العدالة لفلسطين كتحرر من ثنائيّة الوطني والنسويّ

26 ديسمبر 2021
لا تنحصر مقاومة النساء بمقاومة العنيف بل بمقاومة العنف كمبنى كامل (علي جاد الله/الأناضول)
+ الخط -

لن يكون من الصعب علينا فهم التصعيد في حالات العنف الممارس ضد النساء في السنتين الأخيرتين في المناطق المختلفة من فلسطين التاريخية، إذ تدرك الناشطات في الحقل والباحثات فيه، أنه إلى جانب البعد القمعي والعنيف لإسرائيل، وتفاعله مع القمع الذكوري فإن تصاعد مظاهر العنف المجتمعي والجريمة يلقيان بظلالهما على العنف الجندري بشكل خاص، مما يعني أن المشكلة تتخطىّ العداء الإسرائيلي لوجودنا لتنتقل صورة العدو إلى الصفوف الداخلية لمجتمعنا، وفي اللحظة التي يتحول فيها المجتمع إلى عدو نفسه، ويفقد فيها الفرد أمانه الذاتي وكينونته الجمعية، لا المعبر عنها في سيادة وطنية فقط، بل والمعبر عنها في مشروع وطني جامع وواضح، يصبح العنف هو أحد التعبيرات الأقوى عن ضائقة هذا المجتمع وفقدانه للأمل.

في اللحظة التي يتحول فيها المجتمع إلى عدو نفسه، ويفقد فيها الفرد أمانه الذاتي وكينونته الجمعية، لا المعبر عنها في سيادة وطنية فقط، بل والمعبر عنها أيضا في مشروع وطني جامع وواضح، يصبح العنف هو أحد التعبيرات الأقوى عن ضائقة هذا المجتمع وفقدانه للأمل

من مواجهة العنيف إلى مواجهة العنف

ولا ننسى في هذا السياق إسقاطات وباء كورونا التي تكشف عن جميع مواقع الهشاشة الاقتصادية لمجتمعنا، والأهم عن انعدام آليات التنظيم والسيادة الداخلية فيه. في ظل حالات الضعف وحتى الضياع المجتمعي هذه تكون الحلقة الأضعف فيه هي المعبر الأشد وضوحا عنها. ليس صدفة إذا أن تعاني الشرائح الأكثر هشاشة من تشابك مباني القهر، حيث لا تنحصر مقاومة النساء بمقاومة العنيف، بل بمقاومة العنف كمبنى كامل ومتين، ومحصن بالعادات والمنظومات التاريخية الثقافية منها والدينية. مواجهة الزوج أو الأب أو القريب الذي يدّعي الوصاية، وحدها لا تكفي، ما هو مطلوب هو مواجهة ما يمثله هذا القريب من سلطة مجتمعية يستقوي بها وتحميه، بل تحول عنفه إلى قيمة مجتمعية وإلى ما تبقى من سلطة المجتمع على ذاته، فتخرج القضية من قضية عنف فرد ضد فرد لتتحول إلى عنف المرأة نفسها ضد المجتمع وأسسه الرمزية؛ "تفكك العائلة" أو " تتخلى عن أبنائها" أو "تستهتر بالتقاليد والثقافة"، أو "تخرج عن الطاعة". تسحق تلك المنظومات المجتمعية الكيانية الفردية للمرأة، فهي ليست كيانا له هويات ومكانات وأدوار مختلفة تختارها المرأة بحرية جزءً من ممارسة كينونتها، مثل الزواج أو الأمومة أو حتى العزوبية أو الطلاق، بل هي تختزَل في زوجة أو أم ولا تُرى إلا من خلالهما. وكل خروج عن هذا الشكل الاجتماعي المحكَم، كأن تختار أو حتى تضطر للطلاق أو العزوبية، هو بداية لتفعيل منظومة مجتمعية عقابية كاملة عليها. هن لسن فرداوات داخل مجتمعهن، وهن لسن "مواطنات" أمام النظام الاستعماري الذي يحكمهن، وهنا يبرز التواطؤ بين أدوات هذا النظام وبين آليات أدوات الوصاية الاجتماعية، فالشرطة التي تتعاون مع عصابات الجريمة وتزودها بغطاء كامل من حرية العمل والإفلات من العقاب، هي نفسها الشرطة التي تتعاون مع عائلات الضحايا النساء وتمنح قاتليهن حرية العمل ومن ثم الإفلات من العقاب.

مُحركات المواجهة

وكناشطة نسوية وسياسية أعتقد أن الفاعليّة الذاتية للمرأة، وللمقموع بشكل عام، أهم جوانب النضال وأهم محركات المواجهة، فسؤال الظلم والغبن والمحو والسيطرة هو أولاً: سؤال مواجهة كل ذلك. لا نقلل من أهمية تحليل أدوات القمع ومباني القوة، لكن الحياة في النهاية هي ممارستها أكثر بكثير مما هي موقف فكري. فماذا تقول المرأة في الموضوع؟

تعي الناشطات النسويات العروة الوثقى بين انعدام الأمل السياسي وبين سيكولوجية القهر والعنف الداخلي في المجتمع، والتي تُمارَس أكثر ما تُمارَس على المجموعات المستضعَفة، الرجال على النساء والأبناء. تعزز حالة الضياع والضعف السياسي العنف الداخلي في المجتمع، والعكس صحيح أيضا، إذ يعزز العمل النضالي والثوري المقاوِم التضامن المجتمعي ويرفَع قيم العدالة والمساواة بشكل عام. وقد تكون الأيام الثمانية عشر التي شهدتها مصر في ثورة 25 يناير 2011 لغاية سقوط حسني مبارك من الأمثلة الصارخة على ذلك. حملت تلك اللحظة في مصر تطلعا لنظام سياسي جديد، ولمجتمع مصري، وعربي متجددَين، ومشرقَين.  مشهد سيطر به ملايين من النساء والرجال على الحيز العام مطالبين بدولة لكل مواطنيها وبمجتمع لجميع أبنائه وبناته. ثمانية عشر يوما من المواجهة السياسية والتضامن والتكافل والإبداع الفني والثقافي لم يشهد اعتداءً جنسيًا واحدًا. وقد فسح لنا أيار الأخير المجال لنعيش حالة شبيهة ليس في حجمها وقوتها ولكن ربما في معناها وأفقها. فقد جاءت هبة الكرامة والأمل لتثبت أولاً لبعضنا ما كان معروفا للكثير منا، بأن المؤسسة الاستعمارية الاستيطانية هي واحدة على كل فلسطين وإن اختلفت استراتيجياتها أو تعددت آلاتها في البطش، ولتؤكد ثانيا أن اكتشاف القوة الذاتية للمجتمع وتنظيمه الجماعي نحو أفق معين هما من أهم أدوات تعزيز التضامن المجتمعي، وشعور الكينونة الجمعية التي يجمعها هم مشترك ومصير مشترك. الشعور الفردي والجمعي في مثل هذه الحالات يعيد العنف الداخلي الجندري والعام لمكانته الصحيحة من حيث هو آلية تدمير ذاتي وليس تعبيرا ذاتيا، آلية ضعف وليس آلية قوة أو استقواء لا حاجة له.
أهمية هذه اللحظة التاريخية بأنها تحمل الأمل حتى ولو لم تتعداه وتخطو بخطىً ثابتة أو تؤسس بثبات لمرحلة سياسية جديدة من الصراع، وهي تحمل الأمل أولاً أمام العدو، ومن ثم في ما يتعلق بالخيارات الذاتية للمجتمع في ما يتعلق بقيم العدالة الداخلية وترتيب العلاقات بين أفراده.

لقد رفعت هبة أيار من الروح المعنوية فلسطينيا، وعكست شعورا بوحدة فلسطين التاريخية نضاليا، وأكدت على أن القضية الفلسطينية ما زالت لعدالتها تحظى بدعم دوليّ كبير وعصرنت خطابا وطنيا مناهضا للاستعمار، حمله بعض السياسيين والمثقفين والسياسيين ورأيناه خلال الهبة ينعكس بشكل عفوي وطبيعي في سلوك قطاعات وفئات من الناس في تلك الأيام.
تحمل استمرارية هذه الأجواء إمكانية لاحتواء الخطاب تجاه المرأة وتجاه حقوق الأفراد بشكل عام ضمن بعدها النضالي التحرري، وفي نفس الوقت، يحمل الانكفاء عنها انكفاء تجاه حريات المرأة، وقد يبقي العمل النسوي وحيدا ومعزولاً.

ما فائدة وجود قانون يحمي المرأة في بيتها طالما لا نناضل من أجل قوانين تمنع هدم البيوت، والانحياز للوطني دون النسوي يفرغ منجزاتنا الوطنية من قيمتها الممارسة، فماذا ينفعنا أن نفرض على الدولة إقامة مؤسسات ثقافية طالما لا نستطيع عرض أعمال فنية “جريئة" فيها.

وكما تتشرب علاقة المجتمع بالمرأة بأجواء التحرر العامة، كذلك كان العمل النسوي الفلسطيني في السنتين الأخيرتين فاعلا في مقاومة حالات الانكفاء الاجتماعي والسياسيّ، وفي تعدّي الجغرافيات السياسيّة الفلسطينيّة، وفي القيام بمبادرات تصب في قلب مناهضة الاستعمار، حيث يعمل العديد من الحِراكات، ولاسيّما التي تناهض العنف بشكل قاطع لفلسطين واحدة، وبشكل لا يفهم ولا يناضل من أجل الهم النسوي دون الوعي والالتزام للهم الوطني ولفهم اسقاطات أحدهما على الآخر. ففي السنتين الأخيرتين نشطت حركة "طالعات في كل فلسطين" وفي أوساط النساء الفلسطينيات المقيمات خارج فلسطين، داعية لمجتمع عادل وحر وآمن لنسائه وكافة أفراده، ومتبنية شعار "لا وطن حراً دون نساء حرات". ونشطت كذلك مجموعة حلقات استقبال التي بادرت لإقامتها ناشطات نسويات من داخل الخط الأخضر، يقمن بتنظيم زيارات لمختلف المدن والقرى الفلسطينية في الداخل الفلسطيني وفي الضفة الغربية لتعزيز التواصل بينهن. ويقوم ائتلاف "فضا" من أجل مناهضة العنف الجندري، وهو ائتلاف يضم 21 مؤسسة نسوية فلسطينية وينشط في الضفة الغربية وقطاع غزة وداخل الخط الأخضر، بالعمل انطلاقا من قناعاته بأن العنف الذكوري يتشابك مع العنف الاستعماريّ، وبأن الحد من هذا العنف هو مسؤولية المجتمع بأسره.

مقابل المبادرات الواعدة أعلاه، والتي نظمت ضمن نضالاتها نشاطات عديدة لدعم الأسرى والأسيرات  الفلسطينيات، ورفعت معنوياتنا نحن ربما اكثر مما رفعت معنويات الأسيرات. مقابل هذا،  فإن الكثير من النسويات في كافة مناطق فلسطين يلمسن  فقدان العمل والحراك النسوي الذي تشارك به العديد من النسويات الحزبيات في ظل الحاضنة الحزبية، وحتى فقدان أقل مؤشرات الدعم للقيادات النسوية الحزبية أنفسها، وفي تخاذل تلك الأحزاب والفصائل المختلفة عن حمل هذه الأجندة من دعم المساواة الجندريّة أو مناهضة العنف الجندريّ، وحتى من الدفاع عن قياداتها أمام التحريض المجتمعي.

كان العمل النسوي الفلسطيني في السنتين الأخيرتين فاعلا في مقاومة حالات الانكفاء الاجتماعي والسياسيّ وفي تعدّي الجغرافيات السياسيّة الفلسطينيّة وفي القيام بمبادرات تصب في قلب مناهضة الاستعمار

جدل النسوي والوطني

هذه الأحزاب والفصائل ما زالت تميل إلى المساومة في قضايا النساء أو إلى استعمال ذريعة المفاضلة بين الوطنيّ والنسويّ، في نقيض تام لخطاب العدالة والحريات والتحرر الذي يقوده أفراد من الذين آثروا ترك العمل الحزبي المباشر، وبعض الجيل الشاب، الذي يرى أن الأحزاب تراجعت حتى عن خطابها الوطني الذي تفاضل باسمه. فالنساء داخل الأحزاب، وإن طرحن قضاياهن، إلا أنهن افتقدن القوة الكافية للتأثير داخل أحزابهن، ويُفاضلن أحيانا بين النسويّ والحزبيّ لصالح الحزبيّ.

في هذا السياق، أود الإشارة إلى أنه وعلى الرغم من تأكيدنا الدائم على أهمية وجود النساء في مواقع صنع القرار السياسي، إلا أن علينا الحذر من ألا يأتي هذا التمثيل بالقيمة المضافة للقضية النسوية والوطنية معا. فمثلا، كان قرار التجمع الوطني الديمقراطي داخل الخط الأخضر في أحد مؤتمراته تخصيص موقع واحد على الأقل من بين كل ثلاثة مرشحين في القائمة الانتخابية للنساء، هاما بذاته لكونه فرض تمثيلا نسائيّا داخل الحزب، ولكونه فرض تمثيل النساء في باقي الأحزاب العربيّة، ليصبح عدد النساء الفلسطينيات أربعا بعد أن اقتصر على واحدة. فقد حظيت في الدورة الانتخابية السابقة القائمة المشتركة ولأول مرة بخمسة عشر عضوا بينهم، ولأول مرة في تاريخ التمثيل السياسي للحركات الوطنية في الداخل، أربع نساء. كان هذا مصدرا للفخر في بداية الأمر، ولكن مع الأسف كانت تلك الفترة التي شملت هذا التمثيل المهيب، المرة الأولى التي توصي بها الأحزاب السياسية العربية أو الفاعلة في المجتمع العربي على جنرال حرب يحمل سياسة اليمين على أكمل صورتها لرئاسة حكومة إسرائيل. وقد شاركت النساء الأربع بالتصويت كما الرجال دون إحضار أي صوت نسوي مختلف. وانعكس الأمر كذلك في تصويت ثلاثة منهن ضد قانون جاء ليحمي حقوق المثليين. وفي هذه الحالة لم تقم النساء بمساومة الوطني بالنسوي أو العكس، وإنما تنازلن عن كليهما. وفي الدورة الحالية للبرلمان الإسرائيلي هنالك ثلاث نساء عربيات داخل حكومة بينت اليمينيّة الاستيطانيّة، إحداهن ممثلة عن حركة صنِّفت حتى ما قبل دخولها للحكومة الاسرائيليّة حركةً إسلاميّةً تنتمي للتيار الوطنيّ.

إن الانحياز للنسوي على حساب الوطني يحوّل النسوية الى حالة كاريكاتورية عبثية، فما فائدة وجود قانون يحمي المرأة في بيتها طالما لا نناضل من أجل قوانين تمنع هدم البيوت، كما أن الانحياز للوطني دون النسوي يفرغ منجزاتنا الوطنية من قيمتها الممارسة، فماذا ينفعنا أن نفرض على الدولة إقامة مؤسسات ثقافية طالما لا نستطيع عرض أعمال فنية “جريئة" فيها.
وفي النهاية أقول ربما قد اجتزنا مرحلة مطالبة الخطاب السياسي التقليدي بحمل الأجندة النسوية، وقد لا يكفي للتحرر أن تقوم الحركات النسوية بحمل كليهما. ما يكفي، وما نحن بحاجة إليه، هو ذاك الخطاب الذي يتصاعد في السنوات القليلة الأخيرة، ذاك الخطاب التحرري المتجدد الذي يرشَح من قبل أوساط سياسية وفكرية وشبابية راديكالية والذي يجمع بين حرية الشعوب وتحرر أفرادها. هو ليس خطابا يجمع الوطني بالنسوي فحسب، بل هو الخطاب الذي يشكل بديلا سياسيا شاملا ينازع السقوط الحالي ما بين منصور عباس وأيمن عودة، في ظل غياب تام لدور التجمع، كما يحارب الخيار السياسي القاتل ما بين "فتح" و"حماس". وهو خطاب المرحلة الجديدة الذي يحمي المنجزات الوطنية المحاصرة اليوم، والذي يحمل المستقبل الذي لا يستطيع أحد أن يحاصر إمكانياته المتخيلّة.

المساهمون