الفيلق الروسي وريث "فاغنر" في أفريقيا

28 سبتمبر 2024
تظاهرة داعمة لفاغنر في بانغي، 22 مارس 2023 (باربرا ديبوت/فرانس برس)
+ الخط -

تعترف الدبلوماسية الفرنسية بالإخفاق في أفريقيا التي كانت قبل أقل من عقد تعد الحديقة الخلفية لباريس، بفضل التاريخ المديد لاستعمار القارة، وربطها سياسياً واقتصادياً وأمنياً بها. ومع أن العقدين الأخيرين شهدا تنافساً حاداً على الثروات والمواقع، فإن روسيا هي المستفيد الأكبر من تراجع حضور فرنسا، والدليل على ذلك أن مراكز ثقلها الأساسية تموضعت في البلدان ذات القرابة المباشرة مع باريس.

بالنسبة لفرنسا، تبدأ مواجهة الحقيقة المرّة من الاعتراف بأن روسيا باتت رقماً صعباً في القارة، من خلال السيطرة على مستعمراتها القديمة، وهي الآن ترسخ وجودها بقوة، وتتمدد في الوقت نفسه على نحو مختلف عن الدول الأخرى المنافسة، كالولايات المتحدة والصين وحتى تركيا. وما تفعله موسكو يقوم على لعبة خلط الأوراق، بعد أن بنت شبكة عسكرية وأمنية متينة، تمتد من السودان إلى النيجر التي انتزعتها من فرنسا قبل عام، مروراً بليبيا، وبوركينا فاسو، ومالي، وجمهورية أفريقيا الوسطى، ومدغشقر. ونسجت موسكو، منذ 2017 و2018، شبكة من النفوذ في خدمة أجندتها الجديدة، وهي المواجهة مع الغرب. ووظفتها في سياق الحرب على أوكرانيا، كما حوّلتها إلى أداة استثمار اقتصادي مربح في المواد الأولية النادرة، والمعادن ذات القيمة العالية، كما هو الحال في الذهب السوداني، واليورانيوم النيجري.

دور بريغوجين بتمدد روسيا في أفريقيا

يعود الفضل في الزحف الروسي نحو مواقع فرنسا في أفريقيا إلى طبّاخ الكرملين يفغيني بريغوجين، الذي قضى بحادث تحطم طائرة في 23 أغسطس/آب من العام الماضي، أحد مؤسسي مجموعة "فاغنر" العسكرية، التي شكلت رأس حربة الاختراق الروسي للقارة. وعلى عكس التقديرات الغربية، التي توقعت تراجع نفوذ "فاغنر" في أفريقيا بعد اختفاء قائدها عن المشهد، فإنها كسبت الكثير، وباتت أقوى، بعدما أعادت موسكو تشكيلها في أفريقيا وعززتها بخبرات ومقاتلين كان بريغوجين قد نشرهم في عدة مناطق على الحدود مع أوكرانيا، وكان لهم دور أساسي في الحرب هناك، خصوصاً معارك السيطرة على باخموت الاستراتيجية. وكان اتفاق التسوية، بعد تمرد بريغوجين في يونيو/حزيران 2023، يقضي بانسحاب القوات التي رفضت الاندماج في الجيش الروسي، إلى بيلاروسيا، ومن هناك تم نقلهم بإشراف وزارة الدفاع الروسية إلى قواعد "فاغنر" في ليبيا وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى، ووصل بعضهم إلى السودان لتعزيز قوات الدعم السريع.

تولى الإشراف على إعادة هيكلة "فاغنر" في أفريقيا نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكوروف

تولى الإشراف على إعادة هيكلة "فاغنر" في أفريقيا نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكوروف، الذي كان كثير الأسفار إلى بلدان القارة، التي تحتفظ فيها موسكو بعلاقات تحالف متينة وقواعد عسكرية، خصوصاً في ليبيا مع اللواء المتقاعد خليفة حفتر، ومنها قاعدة سرت التي تعد أساسية. وبعد مصرع بريغوجين بيومين حل يفكوروف في قاعدة السدرة شرق سرت، واجتمع مع قيادة "فاغنر"، ليبلغهم أن هناك قيادة جديدة وتوجهاً جديداً ومهمات مختلفة، ونقل إلى حفتر تلك الرسالة.

تقارير دولية
التحديثات الحية

آخر جولات يفكوروف في أفريقيا كانت في يونيو الماضي، حين ترأس وفداً كبيراً في زيارة عمل إلى مالي في إطار تعزيز التعاون العسكري بين البلدين. وخلال تلك الزيارة، استقبله الرئيس الانتقالي المالي العقيد أسيمي غويتا بقصر كولوبا. وسبق ذلك زيارة النيجر، جارة مالي، حيث استقبله رئيس المجلس الوطني لحماية الوطن الحاكم في النيجر، العميد عبد الرحمن تياني، وبذلك تم تثبيت حضور روسيا عسكرياً في هذا البلد، بعد أن ظل قادته ينكرون الصلة بين انقلابهم على الحكم المدني بقيادة الرئيس محمد بازوم الموالي لفرنسا.
وتعزز وجود "فاغنر" في أفريقيا بعد رحيل بريغوجين، وبعد مرور عام، باتت منظمة أكثر. ونقطة التحول الرئيسية هي أنها الآن تعمل بعلنية، تحت إشراف وزارة الدفاع الروسية بعد أن كانت تعد مليشيات غير نظامية، تتستر على نفسها وتحركاتها. والهدف من وراء ذلك تحويلها إلى سلاح في المواجهة مع الغرب في عدد من دول أفريقيا الغنية، وذات الموقع الاستراتيجي، وذلك من خلال تشكيل ما يسمى بـ"الفيلق الأفريقي"، الذي تسربت أنباء عن أن مركزه الرئيسي بات في ليبيا، وذلك بعد الاجتماع الذي عقده يفكوروف مع حفتر في مقر "القيادة العامة" في بنغازي في الأول من يونيو الماضي.

انتشار الفيلق الأفريقي

يشرف على الفيلق الجنرال يفكوروف رئيس أنغوشيا السابق، وهو ينتشر في خمس دول في أفريقيا هي ليبيا دولة المقر، وبوركينا فاسو، ومالي، وجمهورية أفريقيا الوسطى، والنيجر. وهناك عدة أسباب وراء اختيار ليبيا مقراً للفيلق، من بينها العلاقة الوطيدة بين حفتر وموسكو، وحضور قوات "فاغنر" في عدة قواعد في مدينة سرت التي تبعد 450 كيلومتراً شرق العاصمة الليبية طرابلس، إذ كانوا يتمركزون في قاعدة "القرضابية" الجوية وميناء سرت البحري، إضافة إلى قاعدة "الجفرة" الجوية في الجنوب، وقاعدة "براك الشاطئ" الجوية التي تبعد 700 كيلومتر جنوب طرابلس، وقاعدة السدرة على مسافة 130 كيلومتراً عن سرت. ويلعب موقع مدينة سرت على ساحل المتوسط دوراً مهماً في اختيار ليبيا قاعدة أساسية، لما لها من أهمية على الساحل الذي يسهّل وصول السفن الحربية الروسية لضمان الإمدادات وتوزيعها نحو بلدان أفريقيا كما أن وجودها مقابل الساحل الأوربي ذو أهمية إضافية.

تمدد روسيا نحو تونس

وهناك معلومات في تقارير صحافية أوروبية عن تمدد روسيا نحو تونس، وجرى الحديث عن وجود طائرات عسكرية في الجنوب التونسي. وكشفت صحيفة لا ريبوبليكا الإيطالية في مايو/أيار الماضي عن قلق أميركي إيطالي من هبوط طائرات عسكرية روسية في جربة التونسية التي تبعد 130 كيلومتراً عن الحدود الليبية، وهو ما نفته السلطات الروسية. وقالت سفارة روسيا في ليبيا، في بيان وقتها: "لا يسعنا إلا أن نحسدهم على هذا الخيال". وذهبت قناة "LCI" التلفزيونية الفرنسية في برنامج سياسي إلى حد ما وصفته بـ"الاختراق الروسي لتونس".

مصادر دبلوماسية غربية: أسلوب روسيا في التوجه نحو تونس يسير على طريقة "فاغنر"

بدورها سلطت صحيفة لوموند الفرنسية الضوء على تداعيات ودلالات التحركات الروسية المزعومة في تونس، والجدل الذي أثارته في ظل إعادة تشكيل "فاغنر"، ونقلت تأكيد مصدر دبلوماسي غربي أنه "كان هناك بالفعل هبوط لطائرات روسية في جربة، لكننا لا نعرف طبيعتها". وبحسب المصدر، كان على متن بعض هذه الطائرات روس منتسبون لمجموعة "فاغنر". واعتبر أن تونس ترتبط بالمعسكر الغربي، ولجيشها علاقات وثيقة بالولايات المتحدة، بالتالي فإن أي تقارب محتمل بينها وبين وروسيا سيمثل بلا شك تحولاً جذرياً في توجهات البلاد.

وترى مصادر دبلوماسية غربية أن أسلوب روسيا في التوجه نحو تونس، يسير على طريقة "فاغنر" خدمة للطموحات الروسية في أفريقيا التي استفادت من المشاعر المعادية لفرنسا، حيث نجح الكرملين، من خلال القوات شبه العسكرية الروسية، في توسيع نفوذه في القارة. وتلاحظ المصادر أن الرئيس التونسي قيس سعيّد يلعب لعبة تهديد وليّ ذراع الأوروبيين والغربيين بسبب عدم رصد الأموال التي كانت مقررة بعد اتفاق الشراكة الشامل مع الاتحاد الأوروبي، وأيضاً إعانات صندوق النقد الدولي من خلال التلويح بالانضمام للمحور الروسي والصيني. وفي السياق ذاته جاءت مشاركته في تشييع جنازة الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي، واجتماعه بالمرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي. ويجري النظر إلى تنامي التعاون مع موسكو خيارا اقتصاديا وسياسيا ودبلوماسيا، كاستيراد القمح والنفط، على الرغم من المقاطعة الغربية المفروضة بسبب حرب أوكرانيا، وتكرر زيارات المسؤولين الروس وآخرها تلك التي قام بها وزير الخارجية سيرغي لافروف في ديسمبر/كانون الأول الماضي، بالإضافة إلى فتح المجال أمام النشاط الثقافي والإعلامي، وبدأت ملصقات إعلانية تظهر في شوارع تونس تروّج للنسخة العربية من القناة التلفزيونية "روسيا اليوم"، وهي قناة مموّلة من الحكومة الروسية، وتعمل بما هي أداة رئيسية للدعاية والدبلوماسية العامة الروسية في المنطقة.

وحسب بعض المراقبين والمحللين، فإن الفيلق بات يضم ما بين 40 إلى 45 ألف مقاتل. وقد بدأت عمليات الانتداب والتجنيد في ديسمبر الماضي في عدد من الدول الأفريقية وفي روسيا. ونُشرت إعلانات التجنيد منذ الأيام العشرة الأولى من الشهر نفسه في القنوات العسكرية على تطبيق تليغرام. وتم إعطاء الأولوية لمرتزقة "فاغنر" الروس الذين يشكلون تقريباً نصف العدد الإجمالي لأفراد الفيلق، ثم إلى المقاتلين الروس الذين شاركوا في الحرب الروسية على أوكرانيا.

كما فتح الباب أمام العسكريين والمقاتلين الأفارقة الذين يتمتعون بقدرات قتالية عالية وبكفاءات متعددة، منها قيادة المركبات القتالية والدبابات وقيادة الطائرات المسيّرة وأنظمة الرادار ومنظومات الدفاع الجوي. كما يضم جنسيات متعددة، منها السورية. وتتجاوز المرتبات 3200 دولار، مع إمكانية تلقيها في الخارج، إضافة إلى الرعاية الطبية وعدد من الامتيازات الاجتماعية، فضلاً عن التأمين على الحياة والتأمين الصحي على حساب الميزانية الفيدرالية. وتعزو صحيفة لوموند نجاح روسيا في اختراق أفريقيا إلى خطأ استراتيجي ارتكبته السلطات الفرنسية. وفي وقت كان الرئيس إيمانويل ماكرون يهدف إلى إقامة علاقة ثقة مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، فتح عن غير قصد أبواب أفريقيا الناطقة بالفرنسية أمام الدب الروسي.

المساهمون