منذ سيطرة حركة طالبان على الحكم في أفغانستان في أغسطس/آب 2021، توترت علاقتها بالعديد من الدول التي كانت تملك علاقات جيدة معها، مثل باكستان وروسيا، غير أن الحركة نجحت في الحفاظ على تواصل مع الصين، تطور إلى تعاون اقتصادي يتوسع بشكل كبير.
وتجمع مصالح سياسية واقتصادية متبادلة الطرفين، فالصين تحاول عبر بسط نفوذها في أفغانستان استغلال فرصة الانسحاب الأميركي لفرض وجودها كلاعب حاسم في المنطقة.
كما تسعى لحماية أراضيها من أي هجمات قد تقوم بها "حركة تركستان الشرقية" المشكّلة من مسلحين إيغور، ساعين للانفصال عن الصين، ويتواجد جزء منهم في أفغانستان. بالإضافة إلى ذلك، يساهم توسع التعاون الاقتصادي بين الطرفين في خدمة مصالحهما المشتركة، لا سيما مع سعي "طالبان" للخروج من الأزمة المعيشية التي تمر بها البلاد، في ظل عدم الاعتراف الدولي بها.
محادثات متواصلة بين الصين و"طالبان"
وأبقت الصين، التي تمتلك حدوداً مع أفغانستان تمتد على 76 كيلومتراً، في وسطها ممر واخان المهم والمنسي، على سفارتها مفتوحة في كابول بعد سقوطها بيد "طالبان"، في حين أن معظم الدول الغربية أغلقت سفاراتها في أفغانستان. كما أن السفير الصيني لدى كابول وانغ يو على اتصال دائم مع قيادة "طالبان"، وهو يجري محادثات معها حول ملفات مختلفة، يعلن عنها الطرفان بين الفينة والأخرى.
كما أن السفارة تشرف على المساعدات الإنسانية التي تقدّمها الصين إلى أفغانستان، وظهر ذلك خصوصاً عقب الزلزال الذي ضرب مناطق في الجنوب الأفغاني في يوليو/تموز الماضي، والفيضانات التي اجتاحت مناطق مختلفة من أفغانستان في أغسطس/آب الماضي.
أبقت الصين على سفارتها مفتوحة في كابول بعد سقوطها بيد "طالبان"
يضاف إلى ذلك النشاط الدبلوماسي المكثف بعد وصول "طالبان" إلى سدة الحكم. وكان وزير الخارجية الصيني السابق وانغ يي قد زار كابول على نحو مفاجئ في نهاية مارس/آذار من العام الماضي، وتباحث مع قيادة "طالبان" حول العديد من الملفات، بهدف تطوير العلاقات وبحث مخاوف بكين حول وجود المسلحين الإيغور في أفغانستان.
في المقابل، أكدت "طالبان" مراراً أنها تسعى لتوطيد علاقاتها مع الصين في كل المجالات، خصوصاً الاقتصادية والتجارية، وأنها قادرة على توفير الأمن والحماية اللازمة لكل المشاريع الأجنبية، لا سيما الصينية منها، كما أنها لن تسمح لأي جهة بزعزعة أمن واستقرار الصين.
وفي الخامس من الشهر الحالي، وقّعت "طالبان" اتفاقية مع شركة صينية لاستخراج النفط من حوض أمو داريا في شمال البلاد. والاتفاقية تهدف إلى توفير نحو 3 آلاف فرصة عمل للأفغان، ورفع قدرات استخراج النفط من منجم قشقري من 200 طن (1.4 ألف برميل) إلى 1000 طن وأكثر (7.1 آلاف برميل).
وفي مراسم توقيع الاتفاقية، قال السفير الصيني في كابول وانغ يو، إن عقد نفط أمو داريا مشروع مهم بين الصين وأفغانستان، وبلاده تهتم بالمشاريع في أفغانستان. فيما قال نائب رئيس الوزراء الأفغاني الملا برادر إن شركة صينية أخرى (لم يذكر اسمها) لم تستمر في استخراج الخام بعد سقوط الحكومة السابقة، لذلك تم إبرام الصفقة مع الشركة الجديدة، مطالباً الشركة بالاستمرار في العملية وفقاً للمعايير الدولية. كما زار الملا برادر شمال البلاد الأسبوع الماضي واجتمع مع حكّام تلك الولايات وطلب منهم اتخاذ إجراءات صارمة من أجل توفير الحماية للمشاريع الاقتصادية.
وبالإضافة إلى المصالح التجارية والاقتصادية، تحاول بكين الحفاظ على حضور استراتيجي في المنطقة، وتحديداً في أفغانستان، لكن لديها مطالب كررها المسؤولون الصينيون أكثر من مرة، منها القضاء على "حركة تركستان الشرقية". هذا المطلب كرره وزير الخارجية الصيني السابق وانغ يي عند زيارته كابول في مارس/آذار الماضي، وتلقّى تطمينات من "طالبان" بأنها لن تسمح لأحد بالقيام بأي عمل ضد الصين ومصالحها في المنطقة.
تعرّضت المصالح الصينية في أفغانستان لأكثر من استهداف في الفترة الأخيرة
على الرغم من ذلك، كان لافتاً في الآونة الأخيرة تعرّض المصالح الصينية في أفغانستان لأكثر من استهداف. ففي 12 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلنت وزارة الخارجية الصينية إصابة 5 من مواطنيها جراء هجوم استهدف فندقاً في كابول، وتبنّاه تنظيم "داعش". وفي 11 يناير/كانون الثاني الحالي، فجّر انتحاري من "داعش" حزامه الناسف قرب وزارة الخارجية الأفغانية في كابول، حيث كان مقرراً عقد اجتماع لوفد صيني.
أهداف الصين في أفغانستان
وعن تطور العلاقة بين "طالبان" وبكين، رأى رئيس نقابة اتحادية ذوب الحديد في أفغانستان، نصير أحمد ريشتيا، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الصينيين يدركون أن إحلال الأمن على يد "طالبان" فرصة جيدة لتنفيذ المشاريع التجارية والاقتصادية في أفغانستان، ومن خلال تلك المشاريع قد تصل بكين إلى مصالحها الاستراتيجية.
وأضاف أن بكين تدرك ذلك جيداً، وهي ماضية في الاستثمار في أفغانستان، وهناك توافقات على استخراج النحاس والنفط، ومشاريع أخرى متوقعة في الفترة المقبلة، لا سيما في مجال استخراج الفحم وتوليد الكهرباء وغيرها، علاوة على تعزيز التجارة والصناعة.
وحول الهجمات الأخيرة التي استهدفت الصينيين في كابول، قال ريشتيا إن تلك الهجمات تشير إلى أن هناك لوبياً قوياً آخر معارض للمصالح الصينية في أفغانستان. لكنه رأى أن بكين لن تتراجع عن سياساتها حيال أفغانستان، كما أن "طالبان" لديها قدرة كافية لحماية مشاريع الصين، والأخيرة كانت تنتظر تلك الفرصة منذ السابق، ولكن لم تكن تستطيع أن تفعل ذلك في ظل الوجود الأميركي، متوقعاً ألا تترك الصين هذه الفرصة تفوت.
وعن حاجة أفغانستان إلى الصين في الوقت الراهن، قال رئيس غرفة المعادن الأفغانية عبد الجبار صافي، لـ"العربي الجديد"، إن المشاريع الصينية مهمة للغاية لأفغانستان، سواء كان في مجال استخراج النفط والنحاس، أو في مجالات أخرى، موضحاً أنه في ظل وجود أجواء من عدم الأمان لا يمكن تنفيذ تلك المشاريع.
ولا يرى أي ازدواجية في تعامل "طالبان"، موضحاً أن الفرصة القائمة لن تتكرر، لا لبكين ولا لـ"طالبان"، مضيفاً أنه من هذا المنطلق تقدّم الحركة بعض التنازلات من خلال منح المشاريع للشركات الصينية. لكنه تساءل عن إمكانية قيام الشركات الصينية بتنفيذ تلك المشاريع، لأن كل ما حصل حتى الآن يبقى على الورق.
"طالبان" تعتبر المشاريع الصينية فرصة جيدة للخروج من الأزمة الاقتصادية والمعيشية
أما عن الهجمات على الصينيين، فقال صافي إن الصين تدرك جيداً أن هناك معارضين لها في المنطقة، وتلك الدول المعارضة لديها نفوذ في أفغانستان، بالتالي فإن بكين مستعدة لمواجهة كل تلك التهديدات. ولفت إلى أن "طالبان تولي اهتماماً كبيراً بالمشاريع الصينية، وتعتبرها فرصة جيدة للخروج من الأزمة الاقتصادية والمعيشية، بالتالي فإن الهجمات الأخيرة ليست تهديداً حقيقياً، والصين عندما قررت القيام بتلك المشاريع كانت مستعدة لتقبّل المخاطر".
وتحدث صافي عن أبرز المشاريع الصينية في أفغانستان، مشيراً إلى مشروع استخراج النحاس من أكبر منجم في أفغانستان والواقع في ولاية لوغر على بعد ساعتين من كابول وهو منجم "ميس عينك". وكانت الصين قد بدأت بهذا المشروع في عهد الحكومة الأفغانية السابقة، لكن الخلافات معها بالإضافة إلى الوضع الأمني المتوتر حالا دون إكماله، فيما تعمل الصين من جديد لإحياء الملف مع "طالبان".
وأوضح صافي أن الحكومة الأفغانية قررت منح 600 فدان من الأرض للشركات الصينية من أجل تطوير العمل الصناعي. وتواصلت "العربي الجديد" مع أكثر من مسؤول في الحركة لمعرفة تفاصيل إضافية، لكنهم رفضوا التعليق على هذه القضية.
مخاطر قائمة على المصالح الصينية
في المقابل، رأى المحلل الأمني الأفغاني فهيم كوهدامني، في حديث مع "العربي الجديد" أن الصين ترتكب خطأ كبيراً إذا اعتمدت على "طالبان" غير المعترف بها دولياً، لأن حكومة "طالبان" لن تبقى في الحكم إلى الأبد، متسائلاً: "ماذا سيكون مستقبل تلك التوافقات التي أبرمت بين الصين وأفغانستان"؟ وأضاف أن لا مستقبل لهذه الاتفاقات، معتبراً أن على الصين التريث للتأكد من مستقبل التوافقات.
ولفت إلى أن المسلحين الإيغور لا يزالون موجودين في أفغانستان، ويتحركون تحت مظلة "طالبان"، كما أن لهم علاقات قوية مع تنظيم القاعدة، معتبراً أن خطر هؤلاء كبير على المشاريع الصينية في أفغانستان. كما أرى أن هناك ازدواجية في تعامل الحركة مع الصين، فهي تأوي المسلحين الإيغور من جهة، ومن جهة أخرى هي تسعى لتوطيد علاقاتها مع بكين.
وتوقع كوهدامني أن يكون المسلحون الإيغور وراء الهجمات الأخيرة التي تعرّض لها الصينيون في أفغانستان، لأن نفوذ بكين في البلاد خطر كبير عليهم، بالتالي هم لا يألون جهداً للتصدي للمشاريع الصينية، وفق قوله.
لكن على الرغم من التطورات بين الصين و"طالبان"، لم تقطع بكين علاقاتها مع جهات أفغانية أخرى، كما حافظت على مطلب تشكيل حكومة شاملة، ومنح النساء حقوقهن، والالتزام بالقوانين الدولية، وهي مطالب رفعتها في كل اجتماعات دول جوار أفغانستان التي عقدت بعد سيطرة "طالبان" على كابول، أكان في اجتماع دول الجوار في إيران في أكتوبر/تشرين الأول 2021، أو في باكستان في ديسمبر/كانون الأول 2021، وفي الصين في 30 مارس الماضي.