لم تكن جرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي، واعتداءات عصابات المستوطنين، وقرارات شرطته بتهجير المواطنين الفلسطينيين من حي الشيخ جراح في القدس، والتضييق على أهل المدينة في باب العامود وغيره، سوى دلائل واضحة وصريحة على الطبيعة العنصرية والعنيفة للكيان الصهيوني، وترجمة مباشرة للمفاهيم العنصرية المتأصلة في عقيدتها الدينية ومفاهيمها القومية، وأساطيرها المؤسسة للحق اليهودي المُدَّعَى في أرض فلسطين التاريخية.
خلال الأيام القليلة الماضية التي سبقت معركة "سيف القدس"، لم تكن المقاومة السلمية وغير المسلحة للمقدسيات والمقدسيين، من سكانها المسلمين والمسيحيين، الذين تداعى معهم سائر أبناء الشعب الفلسطيني لدعمهم ومساندتهم، وتأكيد حقهم وحماية وجودهم، سوى تذكير مشروع بأن المقاومة بكل أشكالها هي السبيل الوحيد للوقوف في وجه العنف الإسرائيلي، وممارسات المستوطنين الهمجية، والتهجير المنظم للمواطنين الفلسطينيين من أرضهم وبيوتهم، وهي – أي المقاومة - تجديد لدماء الرفض الإنساني، عربياً وإسلامياً وعالمياً، لسياسات إسرائيل وممارساتها، كدولة فصل عنصري، ديدنها اضطهاد الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم وطردهم منها.
خاض الفلسطينيون معركة الدفاع عن شرف القدس والمسجد الأقصى، وحققوا فيها أعظم انتصارٍ ضد العدو الصهيوني، إذ أفشلوا مخططاته، وأجبروه على التراجع عن سياساته، كما استطاعت المقاومة الفلسطينية بكل أشكالها من خلال حسن أدائها وقوة فعلها، توحيد الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، حيث شارك في المعركة الفلسطينيون جميعاً بأشكالٍ مختلفة ووسائل متعددة، وكانت المفاجأة المدوية في معركة سيف القدس مشاركة أهلنا في الأرض المحتلة عام 1948، وانخراطهم في عملية المقاومة والنضال المشروع لحماية وجودهم والحفاظ على حقوقهم، والتصدي لسياسات العدو العنصرية ضدهم.
انتصر الفلسطينيون في معركتهم القصيرة ضد العدو الصهيوني، ونجحوا في كي الوعي الإسرائيلي، حيث شعر السبعة ملايين صهيوني، الذين لجأوا إلى الملاجئ والأماكن المحصنة، أن مشروعهم بات في خطر، وأن كيانهم يترنح، وأن جيش بلادهم بات مهزوزاً عاجزاً عن تحقيق النصر، أو ترميم صورته التي شوهتها وعرتها الحروب السابقة. ولعل النتائج المعنوية والنفسية للمعركة أكبر بكثير من نتائجها المادية، سواء على المستوى الفلسطيني الذي أدرك حجم قوته وتأثيرها وفعالية مقاومته، أو على المستوى الشعبي والرسمي الإسرائيلي، الذين شعروا أنهم لم يعودوا الأقوى ولا الأقدر، وأنهم باتوا في خندق الدفاع لا الهجوم، وأن عليهم حماية مشروعهم لا تمكينه.
لم يقصر الفلسطينيون في خوض المعركة، ولم يدخروا جهداً ولم يوفروا سلاحاً، فقد خاضوها بكل جرأةٍ وقوةٍ واقتدار، ولم يبالوا بحجم التضحيات ولا بعظم الخسائر، لإيمانهم بأن حرب التحرير واستعادة الوطن تتطلب تضحيات وتلزمها ضريبة، فقدمها الشعب صابراً محتملاً، ولعله هو الذي حمى المقاومة ودعمها، فلولا صموده وثباته وصبره وتحمله، ما تمكنت المقاومة من الصمود والمواصلة، إذ لم نسمع صوتاً من الشعب الفلسطيني يطالب المقاومة بالتوقف، أو يظهر شكواه وتذمره أو تبرمه من حجم الخسائر التي تعرض لها، الأمر الذي جعل من الجبهة الداخلية الفلسطينية جبهةً موحدةً قويةً متماسكةً، فاقت بكثير الجبهة الداخلية الإسرائيلية الضعيفة المهزوزة.
أدرك نتنياهو المقامر بشعبه والمتطلع إلى البقاء في السلطة بأي ثمن، أنه ارتكب حماقةً كبيرة وخطأ فادحاً، عندما شجع قطاع المستوطنين وغلاة المتدينين الإسرائيليين على اقتحام المسجد الأقصى، والاعتداء على السكان الفلسطينيين في مدينة القدس، وقد استخدم نتنياهو في عدوانه البغيض على سكان القدس واحداً من أقذر الأدوات الإسرائيلية وأشدها عنصرية وإرهاباً، وهو عضو الكنيست إيتمار بن غفير، الذي افتتح مكتباً له في حي الشيخ جراح، بغرض استفزاز الفلسطينيين والاعتداء عليهم، وتهديدهم بالطرد من الحي والاستيلاء على بيوتهم، بحججٍ قانونيةٍ كاذبة وذرائع تاريخية مزورة.
ظن نتنياهو أنه سينجح في مسعاه، وأنه سينفذ ما يتطلع إليه، وسيبقى رئيساً للحكومة الإسرائيلية، ولكنه وقع في شر عمله، وحصد مر ما زرع، فسقطت حكومته، وخرج من مكتب رئاسة الوزراء، وحل مكانه خصومه الأشداء، وبات مركزه في حزب الليكود مهدداً، وفي الوقت نفسه وحد بغبائه الفلسطينيين، وأعاد جمع كلمتهم في الأرض المحتلة، وكشف عن مكنون الشعب الفلسطيني الأصيل، الذي لا ينسى هويته، ولا يفرط في دينه، ولا يتخلى عن مقدساته، ولا يتأخر عن التضحية من أجل أهدافه ومبادئه.
الانتصار الفلسطيني في معركة "سيف القدس" ليس انتصاراً عسكرياً وحسب، وهو ليس انتصاراً نفسياً ومعنوياً فقط، بل هو انتصارٌ سياسيٌ كبير، عرى الكيان الصهيوني وأظهر ضعفه، وفض المؤيدين من حوله، وشكك المناصرين له والداعمين له، كما أنه أعاد القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمامات الدولية، وأعاد لها البريق القديم والبهاء الأول، حتى غدت نصرة فلسطين ومقاومتها شرف، والانتساب إليها عزة وكرامة، ما دفع شعوب أمتنا العربية والإسلامية للخروج إلى الشوارع والميادين العامة، متظاهرين نصرةً لفلسطين، ودعماً لصمود أهلها، وتأكيداً على مشروعية مقاومتنا وحقها في الدفاع عن فلسطين كلها، أرضاً ومقدساتٍ وسكاناً.