لم تحجب الهدنة المستمرة في إقليم تيغراي، شمالي إثيوبيا، منذ مارس/آذار الماضي، حالة الحرب المستمرة في هذا البلد، منذ أن أطلق رئيس الوزراء أبي أحمد حملته العسكرية على الإقليم و"جبهة تحرير تيغراي" في نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
ويبدو اليوم، وكأن الحرب التي عادت لتستعر في إثيوبيا الواقعة في منطقة القرن الأفريقي، والتي أسفرت عن أعداد كبيرة من القتلى والجرحى، وسُجّلت فيها انتهاكات إنسانية لا تحصى من قبل القوات الحكومية ومقاتلي "الجبهة" على حدّ سواء، والأطراف المحلية والإقليمية التي ساندت كلاً منهما، قد أعادت إشعال فتيل التناحرات والضغائن الإثنية في هذا البلد. تطورات تأتي ليس فقط لتنسف مساراً من العمل الدائب في إثيوبيا لسنوات سابقة للوصول إلى مصاف الدول الأفريقية الواعدة اقتصادية، بل لترخي بثقلها على المنطقة، حيث من الممكن أن تشتعل أكثر من مواجهة في أي لحظة، يستفاد من الغليان الإثني في إثيوبيا لتسعير نيرانها.
ويبدو أن حملة أبي أحمد العسكرية، التي تمدّدت خارج حدود إقليم تيغراي، وتصل إلى أوروميا معقل إثنية الأورومو التي يتحدر منها رئيس الوزراء، تواجه بمقاومة من متمردي الأورومو الذين يجدون فرصة لتحدي السلطات الفيدرالية. في موازاة ذلك يزداد الشعور لدى إثنية الأمهرة باستهدافها، حيث تضغط على أبي أحمد لعدم الاتفاق مع أي إثنية أخرى على حسابها. ويجعل كل ذلك مساعي رئيس الوزراء منذ وصوله إلى الحكم، لتثبيت مركزية السلطة، في مهب الريح، بينما يزداد التحدي الإثني والمناطقي له، ويستعاد الاقتتال العرقي والإثني في هذا البلد، والذي تنغمس القوات الفيدرالية فيه بشكل كبير.
عانى الأورمو طويلاً من شعور بالتهميش السياسي والإهمال من قبل الحكومة المركزية
وبالتوازي مع الأزمة المستمرة في إقليم تيغراي شمالي البلاد، والتي تحولت إلى أزمة إنسانية خانقة تسعى حكومة أبي أحمد إلى استغلالها لفتح مرحلة تفاوض مع التيغريين، سلّطت المجزرة التي ارتبكت يوم السبت الماضي، في منطقة أوروميا، الضوء على مرحلة جديدة من الحرب، قد تلوح في الأفق. ويحدث ذلك بينما يضغط المجتمع الدولي على أبي أحمد لطيّ صفحة النزاع في إقليم تيغراي وتسهيل الحياة لمدنييه.
مجزرة أوروميا تثير هلع الأمهرة
وقتل أكثر من 200 مدني من إثنية الأمهرة، بحسب التقارير الواردة من وكالات الأنباء، والتي استندت إلى أرقام شهود عيان وتصريحات للمسؤولين الإثيوبيين، في مجزرة نسب هؤلاء تنفيذها إلى "جيش تحرير أورومو"، الذي تصنفه السلطات الرسمية مجموعة "إرهابية"، والذي نفى مسؤوليته على المجزرة. ووقع الهجوم الدموي الأكبر منذ سنوات، في قرية تولي، بمنطقة غيمبي (بمنطقة ووليغا) في غربي منطقة أوروميا، الواقعة غربي البلاد، والتي تعد أكبر منطقة في إثيوبيا من حيث المساحة.
وتفاوتت الأرقام التي قدمها شهود العيان والناجون الذين تحدثوا لوكالات "رويترز" و"فرانس برس" و"أسوشييتد برس"، حول أعداد القتلى، بين 230 وأكثر وصولاً إلى 500. وتطرق هؤلاء إلى سقوط أعداد كبيرة من الجرحى، ومن المدنيين الذين تمكنوا من تجنب "الإعدام بدم بارد" عبر الهروب إلى الغابات.
وقال عدد من الشهود إنهم دفنوا قتلاهم في مقابر جماعية، وإن المجزرة تستهدف طرد الأمهرة من المنطقة. وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي مطالبات لتجنيب الأمهرة "التطهير العرقي"، بعضها على شكل عريضة تطالب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس بالتدخل. وقال شاهد عيان لوكالة "فرانس برس"، إن "كل هذه الهجمات هدفها إرغامنا على الرحيل".
ونفى المتحدث باسم "جيش تحرير أورومو" أودا تاربي، مسؤولية هذه الجهة المسلحة المتمردة عن تنفيذ المجزرة، متهماً إحدى المليشيات الإقليمية الموالية للحكومة المركزية بارتكابها، ومطالباً بتحقيق مستقل. وكتب تاربي على موقع "تويتر"، أن "نظام أبي أحمد يتهم مجدداً جيش تحرير أورومو بفظاعات ارتكبها المقاتلون التابعون له أثناء انسحابهم". من جهته، ومن دون ذكر "جيش تحرير أورومو"، أعلن أبي أحمد على "تويتر"، يوم الإثنين الماضي، أن "الهجمات ضد مدنيين أبرياء وتدمير سبل العيش من قوات غير شرعية وغير نظامية غير مقبولة".
ويوم الأحد الماضي، اتهمت لجنة حقوق الإنسان التي كانت شكلّتها الحكومة للتحقيق في انتهاكات حرب تيغراي (هيئة عامة لكن مستقلة رسمياً) "جيش تحرير أوروميا" بالمسؤولية عن "الهجوم الدموي والتدمير" الذي وقع في أوروميا. ودعت اللجنة الحكومة الفيدرالية لإيجاد "حلّ دائم" لوقف عمليات قتل المدنيين وحمايتهم من هجمات كالتي وقعت في تولي.
تشنّ القوات الحكومية حملة اعتقالات في حق مواطنين من إثنية الأورومو وناشطين من الأمهرة
بدورها، اتهمت الحكومة الإقليمية في أوروميا، "جيش تحرير أورومو"، بالمسؤولية عن المجزرة، قائلة إن المتمردين نفذوا الهجوم "بعدما أصبحوا غير قادرين على مقاومة العمليات التي تشنها ضدهم القوات الأمنية الحكومية".
وقالت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، ميشيل باشليه (الصورة)، أمس الخميس، إنها "روعت" بالمجزرة التي طاولت الكثير من المدنيين في غرب إثيوبيا يوم السبت الماضي، والتي راح ضحيتها أكثر من 230 شخصا. وفي بيان صادر عنها، حثّت باشليه السلطات الاثيوبية على "إجراء تحقيقات فورية معمقة وغير منحازة حول الهجمات التي أسفرت عن مقتل مئات الأشخاص" في غرب إثيوبيا خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي.
كما أعربت الخارجية الأميركية عن "قلق الولايات المتحدة البالغ" إزاء التقارير الواردة عن مقتل المدنيين من الأمهرة بمنطقة أوروميا. وعبّر بيان صادر عن الوزارة، الثلاثاء الماضي، عن "الحزن على الضحايا"، داعياً "جميع الإثيوبيين إلى نبذ العنف ومواصلة الحوار السلمي لحل الخلافات". وأشار البيان إلى أن "المصالحة الوطنية يجب أن تتضمن عدالة شاملة وجامعة للضحايا ومحاسبة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان".
شروط وهجمات للضغط على أبي أحمد
وتضم أوروميا، إلى جانب الأورومو، مواطنين من إثنيات أخرى، على رأسهم الأمهرة، وهي عانت قبل وصول أبي إلى الحكم في عام 2018، من سنوات طويلة من التوترات، التي تعود جذورها إلى شعور الأورومو بالتهميش السياسي والإهمال من قبل الحكومة المركزية.
أما "جيش تحرير أورومو"، فهو مجموعة خارجة على القانون انشقت عن "جبهة تحرير أورومو"، وهي مجموعة من المعارضة الإثيوبية، المحظورة سابقاً، والتي عادت قياداتها من المنفى بعد وصول أبي أحمد إلى الحكم وأبرمت اتفاقاً معه (رفض جيش تحرير أورومو الاتفاق).
ويرى متابعون أن أبي أحمد قد وصل إلى الحكم على ظهر شعور الأورومو بالتهميش، ولكنه منذ ذلك الحين يواصل صمّ أذنيه عن مطالبهم. وازداد حراك شباب الأورومو وغضبهم، لاسيما بعد مقتل المغني الشهير هاشالو هونديسا، المعروف بأغانيه السياسية، بالرصاص في يوليو/تموز 2020، وهو ما أشعل الاحتقان لدى هذه الإثنية. علماً أن الأورومو كانوا قد شكّلوا تكتلاً سياسياً ناهض إدارة أبي أحمد للحكم، فيما شنّ الأخير حملة اعتقالات ضد عدد من وجوههم وقياداتهم.
وترتبط الأحداث التي تجري في منطقة أوروميا بحرب تيغراي ارتباطاً وثيقاً، على الرغم من أن لا إشارات مباشرة حول ذلك. وكان متمردو "جيش تحرير أورومو" قد تحالفوا العام الماضي مع "جبهة تحرير تيغراي" في حربها مع القوات الفيدرالية (على الرغم من شعور الأورومو بالتهميش خلال سنوات حكم التيغراي الطويلة للبلاد)، فيما دعم الأمهرة القوات الحكومية. وتشنّ القوات الحكومية منذ فترة حملة اعتقالات في حق المواطنين من إثنية الأورومو في المنطقة، وهي الإثنية الأكبر عدداً في البلاد، وينتمي إليها أبي أحمد، متهمة إياهم بالانتماء إلى "جيش تحرير أورومو".
وكانت لجنة حقوق الإنسان الإثيوبية، وهي تعد هيئة عامة ولكن مستقلة، قد اتهمت قبل أيام من وقوع المجزرة، القوات الحكومية بتنفيذ إعدامات من دون محاكمة في منطقة في عاصمة منطقة غامبيلا جنوب غربي البلاد، بحق أشخاص يشتبه في تعاونهم مع "جيش تحرير أورومو" في ختام هجوم شنه المتمردون على المدينة.
ورأى ويليام دافيسون، وهو محلّل كبير حول شؤون إثيوبيا في "مجموعة الأزمات الدولية"، في حديث لصحيفة "نيويورك تايمز"، إنه "بسبب شعورهم المتزايد بالتهميش، فقد تحول عدد كبير من القوميين من الأورومو للانضمام إلى جيش تحرير أورومو وتمرده". وبرأيه، فإن "هذا يعني أن هذا التمرد قد اكتسب زخماً، ولديه المزيد من الأسلحة والأعضاء، ما يزيد حدّة العنف، ويسمح لجيش تحرير أورومو بالسيطرة على مزيد من الأراضي".
وبالتوازي مع شنّه هجوماً على منطقتين في أوروميا، تحالف "جيش تحرير أورومو" مع مليشيا أخرى في منطقة غامبيلا، لشنّ هجمات فيها. وبحسب دافيسون، فإن هذه العمليات "هدفها خصوصاً توجيه رسالة للحكومة الفيدرالية وجهات أخرى، بأن جيش تحرير أورومو لم يهزم، وأن لديه قوة على السلطات المركزية الاعتراف بها، والتفاوض معها". وأكد بن هانتر، المتخصص في تحليل المخاطر في شرطة "فيريسك مابلكروفت"، لوكالة "فرانس برس"، إن الهجوم على غامبيلا هو الأول على مدينة كبيرة من قبل "جيش تحرير أورومو" حتى الآن.
ويواجه أبي أحمد، أيضاً، معضلة في ولاية أمهرة، التي تحد إقليم تيغراي، في جزء كبير منها نتيجة حربه مع التيغراي. ويخشى المتشددون من الأمهرة، أن يكون أبي أحمد بصدد هندسة اتفاق سلام مع التيغراي على حسابهم، بعدما أكد أبي الأسبوع الماضي أن حكومته شكّلت لجنة تفاوض مع التيغراي.
وقال تويدروس تيرفي، أحد المؤسسين لـ"جمعية أمهرة في أميركا"، لـ"فرانس برس"، إن "المحادثات الخلفية بين أبي وجبهة تحرير تيغراي لا تشمل مصالح الأمهرة، والمسائل التي تقلقهم". ولفت تيرفي إلى أن أهم هذه المسائل، هي وضع منطقتين خصبتين زراعيتين يقول الأمهرة إن التيغراي سرقوها منهم في عام 1991، عندما كان التيغراي على رأس الحكم. وأشار تيرفي إلى أن هذه المنطقتين، المعروفتين بوولكيت ورايا، قد استعادتهما الأمهرة خلال الحرب التي قادتها أخيراً إلى جانب القوات الحكومية في حربها ضد التيغراي، وهي تمثل لها "خطوطاً حمراء" لا يجب تجاوزها.
في غضون ذلك، شدّدت القوات الحكومية في الفترة الأخيرة حملتها ضد صحافيين وناشطين من إثنية الأمهرة، حيث اعتقلت عدداً كبيراً منهم، وأيضاً من مليشيا "فانو"، التي تحالفت معها في حربها ضد التيغراي، علماً أن مليشيا "فانو" ازدادت قوتها خلال تلك الحرب، كما تزداد اشتباكاتها مع "جيش تحرير أورمو" لا سيما على الحدود بين منطقتي أمهرة وأوروميا.
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز، أسوشييتد برس)