من جديد، ينفتح ملف السلاح الفردي في أميركا. صارت سيرته متلازمة مع كل عملية قتل عشوائي، كالمجزرة التي وقعت الاثنين في بلدة بولدر بولاية كولورادو والتي حصدت 10 أبرياء، وكانت قد سبقتها قبل أسبوع واحدة أخرى في ولاية جورجيا سقط فيها 8 ضحايا.
مسلسل دموي ومتوحش تتوالى حلقاته المزمنة بصورة شبه دورية، وترتبط أساساً بوفرة السلاح وسهولة امتلاكه من دون حدود. ومثل كلّ مرة تقع فيها مأساة بهذا الحجم أو أكبر، يسارع الكونغرس إلى طرح الموضوع، متظاهراً بالحرص على معالجته لمنع تكراره، لكنه ينتهي كالعادة بمزيج من الضجة والمناحة وإبداء الأسف، ثم يُغلَق الملف حتى المجزرة القادمة. وهكذا دواليك.
وفي الغالب، يتصدى الجمهوريون، وخصوصاً في مجلس الشيوخ، لأي محاولة ترمي إلى ضبط انتشار السلاح، ولو بالحدّ الأدنى، وذلك بزعم أنه حق يكفله الدستور، الأمر الذي أدّى إلى انفلات انتشار السلاح بشكل جنوني، ضرب معه الرقم القياسي في العالم. فبحسب أحد الإحصاءات، ينتشر السلاح بمعدل 120,5 قطعة لكلّ 100 أميركي، وهي نسبة لا يجاريها بلد آخر. فقط اليمن يأتي بعدها، لكن بفارق كبير، حيث المعدّل 52,8 قطعة لكل مئة يمني.
يعود الموضوع إلى بدايات تكوين الاتحاد. يومذاك، كانت الدولة الوليدة بدون قوات أمنية وعسكرية منظمة وكافية. بعد سنتين من إقرار الدستور، أُدخِل تعديل عليه يجيز للمواطن "حمل السلاح وامتلاكه" للدفاع عن النفس وكوسيلة ردع للجرائم والاعتداء. كانت الفكرة أنّ كلّ مواطن ينبغي أن يكون جندياً موقتاً "في مليشيا منظمة كأفضل صيغة للدفاع عن بلد حرّ".
على قاعدة هذا التعديل، اعتاد الناس حمل السلاح الذي تحوّل إلى تقليد راسخ ارتكز على نص دستوريّ، وقامت في ظله صناعة متخصصة لتوفيره. مع الوقت، انتشر وتضخّم إنتاج هذه الصناعة التي صارت قوة اقتصادية وازنة لها "لوبي" من أقوى جماعات الضغط في واشنطن، يتمثل بـ"الرابطة الوطنية الأميركية للبنادق"، ويتمتع بنفوذ كبير في الكونغرس للدفاع عن تجارة السلاح والحيلولة دون تمرير قوانين تحدّ من أسواقها المحلية.
بحكم هذا النفوذ، دُوِّرَت زوايا التعديل الدستوري الثاني (حماية الدولة) المرتبط بظروف تكوين الدولة قبل 250 سنة وتحويله إلى حق فردي مفتوح وصناعة تسليحية عاتية. وبذلك، تطور السلاح الفردي وتنوّع، بحيث صار يشمل الرشاش الصغير والبندقية الأوتوماتيكية، إلى جانب المسدس، بمختلف المقاييس والطاقات، مع السماح بزيادة حجم مخزون الرصاص وبما يضاعف من القوة النارية للقطعة.
وجرت محاولات كثيرة لحمل الكونغرس على فرض قيود على مواصفات بعض الأسلحة التي صارت قريبة من السلاح الخفيف الذي تستخدمه القوات المسلحة، لكن من غير جدوى. وكذلك، باءت بالفشل مساعي الديمقراطيين في الكونغرس لحمل تجار السلاح على وجوب التشدد والتوسع في استقصاء المعلومات الأمنية والسلوكية والنفسية عن الزبائن قبل الموافقة على بيعهم السلاح.
واليوم، واجه هذا المطلب اعتراض الجمهوريين في مجلس الشيوخ على مثل هذا الشرط، ولو أنّ البيت الأبيض يصرّ على تمرير قانون من هذا النوع بعد مجزرتي الأسبوع الماضي. لكن ليس من المتوقع أن يكون حظ مثل هذه المحاولة أفضل من سابقاتها التي تكررت بعد المجازر التي "تضاعفت ثلاث مرات بين 1982 و2011، والتي وقعت بمعدل واحدة كل 200 يوم"، وراوحت ضحاياها بين 49 في مجزرة لاس فيغاس سنة 2016 و20 قتيلاً في ولاية تكساس سنة 2020.
باءت بالفشل مساعي الديمقراطيين في الكونغرس لحمل تجار السلاح على وجوب التشدد
دوامة القتل الجماعي وأرقامها مخيفة في أميركا، وما يخيف أكثر أنها تتكرر، وساحتها مفتوحة في أي وقت. لا مكان محصناً منها. حتى مبنى الكونغرس لم يسلم منها أخيراً. الأسباب متنوعة، تشمل الخلل العقلي، الانتقام على أشكاله، العنصرية كما جرى أخيراً في جورجيا، إضافة إلى الثأر السياسي كما حصل في 6 يناير/كانون الثاني الماضي.
لكن يبقى توافر السلاح وسهولة الوصول إليه العامل الأهم، الذي صار امتلاكه جزءاً من الثقافة الأميركية السائدة. والدليل أنه، على الرغم من تكرار عمليات القتل العشوائي وفواجعه، لا الكونغرس تحرّك بالقدر المطلوب كما جرى في بلدان أخرى مثل أستراليا ونيوزيلندا، للسيطرة على السلاح إن لم يكن تحريمه، ولا الرأي العام قام بتحرك ضاغط على الكونغرس لإجباره على وضع حدّ لهذا التفلّت الذي تنفرد به أميركا من بين الدول الصناعية الكبرى منها والصغرى، وكأن هناك عشقاً بين الأميركيين والسلاح، على الرغم من مصائبه، وفي ذلك مفارقة صارخة حيث تتآخى الضحية مع الآفة.