العمليات العسكرية الإسرائيلية: التطهير العرقي المقصود والممنهج

29 سبتمبر 2024
نزوح العائلات الفلسطينية المتكرر منذ بداية عدوان الاحتلال الإسرائيلي الحالي (فرانس برس)
+ الخط -

تتكشف يومياً الغايات الحقيقية والنهائية الكامنة خلف العمليات العسكرية، وحرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة. فقد أعلنت قوات جيش الاحتلال في الثامن والعشرين من آب 2024 إطلاق حملتها العسكرية ضد مدن شمال الضفة الغربية، وتحديداً ضد مدينتي طولكرم وجنين ومخيماتهما، إذ أطلق الجيش الإسرائيلي على هذه العملية اسم "المخيمات الصيفية"، كما ألمح بيان الناطق باسم جيش الاحتلال إلى أن "عملية إخلاء السكان" من المخيمات والمدن التي سيتم اجتياحها قد تكون جزءاً من الأدوات التي ستلجأ إليها قوات الاحتلال. في اليوم ذاته صرح وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، أن إسرائيل ستنقل السكان من المخيمات، وهو ما أثار الكثير من الأسئلة بشأن الأهداف الحقيقية للعملية، التي دمرت فيها قوات الاحتلال عشرات المنازل، والبنية التحتية، والمحال التجارية، والميادين والطرق في مدينتي طولكرم وجنين ومخيماتهما، كما استهدفت شبكات المياه، وخطوط الكهرباء والإنترنت، وحاصرت المستشفيات فيهما.

بالتزامن مع العمليات العسكرية، قدم الجنرال احتياط "جيورا إيلند"، رئيس قسم العلميات السابق في جيش الاحتلال، خطته التي أعدها مع عدد كبير من جنود جيش الاحتلال وضباطه، وأطلقوا عليها اسم "خطة الجنرالات"، تهدف الخطة إلى حسم الحرب في قطاع غزة، وتحقيق الانتصار على المقاومة الذي طال انتظاره، والذي لا يلوح في الأفق.

تدعو "خطة الجنرالات" إلى إفراغ شمال قطاع غزة، من مدينة غزة ووادي غزة شمالاً، من السكان وإعطائهم مهلة أسبوعين من أجل الخروج، عبر ممرات آمنة يحددها الجيش، ثم ستُعلن، بعد انتهاء المهلة المحددة، المنطقةُ منطقةً عسكرية مغلقة، تعادل المنطقة 40% من مساحة قطاع غزة، وتضم حوالي 300 ألف فلسطيني (ممن تبقوا في هذه المناطق منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وفق إحصائيات الجيش الإسرائيلي) ، كما هددت قوات الاحتلال بالقتل أو السجن أو التجويع حتى الموت (منع دخول المساعدات كلياً) كلَّ من يختار البقاء في تلك المنطقة، معتبرة إياه معادياً ومقاتلاً في صفوف حماس وحركات المقاومة الأخرى".
المرحلة الثانية من الحرب: التهجير والاستيطان

خلق الحصار المالي أزمة معيشية خانقة في الأراضي المحتلة، فاقمت آثارها عمليات نهب الأرض، وانتشار الاستيطان الرعوي، واعتداءات المستوطنين

نشر محرر صحيفة "هآرتس"، ألوف بن، في 9 ديسمبر/كانون الأول ما اعتبرها معالم اليوم التالي للحرب وفق أجندة بنيامين نتنياهو وشركائه في اليمين. أطلق ألوف على هذه الخطة اسم "المرحلة الثانية من الحرب على غزة"، كما تراها حكومة اليمين الإسرائيلي، التي تقاطعت فيها مصالح رئيسها الشخصية والأيديولوجية مع خطط شركائه وتطلعاتهم من أقصى اليمين.

تتقاطع تفاصيل المرحلة التالية من الحرب على غزة تقاطعاً تاماً مع خطة الحسم، التي قدمها رئيس حزب الصهيونية الدينية، بتسلئيل سموتريتش عام 2017، التي ترمي إلى إفراغ الضفة الغربية من سكانها الأصليين، ومن ثم ضمها إلى إسرائيل، وعودة الاستيطان في غزة. إضافة إلى ذلك تفسر خطة ألوف الآليات والوسائل التي تتبعها دولة الاحتلال منذ السابع من أكتوبر، والتي تركز تركيزاً مكثفاً وملحوظاً على التدمير الشامل للبنية التحتية، وحصار المدن وفصل بعضها عن بعض، وتقطيع الأوصال بين المناطق، وقتل كل مقومات الحياة وأسبابها، وإفراغ المناطق التي يتم اجتياحها من السكان.

تحفل الصحف والمواقع الإسرائيلية بالتصريحات والخطط والدعوات المطالبة بعودة الاستيطان إلى غزة، وتشجيع هجرة الفلسطينيين الطوعية، واعتبار اقتطاع مساحات واسعة من الأرض ومصادرتها وإخلائها "أسلوب عقاب رادع للفلسطينيين"، الذين لا يكترثون ولا يرتدعون من أساليب العقاب الجماعي القائمة على القتل والاعتقال، وشن العمليات العسكرية.

ملحق فلسطين
التحديثات الحية

تتلخص هذه الدعوات في ما يطلق عليه وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، وقادة اليمين المتطرف بـ"الرد الصهيوني" على مقاومة الفلسطينيين وصمودهم، عبر حرمانهم من الأرض واقتلاعهم منها، وتحويلها إلى مستوطنات.

إفقار الضفة وتدمير القطاع

إلى جانب التصريحات العلنية، والعمليات العسكرية، والتدمير الشامل للبنية التحتية، توج الاحتلال ممارساته بعمليات التدمير الممنهج والشامل لمدن الضفة الغربية ومخيماتها، التي تسير بالتوازي مع عملية الإبادة في غزة، بعد عام كامل من الحصار، وتقطيع المدن، والخنق الاقتصادي، وإفقار المجتمع في الضفة الغربية.

كذلك أقدم وزير المالية الإسرائيلي، أكثر من مرة، على اقتطاع أموال المقاصة، التي تجبيها إسرائيل نيابة عن السلطة من المعابر الحدودية التي تسيطر عليها، كما فتحت المحاكم الباب أمام طلب تعويضات، يتم حسمها من أموال المقاصة، لصالح المتضررين من العمليات التي نفذها مقاومون فلسطينيون، وهي خطوات جعلت السلطة الفلسطينية، التي تعتبر أكبر مشغل للفلسطينيين، تواجه أزمة خانقة، عجزت بسببها عن الإيفاء بأدنى التزاماتها تجاه الموظفين، والقطاعات التي تديرها (صحة وتعليم وبنية تحية).

تدعو "خطة الجنرالات" إلى إفراغ شمال قطاع غزة، من مدينة غزة ووادي غزة شمالاً، من السكان وإعطائهم مهلة أسبوعين من أجل الخروج

على صعيد مواز، يعد العمل داخل الخط الأخضر ثاني مصادر دخل الفلسطينيين، لكن تراجعت إمكانية العمل في داخل الخط الأخضر، لتخلف جيشاً من مئات آلاف العاطلين عن العمل، وذلك بسبب السياسات العنصرية الإسرائيلية، وإغلاق المعابر في وجه العمال بذريعة أحداث السابع من أكتوبر.

خلق الحصار المالي أزمة معيشية خانقة في الأراضي المحتلة، فاقمت آثارها عمليات نهب الأرض، وانتشار الاستيطان الرعوي، واعتداءات المستوطنين التي دمرت الثروة الزراعية والحيوانية في الضفة الغربية، وتراجعت التجارة الداخلية بسبب مئات الحواجز، وإغلاق المدن، والفصل في الطرقات بين المستوطنين والفلسطينيين لصالح المستوطنين، الذي استأثروا بالطرق الرئيسية ودفعوا الفلسطينيين نحو استخدام طرق وعرة وبعيدة وغير معبدة.

هذه العوامل كلها، إضافة إلى سياسات السلطة الفلسطينية الاقتصادية المنحازة إلى كبار المستثمرين والوكلاء، وعدم تبني سياسات شعبية شفافة، ولا فرض تقشف يقلص من نفقات جهازها الإداري والبيروقراطي والأمني المتضخم، وغير المنتج، وتفشي الفساد والمحسوبية...إلخ ذلك كله جرد المواطن من أي حماية، أو قدرة على الصمود والتصدي لسياسات الاحتلال، التي ترمي إلى اقتلاعه من أرضه.

فَكّا كمّاشة

التقت في لحظة حاسمة من المواجهة التي تخوضها المقاومة، وتسجل فيها صموداً منقطع النظير في قطاع غزة، تطلعات اليمين الإسرائيلي الفاشي، التي كشفت عن مدى جشعها وانفلاتها، مع حالة ضعف السلطة الفلسطينية وعجزها الكبير، وغياب لا يمكن تبريره عن المشهد لفصائل تاريخية في منظمة التحرير، ما عرض المواطن الفلسطيني لحالة غير مسبوقة من الضغط العسكري، وإرهاب المستوطنين، وسياسات الإفقار والتجويع، بهدف اقتلاعه من أرضه، وحسم الصراع على حساب قضيته ووجوده.

لم يكن اليمين الفاشي، في دولة الاحتلال، ليجرؤ عن الإفصاح عن أهدافه بهذه الصراحة، وما كانت الآلة العسكرية الضخمة لتسخر لتنفيذ هذه الأهداف، من دون توافق بحده الأدنى، وشبه إجماع على أن العملية السياسية قد انتهت بلا رجعة، لذا إن الفرصة الحالية مؤاتية داخلياً من أجل الانتقال بالصراع إلى مرحلة الحسم، وهو ما يملي على القيادة الفلسطينية إعادة النظر جدياً في خطابها وسياساتها، ورهاناتها، وعلاقاتها الداخلية والخارجية، والتنبه إلى الخطر الوجودي الذي يتهدد قضية الشعب الفلسطيني ووجوده.

المساهمون