العلاقات البرازيلية-الفلسطينية بين صعود وهبوط

30 يناير 2022
مسيرة في ساو باولو إحياء لذكرى النكبة العام الماضي (كريستينا سيزونسكي/الأناضول)
+ الخط -

امتازت علاقة البرازيل الرسمية مع القضية الفلسطينية بالتغيّر الدائم حسب ظروف الزمان والمصالح. فالبرازيل التي اعترفت بقرار التقسيم عام 1947، اعترفت أثناء حكم الديكتاتورية العسكرية المقرّبة من الكيان الصهيوني بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا للشعب الفلسطيني في العام 1975، بعد أزمة النفط العالمية في العام 1973، لتعود في العام 2010، أي أثناء فترة حكم الرئيس، إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان أول رئيس برازيلي يزور الكيان الصهيوني للاعتراف بحل الدولتين. إلا أن مجمل المواقف الرسمية البرازيلية، بما فيها مواقف الرئيسين لولا دا سيلفا، وخليفته ديلما روسيف، أبقت على علاقات اقتصادية وسياسية قوية جدا مع الكيان.

ازداد عدد الشركات "الإسرائيلية" في العقدين الأخيرين من 5 إلى 150 شركة (1)، فيما تستحوذ البرازيل على ما نسبته 2% من حجم صادرات الأسلحة "الإسرائيلية" منذ فترة حكم الرئيس لولا دا سيلفا، حسب ما يؤكّده ريجينالدو ناصر (2)، وهو تعاون يظهر بشكل جلي من خلال "معرض أميركا اللاتينية للدفاع والطيران"، الذي يطلق عليه النشطاء "معرض الموت"، وهو يقام مرة كل عامين في مدينة ريو دي جانيرو، ولـ "إسرائيل" فيه حضور بارز. 

أما على المستوى الشعبي، فإنه رغم التقصير العربي بحق القضية الفلسطينية، ورغم العمل المتواصل والمحموم للمؤسسات والهيئات الصهيونية لإظهار الكيان الصهيوني حمامَة سلام، ووسم الشعب الفلسطيني ومقاومته للظلم التاريخي الذي حاق به بالإرهاب، إلا أن القضية الفلسطينية لم تفقد بريقها في البرازيل، بل في كل أنحاء أميركا اللاتينية، ولديها الكثير من الأنصار على المستويين الشعبي والحزبي، إذ هنالك عمل لا يتوقف لـ "حملة مقاطعة داعمي الكيان الصهيوني - BDS" ولـ "جبهة الدفاع عن الشعب الفلسطيني"، التي أسسها أكثر من 100 حزب وتنظيم ومؤسسة في ديسمبر/كانون الأول 2008، بعد الهجوم الصهيوني على قطاع غزة، لتكون إطاراً تنسيقياً جامعاً لكل الأطر المتضامنة مع القضية الفلسطينية، وعدد من أحزاب اليسار المؤيدة والمتضامنة مع القضية، على رأسها "حزب العمال الاشتراكي الموحّد" بفروعه الموزعة في عدة بلدان في أميركا اللاتينية. هذا، بالإضافة إلى "المعهد الفلسطيني - البرازيلي" و"مرصد الشرق الأوسط"، تجربةً رائدة على مستوى الإعلام الإلكتروني الذي استطاع إيصال صوت فلسطين للقارئين باللغة البرتغالية، وعدد لا يحصى من الجمعيات والمراكز والمؤسسات الأقل شأناً وفاعلية.

ومع صعود اليمين المتطرّف إلى الحكم مرة أخرى، ممثلاً بالرئيس جايير بولسونارو، عادت القضية الفلسطينية مجدداً إلى واجهة الأحداث من خلال تصريحات موتوره لبولسونارو، أعلن فيها أنه سيسير على خطى حليفه الرئيس الأميركي الأكثر تطرّفاً، دونالد ترامب، بنقل السفارة البرازيلية من تل أبيب إلى القدس، كما عمل على تمتين علاقاته مع الكيان الصهيوني من خلال زيارات متبادلة، ابتدأها نتنياهو بعد تنصيب بولسونارو مباشرة، في بداية يناير 2019، ثم زيارة بولسونارو لـ "اسرائيل" في آذار 2019، وهي أول زيارة خارجية له في دلالة واضحة على مدى انحيازه للكيان الصهيوني، وهي (نقل السفارة) خطوة يبدو أنه قرّر أن لا يخطوها، خاصة أن هنالك ضغوطات كبيرة مورست عليه من قبل شركات تصدير اللحوم التي وصل حجم مبيعاتها إلى العالم العربي لحوالي خمسة مليارات دولار، بينما لم يتجاوز حجم التجارة مع إسرائيل 1.2 مليار دولار أميركي.

الخطوة غير المسبوقة على المستوى البرلماني البرازيلي والتي لاقت ترحيباً واسعاً في الأوساط السياسية المؤيّدة للقضية الفلسطينية قوبلت بفتور وتجاهل ومقاطعة من قبل السلطة الفلسطينية لكل نشاطات الجبهة

وسط هذه الأجواء، وبالتزامن مع وصول بولسونارو للسلطة، في بداية يناير/كانون الثاني 2019، والذي كان نتيجة تحالفات واسعة بين المؤسسة العسكرية وأصحاب رؤوس الأموال ومُلّاك الأراضي، أُطلقت واحدة من أهم المبادرات لتشكيل "لوبي" برلماني تحت اسم "الجبهة البرلمانية المشتركة للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني"، في السادس من ديسمبر 2019، بجهود عدد من المثقفين على رأسهم رئيس "المعهد الفلسطيني - البرازيلي"، الدكتور أحمد شحادة، نتاجا لعمل حثيث استمر عدّة أشهر، وقد ضم ذلك التجمع حوالي 237 نائباً وشيخاً من 12 حزباً سياسياً تمثّل اتجاهات يسارية مختلفة، لا يجمعهم ربما سوى القضية الفلسطينية، لكن ضمن الحدود الدنيا، بحيث لا تخرج عن نطاق ما تعترف به الحكومة البرازيلية بشكل رسمي، حلّ الدولتين مثلاً، إلا أنهم وبمفارقة إيجابية، ورغم تأييدهم لحل الدولتين، يؤيّدون أيضاً حق الشعب الفلسطيني بمقاومة الاحتلال، وحقه في تقرير مصيره. وهو تأييد يسعى الصهاينة لإحباطه بكل السبل والوسائل، على اعتبار أن المقاومة إرهاب تجب مكافحته.

الخطوة غير المسبوقة على المستوى البرلماني البرازيلي لجهة كونها أكبر جبهة برلمانية على الإطلاق في تاريخ البلاد، والتي لاقت ترحيباً واسعاً في الأوساط السياسية المؤيّدة للقضية الفلسطينية، قوبلت بفتور وتجاهل ومقاطعة من قبل السلطة الفلسطينية، ممثلة بسفيرها، لكل نشاطات الجبهة التي كانت تلتقي في بداية تأسيسها وتعقد جلساتها العلنية الداعمة لفلسطين في مبنى البرلمان، ثم ما لبثت أن توقفت عن الاجتماع الوجاهي، لتتحول إلى عقد اللقاءات عبر تطبيقات الإنترنت بعد أن فرضت جائحة كورونا نفسها على العالم وعطّلت الكثير من المشاريع، والتي كان من بينها نيّة "الجبهة" إرسال وفد إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة لزيارة قطاع غزة المحاصر والاطلاع على أوضاع الأسرى الفلسطينيين في معتقلات جيش الاحتلال.

تشكيل هذه الجبهة بسهولة ويسر نسبي، وبوقت يعتبر قياسياً، لهو دليل على ما للقضية الفلسطينية العادلة من مكانة في أوساط الشعب البرازيلي

أصدرت الجبهة العديد من البيانات التي دانت فيها الاعتداءات الصهيونية على الشعب الفلسطيني، والتطهير العرقي، والفصل العنصري، وعدوان مايو/أيار 2021 على قطاع غزة. كما توعدت "اسرائيل" بمعارضة كل الاتفاقيات الموقعة معها وعلى كل المستويات، السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، فيما لو استمر عدوانها على الشعب الفلسطيني الأعزل.
وكرد على نشاطات الجبهة، اعتبر اللوبي الداعم للكيان الصهيوني في البرلمان ومجلس الشيوخ، أن ما حصل في غزة هو ما يمكن تسميته مكافحة الجيش الصهيوني للإرهاب (3).

لدى "اسرائيل" جبهة برلمانية بعدد أقل بكثير من النواب، لكنها جبهة قديمة وفاعلة ومؤثرة لا ينقصها المال أو النفوذ أو حتى التضامن في أوساط قوى اليمين، وتستطيع تمرير العديد من القرارات الهامة لمصلحة الكيان، والتي كان آخرها نص اتفاقية بشأن التعاون الدفاعي تم طرحها في العام 2019، وصُوت عليها في ديسمبر 2021 لتصبح نافذة (4)، وهو ما يعني أن لغة المصالح تتفوق على ما عداها، وأن هذه الجبهة، على عكس الجبهة الداعمة لفلسطين، والتي تتفق على الحد الأدنى بما لا يخرج عمّا تعترف به السلطة البرازيلية، تعترف بالحدود العليا لمصلحة "اسرائيل" وتوظّف كل إمكانياتها في سبيل ذلك. 

ورغم كل شيء، فإن تشكيل هذه الجبهة بسهولة ويسر نسبي، وبوقت يعتبر قياسياً، لهو دليل على ما للقضية الفلسطينية، قضية عادلة، من مكانة في أوساط الشعب البرازيلي، وهي واحدة من الخطوات الهامّة والتي لا بد منها ومن تطويرها ومأسستها لفضح الممارسات الصهيونية في الأراضي المحتلة وخارجها، وللتأثير بالقرار الرسمي البرازيلي لما لذلك من أهمية، خاصة أن البرازيل، هي أكبر بلد في أميركا اللاتينية، ولها علاقات وثيقة الصلة مع العالم العربي على اعتبار أن الجالية العربية، هي جالية كبيرة ومُؤسّسة ويجب أن تكون مؤثرّة وقادرة على إيصال صوتها لمراكز صنع القرار البرازيلي، بالإضافة للمصالح التجارية الواسعة بين البرازيل والعالم العربي، والتي تفوق بأضعاف حجم مثيلاتها مع "إسرائيل".

_______
(1)
https://litci.org/en/bds-in-brazil-challenges-and-perspectives/
(2)
 Reginaldo Mattar Nasser (PUC(SP)), Bruno Huberman (PPGRISTD)
A “Diplomacia das Armas”: Relações Brasil-Israel de Lula a Bolsonaro.

https://www.abcp2020.sinteseeventos.com.br/simposio/view?ID_SIMPOSIO=11

(3)
https://www.jornaldacidadeonline.com.br/noticias/29776/movimento-judaico-rebate-parlamentares-de-esquerda-todos-queremos-paz-mas-antes-da-paz-queremos-tambem-a-verdadeequot

(4)
https://www.camara.leg.br/propostas-legislativas/2285694


 

المساهمون