العيش تحت حكم حزب العمال الكردستاني شمالي العراق: أحكام عرفية وإتاوات ونزوح

25 ابريل 2022
ينشط مسلحو "العمال" في شمال العراق (أليس مارتنز/Getty)
+ الخط -

آخر مرة زار فيها أحمد أمين (65 سنة) منزله في قريته كيسته بمحافظة دهوك شمالي العراق كانت مطلع العام 2019، حيث ترك مع عائلته، إلى جانب عشرات الأسر الأخرى، القرية الواقعة على الحدود مع تركيا، بسبب الاشتباكات والقصف المتكرر بين القوات التركية ومسلحي حزب العمال الكردستاني منذ سيطرة عناصر الحزب على القرية وقرى مجاورة لها.

وقال أمين، لـ"العربي الجديد"، إنه استأجر منزلاً في منطقة أخرى، تاركاً بستانه وممتلكاته من دون أن يتمكن من العودة إليها مرة أخرى، أو حتى يعرف ما إذا كان سيتمكن من العودة إليها قريباً، على غرار آخرين تركوا قراهم وأصبحوا يعيشون على معونات المنظمات الإنسانية والأممية في إقليم كردستان العراق.


شوان عبد الله: المناطق التي يسيطر عليها العمال تخضع لمزاج قائد أو مسؤول المنطقة في الحزب

وبلدة كيسته واحدة من بين أكثر من 500 قرية عراقية، كردية وآشورية، تقع على الحدود مع تركيا، تحولت إلى مناطق خالية من السكان منذ نحو عقدين من الزمن، بفعل سيطرة مسلحي "العمال" عليها، وخلوها من أي سيطرة للدولة العراقية أو حكومة إقليم كردستان، ممثلة بقوات البشمركة أو "الأسايش".

500  قرية هجرها سكانها بسبب "العمال الكردستاني"

وبحسب تقرير للجنة المكلفة متابعة الملف الإنساني في تلك المناطق، والمشكلة من قبل برلمان إقليم كردستان، والصادر في يناير/كانون الثاني الماضي، فإن أكثر من 500 قرية هجرها سكانها بسبب الوضع الأمني، منذ احتلال مسلحي حزب العمال الكردستاني لها، وما نتج عنه من توغل للقوات التركية بعمق يصل إلى 15 كيلومتراً داخل الأراضي العراقية لطرد عناصر "العمال" وضرب مخابئهم، التي تحولت إلى مناطق انطلاق لتنفيذ اعتداءات داخل الأراضي التركية.

ويبلغ طول الشريط الحدودي بين العراق وتركيا 367 كيلومتراً، تنتشر على طوله مئات القرى، تتميز بقلة عدد سكانها مقارنة بأخرى في إقليم كردستان. وهذا الأمر لا يرتبط بانفلات الأمن فيها، لكن أيضاً بسبب هجرة السكان من الريف إلى المدينة بحثاً عن العمل. أما غالبية الذين يفضلون البقاء فيها، فهم من ملاك الأراضي، خصوصاً أن المنطقة تشتهر بزراعة الجوز والتفاح والبن والشاي.

عملية تركية جديدة في العراق

ومنذ الثامن عشر من الشهر الحالي، تواصل وحدات تركية خاصة، إلى جانب الطيران التركي، عمليات واسعة داخل مدن وبلدات حدودية عراقية مجاورة لتركيا، هي الثالثة من نوعها في غضون عام واحد. وتتركز العملية الجديدة التي أطلق عليها اسم "المخلب ـ القفل"، في مناطق متين والزاب وأفشين وباسيان، شمال أربيل وشرقي دهوك.

ونقلت وكالة "الأناضول" عن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار قوله إن العملية تهدف "لمنع الهجمات الإرهابية على شعبنا وقوات أمننا من شمالي العراق، وضمان أمن حدودنا".

تتعرض المنطقة للقصف من قبل القوات التركية (العربي الجديد)
تتعرض المنطقة للقصف من قبل القوات التركية (العربي الجديد)

وحمّلت حكومة إقليم كردستان، الأسبوع الماضي، حزب العمال الكردستاني مسؤولية العمليات العسكرية التي تجريها القوات التركية، داعية القوى الكردية في تركيا وإيران المعارضة لأنقرة وطهران إلى معالجة المشكلات في ما بينها بالطرق السلمية.

وقال المتحدث باسم حكومة الإقليم جوتيار عادل، في مؤتمر صحافي عقده في أربيل الأحد ما قبل الماضي، إن حزب العمال "تسبّب بمشكلات كبيرة للسكان في تلك المناطق التي يوجد فيها بإقليم كردستان. هذه المناطق لم تتم إعادة تأهيلها وإعمارها لهذا السبب، وبقاء مسلحي حزب العمال يلحق مزيداً من الإضرار بالإقليم". 

ودعا "جميع الأطراف إلى معالجة المشكلات في ما بينها بالطرق السلمية وعدم تحويل إقليم كردستان الى ميدان للصراع والحروب، وإلحاق الضرر بتجربة الإقليم". وأشار إلى أن حكومة كردستان تسعى إلى التواصل مع الدول كافة، سواء في المنطقة أم العالم، بهدف تمتين العلاقات على المستوى الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي، بما يصب في المصلحة العليا للإقليم.

وينشط الآلاف من مسلحي الحزب في مناطق مختلفة من شمال العراق، يقع أغلبها بمحاذاة الحدود مع تركيا، مستفيدين من المناطق الجبلية الوعرة التي وفرت ملاذاً لهم، أبرزها سلسلة جبال قنديل الواقعة في المثلث العراقي التركي الإيراني، وسوران وسيدكان وزاخو والزاب، وحفتانين وبرادوست، وكاني ماسي، شمال أربيل وشرق دهوك.

وقال مدير ناحية دركار الحدودية مع تركيا دلشير عبد الستار، لـ"العربي الجديد"، إن القرى القريبة من الحدود مع تركيا هي الأشد خطراً من غيرها، وكلما اقتربت أكثر من الحدود كان العيش فيها مستحيلاً.

وأضاف: هناك قرى هجرها سكانها بشكل نهائي منذ سنوات، ولا يمكنهم حتى زيارتها، مثل شرانش. وأشار إلى أن "الكثير من الفلاحين تركوا أراضيهم الزراعية بسبب عدم قدرتهم على متابعتها بصورة منتظمة، فغالباً ما يكون ذهابهم بشكل خاطف، لأن المكوث هناك قد لا يكون ممكناً أمنياً".

العيش تحت رحمة "العمال الكردستاني" 

شوان عبد الله (47 سنة)، الذي يعمل مدرساً في مدينة دهوك بعد أن ترك قريته المطلة على سفح جبل متين القريب من الحدود التركية منذ سنوات، أوضح، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "العيش بلا قانون أو نظام يمكن أن يكون متاحاً إذا توفرت الرحمة، لكن هذا الأمر غير متوفر في المناطق التي يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني، فالغاية لديهم تبرر الوسيلة".

وأضاف عبد الله، الذي فقد ابن عمه على يد مسلحي الحزب بعد اتهامه بالعمل لصالح قوات "الأسايش" (جهاز الأمن في إقليم كردستان العراق)، حيث تم اقتياده لجهة مجهولة منذ عامين دون أن يعرف مصيره حتى الآن، أن "المناطق التي يسيطر عليها الحزب تخضع لمزاج قائد أو مسؤول المنطقة في العمال".

وتابع: "هناك أحكام عرفية يتم من خلالها أخذ إتاوات من الناس بحجة دعم القضية الكردية، وخطف الناس والتحقيق معهم، والسماح بالتعدي على أملاكهم، واتخاذها مواقع صد في المواجهات مع القوات التركية، عدا عن محاولتهم فرض أفكار الحزب على سكان القرى والتضييق على دور العبادة فيها".

وتتولى وحدات مدربة من "اللواء 80" التابعة لقوات البشمركة مهمة إنشاء جدار صد عسكري بين المناطق التي يسيطر عليها حزب "العمال" في كردستان وباقي مدن الإقليم، للحيلولة دون توسع نفوذه، خصوصاً مع استمرار نزيف الحزب بشرياً وجغرافياً على يد القوات التركية، ومحاولته تعويض خسائره عبر التمدد لمناطق أخرى داخل الإقليم.


علي أغوان: إشكالية إخراج مقاتلي الحزب تكمن في ارتباطاته الوثيقة مع إيران

وكان "العمال" خسر، خلال الأشهر الأخيرة، عدداً من الجبال المهمة والمناطق المرتفعة التي كانت تمثل عامل قوة للحزب، لصالح كوماندوس تركي، أبرزها قمتا جبلي متين وشاقولي في ضواحي مدينة زاخو، ومرتفعات قورنان وسوركه، ضمن منطقة برادوست شمال أربيل.

استبعاد مواجهة بين "العمال" والبشمركة

وعلى الرغم من تشدد حكومة إقليم كردستان العراق إزاء تواجد مسلحي "العمال" داخل أراضي الإقليم، إلا أن سيناريو مواجهة عسكرية بين البشمركة ومسلحي الحزب مستبعد، رغم وقوع مناوشات، تسببت خلال العامين الماضيين بسقوط قتلى وجرحى من الطرفين على أطراف أربيل ودهوك.

ويعزو مراقبون ذلك إلى محاذير وقوع حرب كردية ــ كردية، فضلاً عن أن أربيل تعتبر أن ملف تواجد مسلحي "العمال الكردستاني" من مسؤولية الحكومة في بغداد، كونه قضية سيادية بحسب الدستور.

وكان المتحدث باسم حكومة كردستان جوتيار عادل أعلن، الشهر الماضي، أن "العمال الكردستاني" تسبب بقتل وترحيل العديد من سكان القرى الحدودية في الإقليم. واتهم الحزب بـ"فرض إتاوات والقيام بعمليات تهريب". وحمل بغداد مسؤولية إخراج المسلحين من الإقليم وكل العراق.

وقال مسؤول في حكومة الإقليم، لـ"العربي الجديد"، إن "أربيل تمارس أقصى درجات ضبط النفس بالتعامل مع انتهاكات وجرائم العماليين (حزب العمال الكردستاني)، في مناطق تواجدهم". واتهمهم "بأنهم يسعون لإدخال الإقليم بمشاكل أمنية وصراعات جانبية، لكن التوجه العام هو ترك الملف لبغداد، كونها دستورياً مسؤولة عنه، وننتظر ما ستفعل الحكومة الجديدة معه".

تحدي إخراج المسلحين من معاقلهم

وقال الباحث في الشأن السياسي الكردي في أربيل علي أغوان، لـ"العربي الجديد"، إن "تحدي إخراج مسلحي حزب العمال من الأراضي العراقية يكمن في اتخاذ المقاتلين من الجبال والمناطق الوعرة معقلاً لهم لشن هجمات بين الحين والآخر، مهددين حاضر ومستقبل أي منطقة يتواجدون فيها".

وبين أغوان أن "إشكالية إخراج مقاتلي الحزب تكمن في ارتباطاته الوثيقة مع إيران". أما عن الأسباب التي جعلت عناصر الحزب تجد موطئاً في سنجار بمحافظة نينوى شمالي العراق، فيعود، بحسب أغوان، إلى "دخوله مدينة تم طرد عناصر تنظيم داعش منها، ما جعل الحزب يحظى بقبول شعبي، مكنه من التمدد في العراق".

واعتبر أن "الطامة الكبرى اليوم أن بعض عناصر الحزب موجودون داخل الفصائل المسلحة المنضوية في الحشد الشعبي، وهذه تعتبر واحدة من نقاط الضعف، التي تجعل الحكومة العراقية عاجزة عن مواجهة عناصر العمال".

عناصر "العمال" لا يحرصون على الأهالي

وقال مختار قرية حاج إبراهيم، الواقعة في منطقة جبال قنديل، أحمد سوراني، لـ"العربي الجديد"، إن "البقاء تحت سلطة حزب العمال يتطلب تضحيات كبيرة، بينها أن الشخص سيكون عرضة للقتل في أي وقت، إذ لا يحرص عناصر الحزب على حياة الأهالي".

وأضاف: "القصف التركي يتسبب بخسائر مستمرة في منازل ومزارع الناس، ولا نسمع أي طلب عراقي لتركيا بتعويض، أو مساعدة المتضررين من هذا القصف".

واعتبر أن "سبب عدم وقوع قتلى مدنيين جراء القصف التركي، هو لأن السكان أصبح لديهم حس استشعار عالٍ، إذ يتركون منازلهم مع دخول مسلحي حزب العمال، كون وجودهم يعني إما إنزالاً جوياً تركياً، أو قصفاً جوياً، أو مدفعياً".


حمّل مسؤول في "العمال" القوات التركية مسؤولية تهجير العائلات من القرى الحدودية

وأشار إلى أن "نحو 20 في المائة من السكان اضطروا للتعايش مع الأمر، والبقاء (في أراضيهم) لعدم وجود بديل لديهم، وهم تحت أحكام عرفية حقيقية. أما البقية فقد نزحت منذ سنوات، ولا يعرف ما إذا كانوا سيعودون أم تبقى قراهم أرضا محرمة عليهم".

وفي سنجار بمحافظة نينوى ليس الأمر أقل سوءاً. ولا يزال نحو 125 ألف نازح أيزيدي يعيشون في مخيمات في محافظة دهوك، وسط مخاوف من أن تكون عودتهم إلى مناطقهم الأصلية غير آمنة.

وقال مدير منظمة "البارزاني الخيرية" في سنجار شيرو سمو، لـ"العربي الجديد"، إن "المنظمة كانت تقدم خدمات لسكان مدينة سنجار، كتوزيع السلل الغذائية، ووضع خزانات مياه، وحفر آبار وتقديم مساعدات للأيتام والمعوقين. لكن نشاط المنظمة بات الآن يشمل أهالي المناطق المحيطة بسنجار، مثل سنوني وسردشتي، بسبب سيطرة مسلحي حزب العمال عليها، والتي أدت إلى تعقيد الأوضاع الأمنية فيها".

وفي 9 أكتوبر/تشرين الأول 2020، وقعت الحكومة الاتحادية في بغداد مع حكومة إقليم كردستان اتفاقية تقضي بأن تتولى قوات الأمن الاتحادية حفظ الأمن في سنجار، بالتنسيق مع قوات الإقليم، وطرد مسلحي حزب العمال الكردستاني، إلا أن الاتفاقية لم تر النور بسبب رفض مسلحي الحزب الانسحاب من المنطقة.

"العمال" ينفي تهجير العائلات

لكن مسؤول لجنة العلاقات في حزب العمال الكردستاني داخل العراق، كاوه شيخ موس، رد في اتصال هاتفي مع "العربي الجديد" على هذه الاتهامات. وقال إن "كل الاتهامات التي توجه لنا بشأن قيامنا بأعمال تهجير العائلات من القرى الحدودية، أو الخطف والإتاوات، غير صحيحة، وهي اتهامات باطلة".

وأضاف أن "العائلات الكردية تركت القرى الحدودية، بسبب القصف التركي، وليس بسببنا. تركيا تقصف حتى تهجر العائلات، ثم تقتحم المناطق برياً، ويكون لها تواجد على الأراضي العراقية، حيث قامت بتجريف عدد من الأراضي التي احتلتها في عدد من القرى الحدودية أخيراً".

وبين موس أن "عناصر حزب العمال الكردستاني لا يتواجدون وسط الأهالي، حتى يقوموا بتهجير العائلات أو فرض إتاوات عليهم. هم يتواجدون خارج المدن والقرى السكنية، وفي أماكن سرية بعيدة حتى عن أنظار الأهالي".

هذا الأمر نفاه مسؤول لجنة الإغاثة الفرعية في دهوك حسين عقراوي، قائلاً إن "القصف والاشتباكات يبدآن متى دخل حزب العمال الكردستاني أي منطقة". وأضاف، لـ"العربي الجديد"، أن "كل القرى آمنة ومستقرة، وبمجرد دخول جيب (آلية) أو مجموعة من مسلحي الحزب يبدؤون بعسكرة المنطقة واتخاذها ملاذاً، ومن الطبيعي أن يكون هناك تحرك تركي عسكري".
(شارك في التقرير من بغداد: عادل النواب)