يحلّ موعد الانتخابات البرلمانية العراقية في 10 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، على وقع تلاشي الآمال لدى القوى السياسية المدنية والعلمانية، في أن تكون النسخة الخامسة من الانتخابات التي تشهدها البلاد منذ عام 2003 منفذاً لتغيير ملموس. وفي السياق، يُسجل انسحاب ومقاطعة معظم الحركات السياسية الناشئة والجديدة والقوى المدنية التقليدية للانتخابات، معتبرة أنها "لن تكون بوابة التغيير المنشود"، إضافة إلى اتفاقهم على عدم "توفر ضمانات النزاهة في الانتخابات بسبب سطوة السلاح والمال السياسي". ويرى مراقبون أن هذه المعطيات تشكل سبباً في تضاؤل الوجود المدني العراقي في البرلمان المقبل، رغم قول نشطاء إن الامتناع عن المشاركة في الانتخابات محاولة للانتقاص من شرعية العملية السياسية الحالية القائمة على المحاصصة الطائفية.
تخشى القوى المدنية، المشارَكة في الانتخابات كي لا تشرّع السلاح
وفي ظلّ خيبة أمل النشطاء، يؤكد رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي، أن "حكومته اتخذت إجراءات مشددة للحيلولة دون حدوث عمليات تزوير في الانتخابات المقبلة"، مشدّداً في تصريحاته على أنها "ستمثل الحل الوحيد لمشكلات العراق، وأن هناك تنسيقاً لحضور أممي ودولي لإعطاء نسبة أعلى من المقبولية للانتخابات". مع العلم أن الكاظمي انسحب من السباق الانتخابي بعد أزمة سياسية شهدها العراق، على خلفية إعلان تيار "المرحلة" الذي كان الكاظمي يشغل فيه منصباً شرفياً، ويقوده مستشاروه ومعظمهم من المدنيين والعلمانيين. وسعى معظم الناشطين إلى تشكيل جبهات معارضة للحكومة في الأسابيع الأخيرة، على وقع الإعلانات الصريحة التي تشدّد على التمسك بخيار مقاطعة الانتخابات. وأبرز القوى الحالية هي "البيت الوطني"، و"الحزب الشيوعي العراقي"، وقوى سياسية ناشئة أخرى.
ووفقا لعضو "التيار المدني" العراقي، أحمد حقي، وهو من نشطاء الجنوب، المقيم منذ نحو عام في مدينة أربيل، بعد تهديدات تلقّاها من مجهولين، فإن "غالبية القوى المدنية مقاطعة، لكن هناك بعض التكتلات اختارت الذهاب نحو المشاركة بقرار منها". ويلفت إلى أن خيار السواد الأعظم من المدنيين هو عدم الخوض كمرشحين في هذه الانتخابات، لأن "المشاركة فيها ستعني منح شرعية لها من دون الحصول على مقاعد حقيقية، مع تسلط السلاح والمال والتلاعب بإرادات الناخبين". ويضيف: "نحن لن نشارك، وهذا قرار نهائي، لكن نسأل عن سبب عدم مواجهة الحكومة للخطاب الطائفي خلال حملات الترويج التي قادتها الأحزاب والكتل الدينية، وعن سكوتها على استغلال موارد الدولة، وورقة الفصائل المسلحة في هذه الانتخابات، وتعطيل البند القانوني الذي يحظر مشاركة الأجنحة المسلحة بالانتخابات". ويشدّد على أن الانتخابات المقبلة لن تنتج وجوهاً جديدة ولن تحمل أي تغيير ما دامت المحاصصة الطائفية معتمدة كعرف سياسي في البلاد".
في المقابل، يؤكد القيادي في حركة "نازل آخذ حقي"، التي تأسست في بغداد عقب التظاهرات، عمار النعيمي، أن "الانتخابات المبكرة كانت واحدة من المطالبات الشعبية في التظاهرات، وكان المدنيون والعلمانيون والشباب المطالبون بالحريات في مقدمتهم. وبكل تأكيد فإن خيار المقاطعة الذي تبنته بعض القوى السياسية الجديدة قد يؤدي إلى إضعاف فرص فوز المدنيين، وهذا ما تحتاجه معظم القوى السياسية الإسلامية التقليدية، وقوى السلاح التي تخشى من الأصوات الحرة غير المتورطة في الفساد والاختلاس". ويصف، في حديث لـ"العربي الجديد"، خيار المقاطعة بأنه "محترم ويحتوي على مبررات، لكننا نرى أن من واجبنا المشاركة في العمل السياسي ومحاربة الفاسدين من عمق البرلمان، والمساهمة في الإصلاح الحقيقي الذي طالبت به الجماهير الغاضبة، وقتلى المحتجين".
من جهته، يشير حامد السيد، المتحدث باسم حركة "وعي"، إحدى الحركات المشكّلة حديثاً وتقدّم نفسها على أنها تتبنى النهج المدني في العراق، إلى أن "العناوين المدنية والعلمانية حالياً لبعض الأحزاب العراقية، هي واجهة لأحزاب أيديولوجية، وقد فشلت معظمها في تأسيس مشروع وطني جامع. كما أنها لم تتمكن من ترجمة أفكارها على المستوى العملي خلال الأعوام السابقة، ولم تستطع ترجمة الطموحات العراقية بالحقوق الأساسية وتحقيق الخدمات ومحاربة الفساد، ومعظم هذه الكيانات لم يكن لها صوت واضح على مستوى التمثيل البرلماني". ويقول في حديثٍ مع "العربي الجديد"، إن "قانون الانتخابات الحالي سيؤدي إلى تراجع تمثيل الأحزاب الصغيرة غير المؤثرة وغير الفاعلة، ليس تلك التي تأسست عقب تظاهرات أكتوبر 2019، بل حتى القديمة منها، وقد نشهد شبه غياب لهذه الأحزاب. بالتالي، فإن رفع شعار المقاطعة هو اعتراف حقيقي وواقعي لهذه الخسارة، والقانون لم يكن ملبياً لطموحاتها السياسية، كما يمكن اعتبار أن غياب الواقعية يعدّ من أبرز المشاكل التي تحيط بالتجربة السياسية المدنية والعلمانية، لكن بالإمكان المنافسة من خلال المرشحين المستقلين أو غيرهم، لا سيما المؤثرين في مجتمعهم أو بمناطقهم".
من جهته، يلفت رئيس "البيت الوطني"، وهو كيان سياسي جديد مقاطع للانتخابات، حسين الغرابي، إلى أن "الكيانات المعارضة والمقاطعة للانتخابات لا تقف بالضد من الممارسات الديمقراطية وأبرزها الانتخابات، لكنها تقف بالضد من السلاح المنفلت الذي يملكه أعضاء وبعض قادة الأحزاب والكيانات السياسية الفاعلة في العمل السياسي والمشاركة في الانتخابات، إضافة إلى تسخير موارد الدولة في سبيل الفوز بمقاعد في البرلمان". ويرى، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن "جوهر الانتخابات هو ما تسعى إليه جميع القوى المدنية والوطنية والجماهيرية الغاضبة، لكن الواقع العراقي الحالي يفرز شكلا خطيرا من الانتخابات التي نرفض أن نكون جزءاً منها". ويعتبر أن "البيت الوطني اتخذ خيار المقاطعة من أجل تصحيح المسار السياسي عبر الضغط الشعبي والسياسي، بعد أن خربته المليشيات وقوى السلاح المنفلت".
الانتخابات لن تحمل أي تغيير طالما استمرت المحاصصة الطائفية
أما السياسية العراقية، النائبة السابقة شروق العبايجي، فتؤكد، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن "الكيانات السياسية التي لجأت إلى خيار المقاطعة لديها مبررات عدة، منها ضعف الحكومة الحالية في حل المشاكل الأمنية والتهديدات التي يتلقاها المرشحون وقادة الكيانات المدنية والعلمانية، وعمليات الاغتيال للمرشحين. وسبق أن طالبت تلك الكيانات بحصر السلاح بيد الدولة، وهو ما لم يحصل رغم سقوط مئات القتلى بنيران جماعات مجهولة". وتشير إلى أن "المال السياسي الفاسد الذي تتمتع به القوى السياسية الكبيرة التي تتعامل مع الناخبين بطريقة البيع والشراء، وتساهم في إفساد العملية الانتخابية من خلال شراء الذمم والتلاعب بالأصوات. بالتالي فإن المقاطعة المدنية للانتخابات لم تحدث لولا عدم تمكن الحكومة من تنفيذ المطالب المدنية". وتعتبر العبايجي أن "الجماهير المدنية هي الأقوى، حتى وإن قلّت فرص فوز المدنيين بمقاعد في مجلس النواب، وأن الشعب العراقي يمثل القوى المدنية الأكبر في وجه الفاسدين".
بدوره، يرى المحلل السياسي عبدالله الركابي أن "نتائج الانتخابات المقبلة، ستشهد فوز مرشحين مستقلين لهم أصول حزبية مع الكيانات المعروفة والتقليدية، وسيعود معظم النواب المستقلين للتحالف مع كياناتهم الأصلية عقب تشكيل الحكومة الجديدة، ولن يكون هناك دور مؤثر للخط المدني في البرلمان المقبل". ويؤكد، في اتصالٍ مع "العربي الجديد"، أن "الأسباب التي تدفع الكيانات المدنية الجديدة إلى عدم المشاركة، مثل انتشار السلاح بيد الفصائل المسلحة، هي مبررات كان لا بد من استغلالها للمشاركة بالانتخابات، في سبيل المواجهة مع الفصائل ومحاولة تفكيكها ومنع مواردها المالية وتجفيف منابعها والسيطرة على أسلحتها".