تحظى الحركة والدولة الصهيونية بدعم أميركي وأوروبي منقطع النظير، لا يمكن الخلاف حوله، في حين نشهد خلافا متجددا حول طبيعة الحركة والدولة الصهيونية، خصوصا فيما يتعلق بالجانب الذي يعنينا في سياق مشروعنا التحرري، بمعنى هل هي حركة دينية تستهدف مقابلها الديني؟ أم هي حركة استعمارية كولونيالية في سياق مشروع الهيمنة الإمبريالية والأميركية تحديداً. إذ قد يحدد ذلك مجمل نقاط التناقض الرئيسية معها، بما يضمن حتما التناقض معها كحركة ودولة تحتل الحيز الجغرافي والسياسي الوطني الفلسطيني. كما قد يحدد ذلك أيضا طبيعة العلاقة التي تحكم الصهيونية مع المجتمع الدولي ولاسيما الإمبريالية الأميركية المهيمنة أو شبه المهيمنة حتى اللحظة، وبالتالي يوضح حجم تناقضنا معهم أيضاً.
في الحقيقة يصعب فصل كلا البعدين عن بعضهما البعض، لاسيما بما يخص الممارسات اليومية، حيث تنطلق الصهيونية من اعتبارات دينية بحتة في فرض علاقاتها مع محيطها الفلسطيني غالبا ومع محيطها العربي أحياناً، وذلك نتيجة عوامل متعددة، قد لا تعني بالضرورة أنها ذات طبيعة مركزية دينية، فالعامل الديني عامل محرك للكتلة الاجتماعية الحاملة للمشروع الصهيوني، وبالتالي لا يمكن الفكاك منه مهما كانت طبيعتها وهدفها الحقيقي. في حين أن الطبيعة الكولونيالية المرتبطة بالإمبريالية العالمية لا تلعب أي دور مؤثر في تماسك الكتلة الاجتماعية اليهودية حول الصهيونية، بل على العكس أحيانا تلعب دورا عكسيا في ذلك، نتيجة عوامل مختلفة، منها الدمقرطة والعلمنة والفوارق الطبقية الصارخة والتحالفات غير المتوافقة مع الأيديولوجية الدينية.
لكن ورغم وجود تناقضات صارخة بين المشروع الديني والمشروع الكولونيالي وارتباطه بالأهداف الإمبريالية لاسيما في حسابات أصحاب المنظور والأيديولوجيا الدينية، إلا أن العلاقة مع دول العالم الرأسمالية علاقة متينة ومتشابكة يصعب الفكاك منها، إن لم نقل يستحيل الفكاك منها، بل لم تسع أو حتى تفكر الصهيونية بالفكاك منها رغم علاقتها الوثيقة مع الاتحاد السوفييتي في سنواته الأولى. فمن الجدير بالذكر أن العلاقة مع الاتحاد السوفييتي لم تتحول إلى علاقة تناقض واضحة طول سنوات وجوده، إذ حافظ الاتحاد السوفييتي على إقراره بقرار التقسيم وفرض على حلفائه في المنطقة، دولاً ومنظمات وأحزابا، الاعتراف بقرار التقسيم وبحل الدولتين، وها نحن اليوم نشهد تماهيا روسيا مع السياسات الصهيونية تجاه فلسطين والمنطقة، ومنها على سبيل الذكر لا الحصر الاعتداءات الصهيونية المتكررة على سورية التي تمثل قاعدة روسيا الوحيدة في المنطقة اليوم.
إذًا تعطي الصهيونية أولوية واضحة لمهمتها في سياق المشروع الإمبريالي، حتى لو كان ذلك على حساب المشروع الديني، لأن الهدف الرئيسي من الصهيونية يكمن في حجز تطور المنطقة والحؤول دون وحدتها القومية، فتفكيك المنطقة العربية وإدامة الصراع فيها، يسهل على الإمبريالية استغلال المنطقة والسيطرة عليها بأقل التكاليف الممكنة، والعكس صحيح، سوف يؤدي إنهاء الصراع في المنطقة وتوحيدها بأي شكل من الأشكال؛ ولو اقتصاديا؛ إلى تحرر المنطقة من السيطرة الأوروبية والأميركية، أي من سيطرة القوى الإمبريالية العالمية بما فيها القوى الصاعدة أيضا الصينية والروسية، وهو ما تتحمل الصهيونية مسؤولية منعه بتوافق دولي نادر الحدوث بينهم جميعا أي صينياً وأميركياً وروسياً وأوروبياً.
كما نلحظ أن خطاب الصهيونية الديني يمنحها حصانة شبه مطلقة في الأوساط الشعبية الغربية الأميركية والأوروبية تحديدا، كونه يُمَكّن الصهيونية من استغلال الهولوكوست في مواجهة خصومها المحتملين، وهو ما شهدناه تجاه حركة مقاطعة البضائع الصهيونية الـ BDS مثلا، وفي مواجهة حملات إدانة الجرائم الصهيونية المتصاعدة مؤخرا. وعليه يمنح الخطاب الديني الصهونية نقاط قوة لا يمكن الاستغناء عنها، بما يخص منحها حصانة مطلقة في مواجهة الخطاب النقدي عموما، وبما يخص تماسك كتلتها الاجتماعية الضرورية لتنفيذ أجندتها، في المقابل نلحظ أن الصهيونية تلعب دورا حاسما في تنفيذ المخططات الإمبريالية تجاه المنطقة، أي في إدامة تخلف وتفكك المنطقة حتى بما يخص الدولة المتحالفة أو المطبعة أو المتصالحة معها، كما في النموذجين المصري والسوداني، اللذين يعانيان اليوم من أزمة كبرى قد تهدد أمنهما الغذائي والاقتصادي، والحديث هنا عن أزمة سد النهضة تحديداً، والمدعوم صهيونيا كما نعلم.