شكّلت هزيمة حزب "العدالة والتنمية"، قائد الائتلاف الحكومي الحالي في المغرب، في الانتخابات التشريعية الجزئية التي جرت يوم الخميس الماضي في دائرة الرشيدية (جنوبي شرق المغرب) مفاجأة غير متوقعة، أدخلت الحزب الساعي لقيادة الحكومة، للمرة الثالثة على التوالي، في "مرحلة شك"، قبل أشهر من انتخابات تشريعية وبلدية (في النصف الثاني من العام الحالي) ستحدد مستقبل الإسلاميين في المشهد السياسي لما بعد عام 2021. وهو ما دفع قيادة الحزب جهوياً ووطنياً لدراسة أسباب الانتكاسة، وفقدان أحد المعاقل الانتخابية. والجهة هي إطار إداري اعتمده المغرب سنة 2015 وتم بموجبه تقسيم البلاد إلى 12 جهة تتمتع بنوع من الاستقلالية الإدارية. وتنقسمُ كل جهة إلى عَمالات أو أقَاليم يختلف توزيعها من جهة إلى أُخرى. والرشيدية هي واحدة من خمسة أقاليم تقع ضمن جهة درعة تافيلالت والتي تضم أيضاً أقاليم ورزازات وميدلت وتنغير وزاكورة.
واحتل حزب العدالة والتنمية، المرتبة الثالثة في الرشيدية خلف حليفيه في الأغلبية الحكومية، حزب "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" و"التجمع الوطني للأحرار"، وهو ما يطرح علامات استفهام حول ما إذا كانت هزيمته مؤشراً على بداية انحدار انتخابي. مع العلم أن دائرة الرشيدية ظلّت سنوات عدة حاضنة انتخابية بامتياز لـ"العدالة والتنمية"، قبل أن تبدل الانتخابات الجزئية ذلك. وفقد الحزب في أربع سنوات فقط أكثر من 17 ألف صوت، بحصوله على 9201 صوت في الانتخابات الأخيرة في مقابل 26252 صوتاً خلال انتخابات 2016.
خسر "العدالة والتنمية" 17 ألف صوت في الرشيدية في 4 سنوات
ويحمل هذا التراجع في دائرة انتخابية يترأس "العدالة والتنمية" مجلس جهتها ومجلسها الإقليمي ويتوفر على أكبر تجمّع برلماني فيها، قلقاً جدياً واستياءً ملحوظاً، انعكس في تدوينات أعضائه في شبكات التواصل الاجتماعي. في السياق، رأى البعض، أن الهزيمة هي نتيجة "تأثير الخطاب الذي تبناه الحزب خلال هذه الفترة والخالي من المضمون السياسي، وتأثير الأحداث الكبرى التي تورط فيها من قبيل التمهيد لفرنسة التعليم (تدريس المواد العلمية في المدارس باللغة الفرنسية)، والارتباك في تدبير الموقف من استئناف العلاقات مع إسرائيل. كما انتقد هؤلاء "الخطاب الذي تبناه الحزب جهوياً ومحلياً، في الترافع على قضايا السكان من موقع رئاسة الجهة ورئاسة جماعة الرشيدية وجماعات أخرى بالإقليم".
وبحسب هذه الأصوات، فإن "هذا التأثير لا يشمل عموم المواطنين فحسب، بل يبدو أنه شمل أعضاء الحزب والمتعاطفين معه، وكتلته الناخبة القريبة". في المقابل، تعتبر أصوات أخرى أن "العدالة والتنمية" بالرشيدية لم يخسر، وإنما دفع ضريبة سياسة المركز وقراراته، وأن هذا الوضع يجعل الحزب مطالباً بعقد مؤتمره الاستثنائي.
وتأتي خسارة حزب رئيس الحكومة سعد الدين العثماني في مرحلة عسيرة لم يمر بها طيلة تاريخه السياسي، جراء الغضب الداخلي الذي تجسد في توترات غير مسبوقة ومواقف غاضبة من قيادات داخل الحزب، بدءاً بإعفاء الأمين العام السابق عبد الإله بنكيران في 17 مارس/آذار 2017 من تشكيل الحكومة، وانتهاء بتوقيع الأمين العام الحالي اتفاق التطبيع مع إسرائيل.
واجتمعت على "العدالة والتنمية" ما يسميها البعض عوامل استهداف خارجية، تكمن في حملة سياسية وإعلامية منظمة تشنها نخب تنتقد هيمنته على المشهد السياسي ورفضه الانفتاح وتغليبه مصلحة الحزب على مصلحة الوطن، وذلك في مسعى لإفشال مسيرة حزب احتل المرتبة الأولى مرتين متتاليتين في الانتخابات التشريعية لعامي 2011 و2016. كما اجتمعت عوامل تنظيمية وسياسية داخلية، ساهمت في بلوغ الحزب مرحلة من "الشك السياسي"، خصوصاً أنه سيكون أمام جبهات كثيرة ومعقّدة في طريقه إلى تشريعيات 2021.
وبعد نتيجة الرشيدية حرصت إدارة الحملة الانتخابية الجزئية لحزب "العدالة والتنمية" في الجهة، على توجيه رسائل إلى من يهمه الأمر داخل الحزب وخارجه، بتأكيدها أن "الانتخابات جولة انتهت، وأن مشروع الفكرة (أي مشروع الحزب) التي نجتمع حولها لم ينته"، وأنها "ستحاول ترتيب الأوراق واستخلاص الدروس والوقوف على مكامن الخلل، من أجل الاستمرار في طريق الإصلاح والصلاح والفلاح".
في المقابل، يرى عضو الأمانة العامة في الحزب، عبد العزيز أفتاتي، في حديث لـ"العربي الجديد "، أن الإخفاق الانتخابي ليس مؤشراً على تراجع الحزب شعبياً. ويلفت إلى أن "هناك أوضاعاً أثرت على النتائج، ومنها ما هو ذاتي لا يمكن التنصل منه، ويتعلق بحجم التعبئة والانخراط فيها والمشاركة في الانتخابات كما كان في السابق للمناضلين والمناضلات". ويبدي اعتقاده بأن "على الإخوان في الإقليم القيام بتقييم جريء، لحصر ما هو ذاتي وما هو موضوعي"، في نتيجة الرشيدية.
وبحسب القيادي في الحزب، فإن ربط الهزيمة الانتخابية بالأزمة التي يعرفها الحزب، منذ إعفاء بنكيران من تشكيل الحكومة، أو توقيع العثماني على اتفاق استئناف العلاقات بين المغرب وإسرائيل، هو "مجرد أسطوانة مشروخة يرددها البعض". ويشير إلى أن "الحزب كان في انتخابات بالرشيدية في مواجهة أوركسترا سلطوية، يقودها نافذ ترابي (مسؤول في السلطة) استخدمت منطق القبيلة بشكل فج".
لكن الباحث في العلوم السياسية، حفيظ الزهري، يعتبر أن فوز أحد شباب المنطقة بالانتخابات على حساب مرشح "العدالة والتنمية"، الذي يشغل في نفس الوقت نائباً لرئيس الجهة، بمثابة إنذار واضح لـ"إخوان" العثماني بالجهة. ويرى في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "الانتخابات المقبلة لن تكون سهلة على المستوى الميداني، بحكم تنامي القاعدة الجماهيرية المعارضة للحزب، والذي ربما قد يصبح غريباً عن المنطقة".
ويؤكد أن الانتخابات الجزئية في الرشيدية لم تكن عادية، لأنها جرت في ظل وضع سياسي محتقن، أدى إلى تبادل الاتهامات بين السياسيين حول من يتحمل مسؤولية الوضع المزري لجهة درعة تافيلالت. ويشدّد الزهري على أن الانتخابات كشفت عن بروز جبهة شبابية تسعى للتغيير، ليس فقط على مستوى الرشيدية بل كامل تراب الجهة، وأن التغيير المرجو هو إبعاد حزب "العدالة والتنمية" خلال الانتخابات المقبلة. ويرى أن "العدالة والتنمية" سيفقد الكثير من الأصوات في الانتخابات المقبلة على المستوى الوطني، لكن ذلك لا يعني أنه لن يكون رقماً مهماً في المعادلة السياسية لما بعد 2021، ومرد ذلك "ليس لأنه حزب قوي بل لأن منافسيه ضعفاء، فضلاً عن تفضيل قاعدة جماهيرية مهمة العزوف عن التصويت عوضاً عن المشاركة في الاختيار. وهو ما يسمح للحزب بالحفاظ على مكانته بحكم وجود كتلة جماهيرية ثابتة مؤيدة له، في حين أن قواعد باقي الأحزاب متحركة وغير مستقرة".
من جهته، يرى أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية في جامعة ابن طفيل بالقنيطرة، رشيد لزرق، أن انتخابات الرشيدية ليست معياراً للجزم بفقدان "العدالة والتنمية" كتلته الانتخابية. ويضيف في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أنه على الرغم مما يثيره تدبير الحزب في شخص الوزير السابق الحبيب الشوباني لمجلس الجهة من تساؤلات وانتقادات، غير أن طبيعة الآلة الانتخابية للحزب لا تزال قوية، نظراً للنتائج المتقاربة للمرشحين الثلاثة (حصل مرشح الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حميد نوغو على 10756 صوتاً، ومرشح التجمع الوطني للأحرار عمر أوجيل على 10729 صوتاً، ومرشح العدالة والتنمية عبدالله صغيري على 9201 صوت)، ولكون كتلته الانتخابية تقترع من منطلق ديني.
يعتبر محللون أن خسارة الرشيدية ليست مؤشراً للتشريعيات المقبلة
وبرأي لزرق، فإن إخفاق "العدالة والتنمية" في الانتخابات الجزئية مرده بالأساس إلى طريقة تعامل رئيس الجهة، والطبيعة الخاصة للمنطقة التي مكنت من فوز مرشح "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" ليس على أساس سياسي، وإنما من خلال ما يمكن تسميته بـ"تصويت القرب" (أي تصويت مقابل تقديم خدمات). ويشدّد على أن الانتخابات الجزئية ليست مقياساً لبناء خلاصات سياسية، تؤشر بنهاية تصدر "العدالة والتنمية" للمشهد الحزبي العام في المغرب.
في المقابل، يرى الأكاديمي محمد بودن، أنه على الرغم من أن النتائج المحققة في الانتخابات الجزئية ليست مؤشراً حاسماً ولا يمكن الجزم بجعلها انعكاسا للمزاج العام، لكنها تساعد في اهتزاز بعض الأفكار التي ظلت ثابتة منذ عام 2011، ومن بينها معطى القاعدة الانتخابية الثابتة لحزب "العدالة والتنمية" في كل الظروف، رغم أن هذا المعطى لا يمكن استبعاده تماماً. ويضيف في حديث لـ"العربي الجديد"، أن حزب "العدالة والتنمية" يفتقد لأوراق عدة كانت ترجح كفته في السجالات والنقاشات الانتخابية والسياسية، معتبراً أن "النتيجة المسجلة في الانتخابات الجزئية، ستزيد من الترقب بشأن مستقبل الحزب، الذي تعود على الريادة والصدارة منذ عشر سنوات". وبحسب بودن، ثمة أربع فرضيات يمكن وضعها في هذه الحالة ويمكن التأكد منها في الطريق نحو الاستحقاقات القادمة، تتمثل أولاها في تراجع حزب "العدالة والتنمية" وتآكل قاعدته الانتخابية فضلاً عن مغادرة بعض أعضاء الحزب للتنظيم، وثانيتها عدم استفادته من ضعف المشاركة في العملية الانتخابية، الذي بات معطى يميز الانتخابات المغربية منذ محطة 2007. فيما ترتبط الفرضية الثالثة بالتكتيك الانتخابي للحزب، والفرضية الرابعة بعوامل أخرى من بينها تكتل بعض الأحزاب ضده. ويبدي اعتقاده بأن "نتيجة الفرضيات الأربع، فضلاً عن الأوضاع الداخلية، ستضع تحديات أمام حزب العدالة والتنمية، الذي أصبح في حيرة من أمره وهو يبحث عن أوراق جديدة للبقاء".