تحتفل الجزائر، يوم الأحد، بذكرى المجازر التي نفذتها القوات الفرنسية ضد الجزائريين في الثامن من مايو/أيار 1945، عشية الاحتفال بانتصار الحلفاء على النازية في الحرب العالمية الثانية، خاصة في مدن سطيف وقالمة وخراطة شرقي الجزائر، وقد خلفت 45 ألف قتيل.
وعلى الرغم من الاعتراف الفرنسي الخجول بالمسؤولية عن هذه المجازر والذي أخذ أشكالاً مختلفة، إلا أن باريس ترفض حتى الآن تقديم اعتذار رسمي وتقديم تعويضات عن هذه المجازر.
وقال الرئيس عبد المجيد تبون، يوم السبت، في رسالة بهذه المناسبة، إن "الفظائع التي عرفتها سطيف وقالـمة وخراطة وغيرُها من الـمدن في الثامن من مايو 1945 مجازر بشعة، لا يمكن أَنْ يطْويها النِّسيان"، مؤكداً على حرص الدولة على معالجة ملف التاريخ والذاكرة مع الطرف الفرنسي بعيداً عن "كل مزايدةٍ أو مُساومة، لصون ذاكرتنا، ويسعى في نفس الوقت إلى التعاطي مع ملف الذاكرة والتاريخ بنزاهـة وموضوعية، في مَسارِ بناءِ الثقَة، وإرساء علاقات تعاوُن دائم ومُثْمِرٍ، يَضْمَنُ مَصَالحَ البلديْن في إطار الاحترام الـمُتَبادل".
ويشير الرئيس الجزائري في هذا السياق إلى تاريخ من الاستعمار الفرنسي للجزائر، وقضية الذاكرة وملفاتها العالقة، كحجر عثرة في طريق تطبيع كامل للعلاقات الجزائرية الفرنسية، اذ مازالت هذه القضايا تتمركز في عمق هذه العلاقات وتؤدي في الغالب الى خلافات طارئة، على غرار الأزمة العاصفة في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بعد تصريحات للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول تاريخ الجزائر.
وقال المؤرخ محمد أرزقي فراد، لـ" العربي الجديد"، إنه "طالما أن باريس مازالت ترفض إقرار معالجة موضوعية لملفات الذاكرة، وتحمل مسؤولياتها إزاء عدد كبير من القضايا والأحداث التاريخية، كالتفجيرات النووية التي مازالت آثارها وتأثيراتها قائمة على الأرض والسكان، وقضايا استرجاع الأرشيف وغيرها، فإن العلاقات الجزائرية الفرنسية ستبقى تتأثر بذلك، خاصة أن القضية التاريخية حساسة بالنسبة للجزائريين".
رئيس حركة البناء الوطني (مشاركة في الحكومة)، عبد القادر بن قرينة، أكد أن "أحداث الثامن من مايو 1945 ستبقى على غرار ملف الاعتراف، واسترجاع رفات شهدائنا الأبرار، واسترجاع الأرشيف وتعويض ضحايا التفجيرات النووية في الصحراء الجزائرية؛ من أهم ملفات الذاكرة المريرة العالقة بين الجزائر المستقلة وفرنسا الاستعمارية، و تبقى علاقات الجزائر مع فرنسا تترنح حتى تسوية هذه الملفات وجبر الضرر المعنوي والمادي الذي ألحقته بالشعب الجزائري".
وحدثت مجازر الثلاثاء الثامن من مايو 1945، عندما دعت قيادة حزب الشعب، أبرز أحزاب الحركة الوطنية قبل الثورة، الجزائريين في مدن قالمة وسطيف وخراطة شرقي الجزائر، إلى التظاهر بمناسبة انتهاء الحرب العالمية الثانية، لمطالبة فرنسا بالوفاء بتعهداتها للجزائريين ومنحهم استقلالهم، بعدما قبلوا القتال في صفوف الجيش الفرنسي ضد الجيش النازي، ولأن ذلك اليوم كان يوم عطلة والسوق الأسبوعية في المدينة، فقد كان التوافد كبيراً، وعلى الرغم من أن المتظاهرين كانوا يحملون أعلام دول الحلفاء، إضافة إلى العلم الجزائري وشعارات الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال، فإن السلطات الفرنسية طالبت بإزالة العلم الجزائري واللافتات التي تطالب بحقوق الجزائريين، قبل أن يبدأ إطلاق النار العشوائي ضد المتظاهريين الجزائريين، ما أدى إلى سقوط الآلاف من الضحايا، اضطرت بعدها السلطات الاستعمارية إلى دفنهم جماعياً في خنادق حفرت خصيصا لهم.
وعلى غرار مدينة قالمة في الثامن من مايو 1945، كان المشهد الدموي نفسه في مدن شهدت مظاهرات وخروج الجزائريين للمطالبة بالحق في الاستقلال، كسطيف وخراطة شرقي الجزائر، وقد واجهتها القوات الفرنسية بالقتل العشوائي. وتشير وثائق الأرشيف الفرنسي التي كشف عنها النقاب مؤخراً، إلى أن السلطات الفرنسية قامت بحمل الجثث ورميها في الوديان أو دفنها في خنادق جماعية.
وبعد عقود من رفض باريس الاعتراف بمسؤولية الدولة الفرنسية عن مجازر الثامن من مايو 1954، دفعت المطالبات السياسية المستمرة للجزائر، الحكومة الفرنسية إلى إعلان أول خطوة على هذا الصعيد. ففي مايو عام 2005 وبعد التوقيع على اتفاقية الصداقة بين الجزائر وباريس، أعلن السفير الفرنسي في الجزائر حينها، هوبير كولان دي فيرديار، في تصريح رسمي" مسؤولية فرنسا عن مجزرة سطيف كمأساة لا تتحمل أي اعتذار".
وفي عام 2012 أعلن السفير الفرنسي في الجزائر، برنار باجولي، أن "فرنسا لا تنوي ولم تعد لديها النية في التستر على وقائع هذه المجزرة المؤلمة، ووقت النكران قد ولى".
تطور هذا الإقرار الفرنسي في مايو 2015، عندما أوفدت الحكومة الفرنسية للمرة الأولى مسؤولا حكوميا إلى الجزائر، وهو سكرتير الدولة الفرنسي المكلف بشؤون قدامى المقاتلين، جان مارك توديسكيني، للمشاركة في إحياء الذكرى السبعين لهذه المجازر في مدينة سطيف شرقي الجزائر، واعتبر توديسكيني حينها أن حضوره الشخصي يجسد "حركة قوية للتكريم الفرنسي للضحايا، وللاعتراف بالعذابات التي عانى منها الجزائريون"، بعد إعلان الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، أن "الاستعمار الفرنسي للجزائر كان مظلمة وجريمة".
لكن هذه الاعترافات لم تتضمن إقرار تعويضات لعائلات الضحايا، كما تطالب بذلك جمعيات تعنى بالضحايا والشهداء في الجزائر، بسبب أن هذه المساعي المدنية لم تكن تحظى بالقدر الكافي من الدعم السياسي من قبل الحكومة الجزائرية.
ولافت في سياق المناسبة، رفض السلطات الجزائرية تصنيف ضحايا الثامن من مايو 1945 شهداء بالمعنى الرسمي الذي يتيح لعائلاتهم الحصول على تعويضات ومنح، على غرار شهداء ثورة التحرير، إذ بقيت القائمة الرسمية في هذا الإطار محصورة بشهداء ثورة التحرير (1954-1962)، وكانت كتلة حزب جبهة القوى الاشتراكية، أقدم أحزاب المعارضة السياسية في الجزائر، قد أودعت عام 2017 مشروع قانون لدى البرلمان الجزائري من أجل منح صفة "الشهيد" لضحايا هذه المجزرة، وإكساب عائلاتهم حقوقاً.