسة الجمعية العامة على التضامن الكامل مع الوكالة، وإدانة المحاولات المستمرة لتفكيكها.
من جهته، أفاد السفير السعودي الدائم لدى الأمم المتحدة، عبد العزيز الواصل، خلال جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة، أول من أمس، بأن المملكة "ستواصل دعم وكالة أونروا، وتبذل كل الجهود وتنظر في جميع الخيارات التي تساهم في إنقاذ الوكالة من الانهيار، ومنها تقديم دعم إضافي سيتم إعلانه في حينه"، وشدّد الواصل على رفض بلاده التام "للمساس بدور أونروا والتفويض الممنوح لها، ولوسائل الابتزاز والضغوط التي تتعرض لها"، ناقلاً تحذير المملكة "من محاولات تصفية أونروا، وانعكاساتها السلبية على أمن المنطقة". كما دعت تركيا عبر نائبة مندوبها الدائم في الأمم المتحدة، أصلي غوفان، خلال الجلسة، جميع الأطراف المعنية إلى مواصلة دعم الوكالة.
إلى ذلك، أعربت إسرائيل، أمس، عن أسفها إزاء قرار المفوضية الأوروبية أخيراً تخصيص 50 مليون يورو لدعم "أونروا"، فقد اعتبر المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية، ليؤر خياط، على منصة "إكس"، أن القرار "قبل أن تنتهي لجان التحقيق التابعة للأمم المتحدة من عملها وتقدم استنتاجاتها وتوصياتها، مؤسف ويضفي الشرعية على تورط موظفي أونروا في الأنشطة الإرهابية والتعاون مع حماس"، على حد تعبيره.