تدفع الدبلوماسية الجزائرية بخطوات حثيثة إلى إعادة التموقع السياسي والاقتصادي في عمق القارة الأفريقية. فبعد زيارته لكلّ من نيجيريا ودول الساحل، مالي والنيجر وموريتانيا، قام وزير الخارجية الجزائري صبري بوقادوم بجولة أفريقية شملت أربع دول، هي جنوب أفريقيا وأنغولا وكينيا ومملكة لوسوتو، حضرت فيها قضايا التعاون الاقتصادي والتجاري، بعد دخول قرار المنطقة الأفريقية للتجارة الحرّة حيّز التنفيذ. لكن الشقّ السياسي كان أكثر حضوراً خلال تلك الزيارات، خصوصاً ما له علاقة بقضية النزاع في الصحراء، والذي تضعه الجزائر في صلب علاقاتها الأفريقية.
تراهن الجزائر على علاقات مشتركة تجمعها بأبرز دولتين في القارة، نيجيريا وجنوب أفريقيا
وتراهن الجزائر على محور قوي وعلاقات ومواقف مشتركة تجمعها مع أبرز دولتين في القارة، هما نيجيريا التي زارها بوقادوم قبل أسبوعين، وجنوب أفريقيا التي زارها المسؤول الجزائري قبل يومين، حيث حظي بلقاء مطول مع الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا. وأكد رامافوزا "رغبته في العمل مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون على تطوير التعاون الثنائي في أبعاده السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية"، خصوصاً بعد دخول قرار المنطقة الأفريقية الحرّة حيّز العمل، بما سيسمح "بشكل كبير بتسهيل التجارة والاستثمارات بين الدول الأفريقية". كما ناقش بوقادوم مع نظيرته الجنوب أفريقية ناليدي باندور، عدداً من الملفات والقضايا، لا سيما قضية النزاع في الصحراء، بين المغرب وجبهة البوليساريو، ودعم حل سياسي عادل ودائم ومقبول للقضية من الطرفين. وتراهن الجزائر على استمرار دعم جنوب أفريقيا لقضية الصحراء، نظير الدعم التاريخي للجزائر لحركات التحرر ومقاومة التمييز العنصري، وزعيمها نيلسون مانديلا.
وزار وزير الخارجية الجزائري أيضاً أنغولا، حيث التقى الرئيس الأنغولي جواو لورينسو. وترتبط الجزائر بعلاقات تاريخية مع أنغولا، إذ ساعدت في دعم هذا البلد الأفريقي في مقاومة توسع نظام التمييز العنصري ودعم حركة التحرير في أنغولا، وهو معطى تأمل الجزائر في استغلاله لضم هذا البلد إلى محور الحلفاء الأفريقيين. كما شملت جولة بوقادوم كينيا، حيث عقد اجتماعاً مع نظيرته الكينية راشيل أومامو، استعرضا خلاله الوضع في ليبيا ومالي والصحراء. لكن زيارة بوقادوم إلى نيروبي، تأتي على خلفية حصول كينيا على ولاية جديدة كعضو غير دائم في مجلس الأمن بالأمم المتحدة، إذ دعت الجزائر كينيا، بحسب بيان للخارجية الجزائرية، إلى "المرافعة على التطلعات المشروعة للشعوب الأفريقية إلى السلام والاستقرار". ويؤشر هذا إلى سعي الجزائر للاستفادة من موقع كينيا في مجلس الأمن، لإعادة بعث النقاش الأممي حول قضية النزاع في الصحراء، لا سيما مع تغير القيادة الأميركية واعتلاء الرئيس المنتخب جو بايدن سدّة الحكم في واشنطن في 20 يناير/كانون الثاني الحالي.
وإذا كانت زيارات بوقادوم إلى كل من جنوب أفريقيا وكينيا وأنغولا ذات مغزى سياسي واقتصادي، فإن زيارة المسؤول الجزائري إلى مملكة لوسوتو، لا تجد لها أي مبررات اقتصادية وتجارية، ويمكن وضعها في سياق محاولة الجزائر دفع مملكة لوسوتو إلى التراجع عن قرار فتح قنصلية لها في منطقة الداخلة في الصحراء، وهو قرار كانت الجزائر قد عبّرت عن استيائها الرسمي منه.
وينظر الباحث في الشؤون الاستراتيجية عمار سيغة، إلى خريطة التحركات الأخيرة للدبلوماسية الجزائرية، ضمن سياق تاريخي يرتكز أساساً على محاولة الجزائر استثمار دعمها التاريخي للدول الأفريقية وحركات التحرر فيها قبل عقود، ولا سيما خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، لتركيز حضورها وترتيب علاقتها مع العمق الأفريقي، بما يخدم مصالحها ومواقفها في المنطقة، وبما فيها القضية الصحراوية. ويؤكد سيغة، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "التقليد الجزائري للسياسة الخارجية لا يزال يحافظ على البعد الأفريقي كفضاء لتجديد الدبلوماسية الخارجية، لا سيما العلاقات الخاصة والمكانة التي تحظى بها الجزائر لدى العواصم الأفريقية، بخلفيات الدعم المالي الخاص الذي حظيت به العديد من الدول الأفريقية في العقود الماضية". ويضيف الباحث في الشؤون الاستراتيجية أن الجزائر اختارت وقتاً مناسباً للتحرك في أفريقياً "تزامناً مع تجدد واجهة النظام الأميركي ووصول بايدن إلى البيت الأبيض، والذي قد يغير موازين القوى في بعض القضايا الإقليمية، سواء في ليبيا أو قضية الصحراء أو التطورات في مالي"، معتبراً أن الجولة الأفريقية لبوقادوم "لها بعدان، تنسيق التعاون الاقتصادي مع الرغبة الواضحة للجزائر لدخول الأسواق الأفريقية، وتعزيز موقف الجزائر تجاه تطورات المشهد في كامل المنطقة".
اختارت الجزائر وقتاً مناسباً للتحرك في أفريقيا تزامناً مع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض
لكن الباحث في الشؤون الأفريقية مبروك كاهي يذهب إلى أبعد من ذلك، ويضع عودة الجزائر للتحرك في الحقل الأفريقي، ضمن سياقات فرضتها تطورات اقتصادية وسياسية هامة. ويقول كاهي لـ"العربي الجديد"، إن "الجزائر تعيد استغلال خيارات عديدة كانت دائماً متاحة لها لتأخذ مكانها كاملاً ضمن محيطها الاستراتيجي، وهي ترتكز على حليفتها نيجيريا، الدولة الأقوى في غرب القارة، وجنوب أفريقيا الأقوى في إقليمها". ويعرب كاهي عن اعتقاده أن الجزائر "تسعى لإحياء طريق الملح بالتزامن مع طريق الحرير للسيطرة على مفصلي التجارة بين غرب القارة وشمالها وغرب حوض المتوسط، كما تسعى لإعادة بعث عدد من المشاريع الاقتصادية الحيوية، كالطريق العابر للصحراء، الذي ربط صحراء الجزائر بلاغوس في نيجيريا، ومشروع أنبوب الغاز الممتد من غرب أفريقيا في نيجيريا إلى المتوسط، والموقع عام 2002".
وتعطي الخطابات والتوجهات المعلنة من قبل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، منذ استلامه السلطة في ديسمبر/كانون الأول 2019، بالتوجه نحو أفريقيا، وإنشائه لوكالة حكومية للتعاون الدولي، موجهة خصوصاً لتركيز خطط التعاون والتمدد الجزائري في الساحل وأفريقيا، الكثير من المصداقية لمثل هذه التحاليل والقراءات السياسية، وللحراك الدبلوماسي الجزائري في أفريقيا في الفترة الأخيرة. غير أن ذلك لا يلغي وجود مخاوف جدية من أن تكون كل هذه الجهود والتحركات الجزائرية، مجرد رد فعل أملته مواقف وتطورات إقليمية، سواء في علاقة بالنزاع في الصحراء، أو تمدد التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، خصوصاً في ظل معطيات اقتصادية داخلية صعبة بالنسبة للجزائر، ومواجهتها مصاعب مالية بما لا يتيح لها توجيه مخصصات مالية لدعم دول أفريقية كما حدث في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بو تفليقة. وكان الأخير قرّر عام 2012 إلغاء ما مجموعه ربع مليار دولار من ديون الدول الأفريقية، وكذلك ضعف البنى التحتية الأساسية للطرقات الحديثة الموصلة من الجزائر إلى أفريقيا.