مع مرور عامين كاملين على الغزو الروسي لأوكرانيا، تقدّم السرديتان الروسية والأوكرانية الحرب كأنها معركة من أجل البقاء ستحدد مصير الدولتين. الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خرج، في 25 فبراير/ شباط 2022، بزي عسكري، وأدلى بتصريح قال فيه: "مصير أوكرانيا يتحدد الآن".
بدوره، اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في مقابلة أجراها معه أخيراً الصحافي الأميركي تاكر كارلسون، أن ما يجري في أوكرانيا هو معركة من أجل بقاء روسيا. وعاد بوتين ليكرر هذه المقولة، في 18 فبراير الحالي، في تعليق له على المقابلة، إذ اعتبر أن ما يجري على الجبهات في أوكرانيا مسألة حياة أو موت ستحدد مصير روسيا.
وتضفي السرديتان معادلة صفرية على الحرب المتواصلة في أوكرانيا، يبدو معها وكأنه لا مكان لتسويات متوازنة أو حلول وسط. لكن هذا لا يعكس حقيقة الأمر، بمقدار ما يعكس تعقيدات وطأة التاريخ وإرث الاتحاد السوفييتي، والصراعات الجيوسياسية القديمة والمعاصرة، والمأزق المزدوج لروسيا من جهة، والغرب الداعم لأوكرانيا من جهة أخرى، في لعبة جيوسياسية محفوفة بالمخاطر، ما يفرض على الجميع عمليات إعادة حسابات.
سيكسب الطرف الذي يتكيف مع الحرب عبر الحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي
الطرفان الروسي والأوكراني معنيان في المراجعات المطلوبة بعدم إهمال تأثيرات الحرب على الجبهة الداخلية، لا سيما في ظل غياب قدرة أي من الطرفين على الحسم في المدى المنظور، وتحول الصراع إلى حرب استنزاف من المتوقع لها أن تكون طويلة الأمد، سيكسبها بالنقاط الطرف الذي يتكيف مع الحرب بالحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي كركيزة لمواصلة المجهود الحربي.
بوتين واستعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية
يستعد بوتين لإعادة انتخابه رئيساً للمرة الخامسة، في 17 مارس/ آذار المقبل، في ولاية تستمر حتى العام 2030. ومنذ انتخابه رئيساً للمرة الأولى في العام 2000 خلفاً للرئيس الأسبق بوريس يلتسين، حكم بيد من حديد، تحت شعار توحيد الهوية القومية الروسية واستعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية.
واستغل التأييد الشعبي الساحق الذي حظي به لإخضاع وتدجين المعارضة، وسحق من حاولوا السير عكس التيار وإبداء مقاومة. لم يواجه بوتين معارضة علنية، أو تحركات اجتماعية واسعة، في الشارع، باستثناء احتجاجات محدودة زماناً ومكاناً قبل أشهر على إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثالثة في ربيع 2012، شارك فيها عشرات الآلاف من المتظاهرين في العاصمة موسكو ومدينة سانت بطرسبورغ.
كما شارك الآلاف في تظاهرات في يناير/ كانون الثاني 2018 احتجاجاً على ترشيح بوتين لولاية رابعة، بدعوة من المعارض أليكسي نافالني، الذي توفي، قبل أيام، في السجن، وكذلك الاحتجاجات على قانون رفع السن التقاعدية في 2018.
وفي الأيام الأولى من الحرب، اندلعت احتجاجات على نطاق ضيق ضد الغزو الروسي لأوكرانيا قبل أن يبدأ المزاج الشعبي بالتغير استياء من قرار التعبئة الجزئية، في 21 سبتمبر/أيلول 2022، بعد نجاح الهجوم الأوكراني المعاكس. واعتبرت هذه الخطوة مخاطرة بنشوب قلاقل في موسكو والمدن الكبرى في البلاد، حيث التأييد للحرب أقل من الأقاليم والمناطق الأخرى.
لكن التحدي الأخطر لسلطة بوتين تمثل في التمرد المسلح لقائد مجموعة مرتزقة "فاغنر" يفغيني بريغوجين، في 24 يونيو/حزيران 2023، ضدّ القيادة العسكرية الروسية التي اتّهمها بقصف قواته في أوكرانيا.
وخرج بوتين حينذاك في خطاب متلفز، حذّر فيه من خطر اندلاع حرب أهلية. وبعد شهرين من التمرد، قُتل بريغوجين وعدد من كبار مساعديه في تحطم طائرة خاصة كانوا يستقلونها من موسكو إلى سانت بطرسبورغ. وأثار هذا التمرد تساؤلات حول مدى قوة بوتين والسلطة المركزية في موسكو، وإمكانية أن يواجه الرئيس الروسي في المستقبل تحديات أخرى أصعب، ربما تشمل نزعات انفصالية، شبيهة بالموجة التي وقعت عام 1991، تؤدي إلى اندلاع حرب أهلية.
وعلى الرغم من أن بوتين أصبح بوضعية أفضل نهاية 2023، جراء فشل الهجوم الأوكراني المعاكس، وتراجع الدعم الأوروبي والأميركي لكييف، وانتعاش الاقتصاد الروسي، والأهم قمع المعارضة للحرب في الداخل عبر سلسلة قوانين تبناها البرلمان، ستظل حالة عدم اليقين مصدر قلق للكرملين.
فاختلال موازين القوى مجدداً لغير صالح موسكو سيجعل من غلاة القوميين الروس، المؤيدين للحرب على أوكرانيا، قنبلة موقوتة تهدد بوتين، الذي ثبت حكمه منذ 2014 عملياً، بناء على عامل رفع الروح القومية عبر ما سمي "توافق القرم" الداعم لضم شبه الجزيرة، ولاحقاً التوافق أو الصمت عن الحرب المستمرة منذ عامين.
الاقتصاد الروسي الخاصرة الرخوة لبوتين
انكمش إجمالي الناتج المحلي الروسي في العام 2022 بنسبة 1.2 في المائة، في ضوء الآثار الأولية للعقوبات الغربية التي فُرضت على موسكو رداً على الغزو الروسي لأوكرانيا في 2022. لكن موسكو نجحت في الالتفاف على العقوبات الغربية والتقليل من تأثيرها، وهو ما أظهرته مؤشرات العام 2023، حيث تباطأ التضخم إلى 7.4 في المائة، على أساس سنوي في الشهر الماضي بعد سبعة أشهر من الارتفاع المتواصل. ونما الاقتصاد الروسي بنسبة 3.6 في المائة، وفقاً لبيانات نشرتها وكالة "روستات" الحكومية للإحصاءات، في فبراير الحالي.
بيد أن خبراء اقتصاديين يلفتون إلى أن انتعاش الاقتصاد الروسي في العام الماضي جاء مدفوعاً بارتفاع كبير في الإنفاق على المجهود الحربي، ولذلك حصل الانتعاش بشكل رئيسي في القطاعات المرتبطة بالإنتاج العسكري، في حين تراجعت قطاعات الصناعة الأخرى.
وتخطط موسكو لزيادة إنفاقها الدفاعي بنسبة 70 في المائة عام 2024، ما سيشكل 30 في المائة من مجموع الموازنة الفيدرالية، وأكثر من 6 في المائة من إجمالي الناتج المحلي الروسي.
دخول الحرب في فخ الجمود سيفتح ملف الانتخابات التشريعية والرئاسية المؤجلة في أوكرانيا
وحذّر خبراء اقتصاد من أن تحسن الاقتصاد الروسي في هذه الحالة يغطي على حقيقة تداعي القطاعات الرئيسية في الاقتصاد، وأن استمرار اعتماد النمو على الإنفاق العسكري سيعمق من المشاكل البنيوية التي يعاني منها.
هذا الأمر لخصته الباحثة المتعاونة مع "مركز كارنيغي روسيا وأوراسيا" ألكسندرا بروكوبنكو، الشهر الماضي، قائلة إن "أداء الاقتصاد الروسي كان جيداً لكن مؤشرات أدائه مضلّلة". وأضافت: "كلها مؤشرات إلى الإنهاك. فثلث النمو مدفوع بالإنفاق العسكري، وهناك حالة إدمان اقتصادي على الأموال التي يضخها الجيش".
أوكرانيا وهواجس زعزعة الاستقرار الداخلي
شكّل الخوف من انقسام المجتمع الأوكراني على نفسه هاجساً للحكومات المتعاقبة، منذ سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم وضمها في ربيع 2014.
وتحت وطأة هذا الهاجس، أصدر زيلينسكي قراراً قضى بتعليق نشاط 11 حزباً بتهمة الولاء لروسيا، أبرزها حزب "منصة المعارضة من أجل الحياة" بقيادة فيكتور ميدفيدشوك، وله 44 مقعداً من أصل 450 في البرلمان الأوكراني، وحزب "ناشي" بقيادة يفغيني موراييف.
غير أن هذا الإجراء لم يهدئ من مخاوف كييف. فتلك المخاوف انصبت أساساً على استجلاء الموقف الذي سيتخذه الأوكرانيون من أصول روسية، الذين يشكلون ما يقارب 18 في المائة من مجموع 45 مليون مواطن أوكراني.
وكان مفاجئاً حتى بالنسبة لكييف أن هذه المخاوف لم تستمر طويلاً، على ضوء المقاومة الشرسة التي أبداها سكان مدينة خاركيف شمال شرقي أوكرانيا، وغالبية سكان المناطق الأخرى في جنوب وجنوب شرق البلاد التي تقطنها أقلية وازنة من أصول روسية، وتمسكهم بجنسيتهم الأوكرانية.
لكن في العام الثاني من الحرب 2023، طفت على السطح خلافات على المستويات السياسية، وبين القيادتين السياسية والعسكرية، وتعمقت تلك الخلافات على خلفية فشل الهجوم الأوكراني المعاكس، وتقاذف المسؤولية حول أسباب الفشل، وضبابية المستقبل في ما يتعلق بالدعم الغربي لمواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا.
كما تفجرت خلافات بشأن الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة وتورط قيادات في الجيش فيه، والصراع الشخصي بين زيلينسكي وقائد الجيش فاليري زالوجني، الذي أعفي أخيراً من منصبه جراء تنامي شكوك لدى زيلينسكي بأن الشعبية الجارفة لزالوجني قد تولد لديه طموحاً لأن يقدم نفسه بديلاً سياسياً عنه.
القاسم المشترك بين موسكو وكييف هو الخشية من خطر الانقسامات الداخلية وصعود التيارات القومية المتشددة
وظهرت مخاوف من أن يؤدي غياب الحسم في الحرب، والخلافات على المستوى السياسي، وبين القيادتين السياسية والعسكرية، إلى أن يطل خطر الانقسام المجتمعي برأسه ثانية، وليس بالضرورة لأسباب إثنية. فدخول الحرب في فخ الجمود مدة طويلة سيفتح ملف الانتخابات التشريعية والرئاسية المؤجلة.
وكان من المنتظر أن تجرى الانتخابات التشريعية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 والرئاسية نهاية مارس المقبل. وربما يصبح تراجع الدعم الغربي محركاً للانقسام داخل أوكرانيا.
وقال زيلينسكي في 6 نوفمبر الماضي: "علينا أن نقرّر أن الوقت هو للدفاع، للمعركة التي يتوقف عليها مصير الدولة والشعب، وليس لمسرحية تنتظرها روسيا دون سواها من أوكرانيا. أعتقد أن الوقت ليس ملائماً لإجراء انتخابات".
وأضاف: "يجب أن نتحد، لا أن ننقسم أو نتفرق في خلافات أو أولويات أخرى. ندرك جميعاً اليوم، في زمن الحرب، وفي وقت تكثر فيه التحديات، أنه من غير المسؤول تماماً إطلاق موضوع الانتخابات في المجتمع بخفة". إلا أن المعضلة التي تواجهها كييف، وزيلينسكي شخصياً، هي أن تأجيل الانتخابات غير ممكن بسقف مفتوح.
انكماش اقتصاد كييف جراء الغزو الروسي لأوكرانيا
أظهرت بيانات المكتب الفيدرالي للإحصاء في أوكرانيا، أخيراً، أن الاقتصاد انكمش بأكثر من 29 في المائة عام 2022، جراء توقف قطاعات حيوية منه، واستهداف روسيا المكثف للبنية التحتية.
واعتمدت أوكرانيا في 2023 على حزم الإنقاذ التي قدمتها الدول الغربية، والبنك الدولي، على شكل مساعدات وقروض، بلغت وفقاً لبيان صدر عن وزارة المالية الأوكرانية 33.8 مليار دولار حتى أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بالإضافة إلى موارد السندات المحلية التي وصلت إلى 11.8 مليار دولار. وعلى الرغم من ذلك، سجلت الميزانية الأوكرانية عجزاً قدره 38 مليار دولار، وهو ما يعادل 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي 11 أكتوبر الماضي، صرح رئيس الوزراء الأوكراني دينيس شميغال بأن كييف بحاجة إلى جذب تمويل خارجي بقيمة 42 مليار دولار تقريباً حتى نهاية 2024. وفي 19 فبراير الحالي، كشف شميغال أن اقتصاد بلاده تقلص بنحو 30 في المائة منذ بداية الحرب.
وأضاف، في مقابلة مع محطة "إن إتش كا" اليابانية، إن الحرب تسببت بنزوح 10 ملايين أوكراني إلى الخارج، وفقدان 3.5 ملايين موظف وعامل، مشيراً إلى تدمير وأضرار بأكثر من مليوني بيت ومنشأة جراء الحرب والقصف. وفي الـ15 من الشهر الحالي، قدر البنك الدولي في تقرير مع الأمم المتحدة والمفوضية الأوروبية أن إعادة إعمار أوكرانيا وبناء اقتصادها تحتاج إلى 486 مليار دولار.
مشكلات متشابهة بين موسكو وكييف
لعل القاسم المشترك بين موسكو وكييف، مع دخول الحرب العام الثالث، هو الخشية من خطر الانقسامات الداخلية وصعود التيارات القومية المتشددة في كلا البلدين، وغياب أفق للحسم، أو تسوية سياسية مقبولة، والخاصرة الاقتصادية الرخوة، والمراهنة على موقف الغرب في تقرير مصير الحرب من زاويتين.
فموسكو تراهن على إنهاك الغرب، في حين تراهن كييف على استمرار الدعم الغربي لها، لأنها تخوض معركة الحفاظ على أمن واستقرار أوروبا، ليس فقط وفقاً لما تزعم كييف، بل أيضاً كما تؤكده غالبية بلدان الاتحاد الأوروبي. لكن في النهاية مسار الحرب خلال الأشهر القليلة المقبلة سيفرض على الجميع حسابات مختلفة.