القضاء المصري... تضييق وتعديلات لضمان التحكم به

03 أكتوبر 2021
ألغى السيسي مكتسبات عدة للقضاء بالسنوات الماضية (خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -

تحدث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أمس السبت، خلال الاحتفال الأول بـ"يوم القضاء" بتاريخه الجديد (أول أكتوبر/تشرين الأول من كل عام) عن حرصه على استقلال القضاء وعدم التدخل في شؤونه. وأشاد السيسي بشكل متكرر بالرئيس المؤقت الأسبق عدلي منصور، الذي حوّل القضاء للمرة الأولى إلى طرف في معترك السياسة، عندما قبل تولي رئاسة الجمهورية بعد عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي في يوليو/تموز 2013. ومما قاله السيسي إن قاعدته الذهبية هي عدم التدخل في استقلال القضاء، وإنه "ليس له مكان في هذا الأمر على الإطلاق"، مشيراً إلى أنه تعلم من شقيقه القاضي بالنقض أحمد السيسي ما يتطلبه مسار العدالة من معرفة بدور القاضي وواجباته. مع العلم أن الرئيس المصري سبق أن عين شقيقه رئيساً لوحدة مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب منذ خمس سنوات، كما عين نجله وابنته وزوجة ابنه وعدداً آخر من شباب عائلة السيسي والأُسر المرتبطة بها في النيابة العامة والنيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة.

وتظهر السنوات الماضية اتخاذ السيسي مبكراً خطوات تقضي على ما كان القضاة يخشون المساس به في عهد الثورة (2011)، وهو الاستقلال المالي والإداري الكامل. وألغى بقرارات متتابعة وفق خطة مدروسة، مكتسبات مهمة خرج بها القضاة من عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، خصوصاً ضد مجلس الدولة. وكان المجلس ساحة معتادة للتفاعل السياسي والقانوني الذي تزامن مع الثورة، وسارع إلى تحقيق أهدافها الأولى استجابة للحراك الشعبي، ابتداء من حلّ الحزب الوطني الحاكم والمحليات، مروراً ببطلان عقود الخصخصة وفرض رقابة على السلطة التنفيذية في حالة الطوارئ، ووصولاً إلى قضايا مسّت المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم آنذاك، مثل تجريم كشوف العذرية للمعتقلات، والتي كان السيسي أول عضو بالمجلس يبررها في تصريح نادر له للإعلام الأجنبي في 2011.


بدأ السيسي التعامل مع القضاء بشكل مختلف بعد قضية تيران وصنافير

ويضاف إلى تلك الخطوات التضييق على القضاء العادي، الذي ساهم عبر دوائر مختلفة في الاستئناف والنقض في إدانة رموز النظام السابق مالياً واقتصادياً ووصمهم بالفساد، على عكس رغبة السلطة الحاكمة، وعلى رأسهم حسني مبارك ونجلاه، متخطياً في أحيان كثيرة محاولات الأجهزة التنفيذية للتعتيم والتلاعب بغرض الحماية والتضليل. وكان تخوّف السيسي منذ البداية قائماً من وجود "جيوب ثورية" أو "مستقلة" داخل الجسد القضائي تستغلها المعارضة السياسية والحقوقية لتحقيق أهدافها، أو أن تساهم الأحكام الصادرة عن تلك "الجيوب" في إشعال حراك ضد النظام، تحديداً بعد توقيعه اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع السعودية في 8 أبريل/نيسان 2016. حينها تلقت محكمة القضاء الإداري بعد ساعات من التوقيع دعاوى قضائية لبطلان التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، وأسفر الحراك القانوني عن حكمين تاريخيين ببطلان التنازل صدرا عن القضاء الإداري والمحكمة الإدارية العليا في يونيو/حزيران 2016 ويناير/كانون الثاني 2017. وهما قراران دعما بشدة أصوات معارضي السيسي في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وميادين التظاهر، ما مثل في حينه أزمة كبرى هددت تماسك النظام وسيطرته، إلى أن استطاع بتدخل استثنائي من المحكمة الدستورية العليا وقف هذا المد، بقرار أصدره رئيسها عبد الوهاب عبد الرازق (رئيس مجلس الشيوخ الحالي) في يونيو 2017 بوقف تلك الأحكام، وتبعه حكم صريح بإلغاء آثارها في مارس/آذار 2018 أصدره رئيسها حنفي جبالي (رئيس مجلس النواب الحالي).

واتخذ السيسي بعد أزمة تيران وصنافير قراراً استراتيجياً بالتعامل مع القضاء بشكل مختلف. وكان أول شأن قضائي خالص سعى للسيطرة عليه هو تعيينات رؤساء جميع الهيئات، ووضع حد لنظام الأقدمية المطلقة التاريخي، الذي كان يوصل أحياناً شخصيات مناهضة للأنظمة الحاكمة المتتابعة منذ الخمسينيات من القرن الماضي. وكان يتسبب في إطلاق يد رؤساء الهيئات في اختيار مساعديهم ورؤساء الدوائر، مستغلين سلطاتهم الإدارية التي لا يراجعهم فيها أحد، كوضع قضاة أصحاب أفكار ثورية ليبرالية أو يسارية أو ناصرية على رأس دوائر هامة. كما حدث في الأحكام السابق ذكرها وقضية تيران وصنافير، فضلاً عن القلق من إمكانية أن تؤدي قاعدة الأقدمية المطلقة المعمول بها في القضاء المصري، منذ نشأته إلى وصول ذوي الرأي والأفكار إلى رئاسة الهيئات كما كان سيحدث مع المستشار يحيى دكروري، صاحب حكم بطلان التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير في مجلس الدولة، والمستشار أنس عمارة عضو تيار الاستقلال في محكمة النقض، والمستشار محمد خيري طه في المحكمة الدستورية العليا، وغيرهم.

كما أصدر السيسي عام 2017 قانون تعيين رؤساء الهيئات القضائية قبيل اختيار دكروري وعمارة بأقدميتهما لرئاسة الهيئتين، والذي أتاح للرئيس اختيار رئيس كل هيئة على ضوء التقارير الأمنية، التي تطورت فيما بعد إلى مقابلات شخصية مع أقدم القضاة في مكاتب الأمن الوطني والمخابرات العامة والرقابة الإدارية، في وضع اعتبره عموم القضاة إهانة لهم ولمنصة القضاء ذاتها.

وتحسباً للحكم بعدم دستوريته أدخل النظام مواد ذلك القانون المعيب في الدستور لتقنين وضع غير طبيعي، وتضمنت التعديلات الدستورية الصادرة في أبريل 2019 تطبيق القاعدة السلطوية ذاتها على المحكمة الدستورية العليا. بالتالي بات رئيس الجمهورية هو من يعين جميع رؤساء السلطة القضائية، متعمّداً إهدار الأقدمية، وليصبح جميع المختارين مدينين له بفضل الاختيار، وأوفياء بعدم الخروج عن سياسة الدولة في كل المجالات.

ومن خلال تحكّم السيسي المطلق بتعيينات رؤساء الهيئات القضائية، صار يختار بشكل مسبق أعضاء المجلس الأعلى للجهات والهيئات القضائية، الذين ستوكل إليهم، وفق النص الدستوري المعدل الذي لم ينفذ حتى الآن بشكل كامل، مناقشة الشؤون المشتركة للهيئات وأعضائها والتعيينات فيها وإبداء الرأي في تعديلات القوانين المنظمة لها.
أما الشأن الثاني فهو التحكم السلطوي المباشر في الاختصاصات، وبدأ ذلك منذ خريف 2014 بإصدار قانون مشكوك في دستوريته حتى الآن، يحيل إلى القضاء العسكري التابع لوزير الدفاع عدداً كبيراً من الجرائم والمتهمين بالاعتداء على المنشآت والمرافق العامة، بدلاً من المحاكمة أمام قاضيهم الطبيعي وفقاً للدستور.

ثم شهد التعديل الدستوري الأخير عام 2019 الخصم من اختصاصات مجلس الدولة، لتُطلق يد البرلمان في التشريعات من دون اشتراط مراجعته الدستورية والقانونية عليها، ثم إضافة اختصاص الرقابة على قرارات المنظمات الدولية والمحاكم الأجنبية الصادرة في مواجهة مصر إلى المحكمة الدستورية العليا، من دون سند دستوري لذلك في مخالفة للاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها مصر.


تحكّم السيسي بالتعيينات القضائية واضعاً حدّاً لاستقلالية القضاء

أما الشأن الثالث الذي تدخل فيه السيسي، الأكثر حيوية لنظامه على المدى البعيد، فهو التحكم الكامل بالعناصر المُختارة للتعيين في القضاء بعد إكمال دراستها الجامعية وتغيير خلفياتها الثقافية والمعرفية بشكل كامل. بالتالي أصبح الجسد القضائي أقرب للعسكري والشرطي، في إطار رؤية السيسي له كذراع للسلطة التنفيذية ومرفق خدمي، وليس كسلطة مستقلة تعمل لصالح الشعب وتراقب السلطتين الأخريين وترشد عملهما.

وتمّ إخضاع جميع الهيئات بإلحاق المرشحين الناجحين في المقابلات الشخصية تمهيداً للالتحاق بالعمل بالهيئتين، للدراسة في الأكاديمية الوطنية للتدريب التابعة للمخابرات، بل واستخدام الأكاديمية كأداة ترشيح أخيرة ونهائية لاختيار القضاة، شأنهم في ذلك شأن المتقدمين للعمل الدبلوماسي والوظائف الحكومية الأخرى.

ورضخ مجلس الدولة ومجلس القضاء الأعلى لهذا التوجه بعد تلقيهما تأكيدات بأنه "من المستحيل التصديق على تعيين قضاة جدد أو أعضاء بالنيابة العامة من دون إخضاعهم للدورات التدريبية". ويعني هذا الأمر تقليص سلطة إدارة الهيئات في الاختيار، وأن الآلية التي فرضت على مجلس الدولة تكمن في إبلاغ أسماء المقبولين الذين اجتازوا الاختبارات والمقابلات الشخصية، ثم ترشيحهم من قبل الجهات الأمنية والسيادية والرقابية، قبل إلحاق المجازين أمنياً منهم بالأكاديمية، وفي النهاية لا يتم تعيين إلا من اجتازوا هذه الدورة.

وفي التعيينات الأخيرة بمجلس الدولة تحديداً، أجريت للمرشحين دورات تدريبية بالأكاديمية الوطنية التابعة للمخابرات العامة، وبعد ظهور النتيجة أعيد إجراء التحريات الأمنية والرقابية على أقارب الخريجين المقبولين، حتى الدرجة الرابعة، في مخالفة لأحكام سابقة من المحكمة الإدارية العليا بحظر مؤاخذة المتقدمين بأفعال وجرائم ارتكبها أقارب لهم، أو بتصنيفات أمنية مزعومة للأقارب. ونتج عن هذه العملية، بحسب المصادر، استبعاد نحو 60 شخصاً من المقبولين، ومنهم أبناء بعض القضاة المصنفين من قبل الأمن الوطني كمعارضين للنظام، بل شارك أحدهم في كتابة حكم أول درجة في قضية تيران وصنافير.

المساهمون