شهدت الساحة النضالية الفلسطينية في السنوات الأخيرة تنامي ظاهرة العمليات الفردية، التي ينفذها ويخطط لها أفراد من دون أي إيعازات تنظيمية، وبعيدًا عن حسابات الحركات والتنظيمات وغاياتها. لم تكن تلك العمليات جديدة كليا، فقد عرفت الانتفاضة الفلسطينية الأولى ما عرف بـ "حرب السكاكين"، كما ظهرت أشكال تلك العمليات خلال الانتفاضة الثانية بعد أن استعاضت عن السلاح الأبيض بالأسلحة النارية والعبوات الناسفة. بعد أن تخللت تلك العمليات نمط المقاومة الجماهيرية العفوية، وتلك الموجهة التي أدارتها الفصائل الفلسطينية، بدأت تفرض حضورها كما ونوعا كنمط مقاومة متميز منذ العام 2014.
زلزل نمط العمليات الفردية أهم ركائز الأمن الإسرائيلي المتمثلة في الإنذار المبكر والردع، وكان من الصعب على أجهزة الاستخبارات والأمن الإسرائيلية جمع معلومات عن تلك العمليات قبل تنفيذها، طالما بقيت أدواتها وتوقيتها ومكانها مخططا في ذهن شخص واحد هو منفذ العملية. كان نجاح عملية واحدة، بمقاييس المخطط لها وأهدافه على الأقل، يجر وراءه سلسلة من العمليات المشابهة، لتشكّل حالة استنزاف للاحتلال وتهديدا أمنيا لجنوده ومستوطنيه في الضفة الغربية المحتلة، امتدت إلى الأراضي المحتلة العام 1948. شددت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية إجراءاتها الأمنية، وكثفت وجودها، وأخضعت وسائل التواصل الاجتماعي لرقابة صارمة، وضيقت ما أمكن على الفلسطينيين، بل مارست دون تردد الإعدام الميداني بحق كل من تشك بأنه على وشك أن ينفذ عملية فردية، لكن كل تلك الإجراءات لم تستطع الحد من هذه الظاهرة.
وبالرغم من محاولة فصائل فلسطينية إعلان مسؤوليتها عن بعض تلك العمليات، فإن ذلك لم يشوش طابعها الفردي تخطيطا وتنفيذا. ووراء شعارات التبني والمديح، خضع تأييد الفصائل والقوى السياسية الفلسطينية لهذه العمليات إلى مزاجية الزمان والمكان والحسابات السياسية، فتبنتها إن كان ذلك يزيد من رصيدها الجماهيري، ونفت مسؤوليتها عنها، وأكّدت فرديتها حين كانت سببا في ممارسة الضغوط عليها. ولا تزال تلك العمليات وجدواها محل خلاف فلسطيني. فما هي أسباب تلك الظاهرة، وهل تضيف قيمة نضالية جديدة في الساحة الفلسطينية وتحقق مردودا إيجابيا لمصلحة كفاح الشعب الفلسطيني ونضالاته في مقارعة
الاحتلال، مؤسسة لنمط نضالي جديد وفاعل؟ أم تبقى أضعف الإيمان ومجرد رد فعل على جرائم الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني؟
العمليات الفردية في الضفة
بانتقال القيادة الفلسطينية من مشروع التحرير الى مشروع الدولة، لم يعد الكفاح المسلح مكوّنًا من مكونات المشروع الوطني، وانفصلت المقاومة عن السياسة، وبدا أنهما نقيضان، وبدا أن المتمسكين بنهج الكفاح المسلح باتوا خارج العملية السياسية، بل كثيرا ما استهدفوا بكفاحهم العملية السياسية. وفي "كامب ديفيد" العام 2000، رفض المفاوضون الفلسطينيون الضغوط التي مارستها عليهم الإدارة الأميركية للقبول بشروط الاستسلام الإسرائيلية التي منحت الفلسطينيين أقل من دولة منزوعة السيادة، مجردة من القدس، بعد طي حقّ العودة. تخلّت الولايات المتحدة علنا عن دور الوسيط، وعملت وإسرائيل على معاقبة الفلسطينيين قيادة وشعبا، احتمت القيادة بشعبها الفلسطيني، واتخذ ياسر عرفات قرارا بعسكرة الانتفاضة الثانية التي مني فيها الفلسطينيون بهزيمة عسكرية وسياسية قاسية. ومع القيادة الجديدة لمحمود عباس لم تعد المفاوضات تكتيكا بل استراتيجية، وازداد الفلسطينيون هزيمة وإنهاكا بعد انقلاب حماس المسلح وسيطرتها على قطاع غزة العام 2007، واللذين كرّسا انقساما في الساحة الفلسطينية أضعف اللحمة المجتمعية والسياسية في مواجهة الاحتلال.
عمل جدار الفصل العنصري الإسرائيلي على تقطيع أوصال الضفة الغربية، وحوّلها إلى "كانتونات" معزولة، وكفّ الجيش الإسرائيلي عن التمركز في المدن، وخصص لمستوطنيه ومستوطناتهم طرقا بديلة آمنة بعيدة عن التجمعات والمناطق الفلسطينية، ومع تقلّص الاحتكاك بالجيش الإسرائيلي والمستوطنين، لم تعد تتوافر العوامل المناسبة للمقاومة الجماهيرية، التي بدت أيضا أقلّ جدوى وفاعلية. المفاوضات مع الاحتلال التي أصرت عليها السلطة الفلسطينية، خيارا وحيدا، ورّطتها في مزيد من التنسيق الأمني مع إسرائيل، ووجدت الجماهير الفلسطينية نفسها بين مطرقة الاحتلال وجرائم مستوطنيه، وسندان التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل.
في العام 2014 أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تعليق المفاوضات مع الفلسطينيين، متذرّعا باعتراضه على حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية الجديدة، وتغوّل الاحتلال الإسرائيلي بقيادة اليمين الإسرائيلي المتطرف لتتعاظم جرائمه بحق الإنسان الفلسطيني، وأرضه، وممتلكاته المباشرة، في القدس وأحيائها، وعموم الضفة الغربية. كان استشهاد الطفل
محمد أبو خضير من حي شعفاط بالقدس بعد خطفه وحرقه حيا على يد مستوطنين، واستشهاد الطفلة إيناس بعد دهسها هي وصديقتها تولين عصفور من قبل مستوطن إسرائيلي بين مستوطنتي عوفرا وشيلا، وشنق مستوطنين للمقدسي يوسف الرموني، وغيرها، الشرارات اللازمة لانطلاق سلسلة من العمليات الفردية، منها: عمليتا دهس نفذها مقدسيان هما عبد الرحمن الشلودي وإبراهيم عكاري، وحاول معتز حجازي من أبناء القدس أيضا اغتيال الحاخام "يهودا غليك" ردا على اعتداءاته على المسجد الأقصى وتحريضه على الفلسطينيين. وانتقاما لمقتل الرموني، اقتحم كل من غسان وعدي أبو جمل كنيسا يهوديا في القدس فقتلا عددا من المستوطنين بالسلاح الأبيض والأسلحة النارية، كما قام فلسطيني بطعن ودهس مستوطنين قرب مستوطنة "غوش عتصيون"، وقام آخر أتى متسللا من نابلس في الضفة بطعن جندي إسرائيلي في محطة قطارات في تل أبيب.
الإجراءات الأمنية، وسياسات العقاب الجماعي، التي نفذتها إسرائيل بشكل منهجي ضد الفلسطينيين، لم تنجح في ردع هؤلاء عن استئناف تنفيذ هذه العمليات، وانطلقت العام 2015 موجة جديدة من تلك العمليات سميت بـ "ثورة السكاكين"، مهد لها، من بين عوامل أخرى، حرق مستوطنين لمنزل عائلة الدوابشة الفلسطينية، في دوما في محافظة نابلس، مما أدى إلى استشهاد الرضيع علي، ووالده، وأمه، وإصابة أخيه أحمد بجروح خطيرة. تمثّلت أبرز تلك العمليات بقيام مسلحين فلسطينيين باستهداف مستوطنين إسرائيليين شمال الضفة، وقيام مهند حلبي بطعن مستوطن في القدس والاستيلاء على سلاحه، ليقتل في المحصلة ثلاثة مستوطنين قبل أن يستشهد، وتوالت بعدها عمليات طعن ودهس ترافقت مع مواجهات جماهيرية دفاعا عن المسجد الأقصى عرفت بـ"هبة الأقصى".
من الضفة إلى غزة
تفردت الضفة الغربية بتكتيك العمليات الفردية، وفي العام 2018 تم إحصاء: 50 عملية إطلاق نار، و35 عملية طعن ومحاولة طعن، و15 عملية دهس ومحاولة دهس، و53 عملية إلقاء أو زرع عبوات ناسفة، و262 عملية إلقاء زجاجات حارقة. أدت لمقتل 14 إسرائيلياً، وجرح أكثر من 170 آخرين. لكن في المقابل أدت إلى استشهاد 36 فلسطينيا وإصابة المئات منهم.
وشهد هذا العام (2018) انتقال نمط عمليات المقاومة الفردية إلى غزة، بعد أن بدأت مسيرات العودة الموجهة فصائليا تفقد زخمها وترتفع كلفتها، ولكنها كانت قد كسرت عقدة الخوف من السياج الفاصل، وربما كشفت عن ثغراته الأمنية، حين استطاع بعض الشبان المنخرطين في تلك المسيرات من اختراقه وصولا إلى الأراضي المحتلة العام 1948.
العمليات في غزة نفذها افراد أو خلايا تشكلت من عدد منهم، معظم هؤلاء انتموا إلى الجناح العسكري لأجنحة المقاومة في غزة، استخدموا أسلحة تلك الحركات، لكنهم نفذوها بتخطيط ذاتي دون أي إيعاز من الفصائل التي ينتمون اليها. وكانت نقطة البداية الأكثر وضوحا؛ العملية التي قام بها هاني أبو صلاح، الذي تمكن من عبور السياج الفاصل على حدود القطاع، واشتبك مع جنود الاحتلال وجرح ثلاثة منهم. حفّزت هذه العملية مجموعة من أربعة مقاومين حاولوا اجتياز السياج شرق مدينة دير البلح، لكنهم استشهدوا بنيران قوات الاحتلال بعد رصدهم. واستشهد فلسطيني اشتبك مع قوات الاحتلال قرب السياج شمال القطاع، وأعقب ذلك استشهاد ثلاثة مقاومين آخرين اشتبكوا مع قوات الاحتلال شمالا. وكما تمرد هذا النمط على قبضة التنسيق الأمني في الضفة، خلط الأوراق في غزة؛ فكسر احتكار حماس لقرار التهدئة والتصعيد، وأربك حسابات إسرائيل التي تأرجحت بين الرد العسكري الموضعي المحدود، والمواجهة الموسّعة. طلبت إسرائيل في البداية من الوسطاء المصريين الضغط على حركة حماس لوقف تلك العمليات، لكن "حماس" رفضت ذلك، وأشادت بتلك العمليات، وأبلغت إسرائيل أن تلك العمليات خارجة عن سيطرتها، وحذّرتها من خطر الانفجار جراء المماطلة في تطبيق تفاهمات التهدئة. اكتفت إسرائيل بمزيد من الإجراءات الأمنية على الحدود، وباشرت ببناء جدارٍ إسمنتي جديد لمنع عمليات التسلل، ورأت فيها تهديدا أقل خطرا من عمليات إطلاق الصواريخ. لكن مع اكتساب تلك العمليات مزيدا من الزخم، وخشيتها من أن تخرج عن السيطرة فتقودها إلى مواجهة غير محسوبة مع قوات الاحتلال، رفعت "حماس" وباقي الفصائل الغطاء التنظيمي عنها، وأكّدت فرديتها، وأصدرت اللجنة الشرعية في القطاع، العام 2019، فتوى تحرّم فيها مقارعة الاحتلال بطرقٍ فردية، أو من دون الحصول على إذن من الفصائل.
عكست العمليات الفردية في القطاع، استياء عناصر المقاومة من تردد فصائلهم في التصدي للاعتداءات الإسرائيلية، ومن حرصها على تفاهمات التهدئة أكثر من حرصها على المقاومة وسيلة للتحرير، وهو استياء يضاف إلى الاستياء المتعاظم بين الغزيين الذين باتوا يحمّلون "حماس" مسؤولية الفشل في إدارة المعركة مع إسرائيل، ورفع الحصار، وسياساتها القمعية، وتلك التي تسببت في مزيد من الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية.
روح المقاومة
مع ارتفاع تكلفة المقاومة المسلحة في ظل اختلال موازين القوى لصالح الكيان الاستيطاني الصهيوني، غابت استراتيجية تحرر وطني قادرة على تقنين وضمان ديمومة الفعل المقاوم الفلسطيني، تشكل إجماعا فلسطينيا. وتعاظمت أزمات المجتمع الفلسطيني، في دوائره المختلفة، سياسيا واقتصاديا وأمنيا، مع استمرار الانقسام في الساحة الفلسطينية، في ظل انسداد أفق الحلّ السلمي، وفشل السلطة الفلسطينية في تحقيق التنمية تحت الاحتلال، وارتهان الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي، وللمساعدات المشروطة دوليا وإقليميا. على الضفة الأخرى، تخلّت "حماس" عن المقاومة لصالح تفاهمات التهدئة والتفاوض على الهدنة. نتيجة ذلك وغيره، بات المستقبل بالنسبة للأجيال الفلسطينية الجديدة أكثر غموضا، مع ارتفاع نسبة البطالة، وانعدام الفرص على مختلف الصعد وتنامي الإحباط. أتت عمليات المقاومة الفردية استجابة لهذا الواقع الموضوعي.
لا شك أن تلك العمليات تؤكّد أن الثنائية التي تكرّست بين الحالتين المجتمعية والسياسية الفصائلية لم تؤد إلى ثنائية بين المجتمع الفلسطيني وروح المقاومة، وحملت رسالة مفادها؛ أن المقاومة باقية ما بقي الاحتلال وممارساته بحق الشعب الفلسطيني، والذي يلعب دور المولد للعنف المضاد، بدءا من مستواه التلقائي الفطري. لقد كسر هذا الشكل من المقاومة احتكار البنى الحزبية التقليدية للفعل المقاوم، وفرضت وحدة في الأدوات والغايات من خارج الساحة الفصائلية، تجاوزت التقسيمات الجغرافية، والحسابات السياسية التي قزّمت تضحيات الفلسطينيين نتيجة صراعات الشرعية والتمثيل، ومن ثم الصراعات على السلطة.
خاتمة
كانت تلك العمليات أحد اشكال النضال الفلسطيني الممكن في ظل ما تسمح به المعطيات فلسطينيا وعربيا ودوليا، وهي مبادرة فردية خالصة، لا تتحمل مسؤوليتها أي جهة سياسية منظّمة، ولا يمكن لوم منفذيها عبر نقاش أخلاقي، وقبل لوم الضحية ينبغي أن يلام الجلاد؛ ممثلا في الاحتلال، وانسداد الأفق الذي يفرضه على الفلسطينيين. ومع ما تلعبه هذه العمليات من دور معنوي رمزي محافظة على روح المقاومة ونموذجها المتقد، إلا أن تأثيرها محدود في مواجهة الاحتلال، فالعمل الفردي وإن بدا أكثر تحصينا من الناحية الأمنية فإن كفاءته واستمراريته محدودتان، وقد خبت تلك العمليات في الأشهر الأخيرة. تلك العمليات ارتجالية لا تحمل سوى أهداف منفذيها في المقاومة لأجل المقاومة، ولا يمكن لها، طالما بقيت معزولة سياسيا وتنظيميا، أن تحقق تراكما لتتحوّل إلى حالة فعل جماهيري، لكنها خطوة هامة على صعيد تجذير رفض الاحتلال وعدم الاستسلام للأمر الواقع. هي خطوة من بين خطوات أخرى مطلوبة لإعادة إنتاج
مستمرة للفعل الاجتماعي المستدام في الاشتباك مع المحتلّ. لتضيف تلك العمليات مردودا إيجابيا إلى كفاح الشعب الفلسطيني، وتأخذ مكانها على صعيد التأسيس لنهضة اجتماعية سياسية ووطنية فلسطينية، ما زالت الحاجة قائمة لقوى ثورية قادرة على صياغة استراتيجية نضالية تعيد الوحدة للنسيج الاجتماعي الفلسطيني على مستوى الوسائل والأهداف.