الدنمارك تضع استراتيجية أمنية خارجية جديدة: البراغماتية بدل القيم

17 مايو 2023
تحظى السياسة الجديدة بمباركة رئيسة الحكومة ميتا فريدركسن (ناصر السهلي)
+ الخط -

وضعت الدنمارك خطوطاً عريضة لسياسات خارجية أمنية جديدة، تخفف من الحديث عن القيم وتركز على كسب الحلفاء للقارة الأوروبية ولبلدهم الصغير.

ومن الواضح أنّ بصمة رئيس الحكومة السابق ووزير الخارجية حالياً في حكومة ائتلاف يسار ويمين الوسط، لارس لوكا راسموسن، باتت تطغى على الرغبة في "براغماتية أكثر"، كما يصفها راسموسن، المتحول إلى وسط السياسة الدنماركية بعد تركه قيادة الحزب الحاكم السابق (فينسترا)، المحسوب أكثر على صقور يمين الوسط خلال السنوات الأخيرة، وتأسيسه حزب "المعتدلون".

وتحظى السياسة الجديدة بمباركة رئيسة الحكومة ميتا فريدركسن، من يسار الوسط.

تشير الخطوط العامة لاستراتيجيات السياسة الخارجية الجديدة المقترحة على برلمان الدنمارك إلى رغبة راسموسن التي تتضح في تسعة معالم، تتماشى مع التغير الحاصل في أوروبا منذ الغزو الروسي لأوكرانيا قبل 15 شهراً، وأهمها استمرار دعم أوروبا لأوكرانيا ودمجها في أوروبا، وتعزيز الدفاع والأمن والمساهمة في قوة ردع الناتو، بالإضافة إلى دعم الاتحاد الأوروبي بالتوسع شرقاً وفي غرب البلقان، وكذا التعاون لمواجهة عواقب الحرب الروسية على أوكرانيا، إضافةً إلى زيادة المشاركة العالمية وبناء تحالفات جديدة، وبناء شراكات متكافئة على مستوى العالم، وتعزيز مرونة أوروبا، وتوسيع مواقع القوة في مجالات البيئة والتكنولوجيا والصحة وغير ذلك الكثير، وأخيراً دعم الشركات الدنماركية والعمل معها في السياق الجيوسياسي الجديد.

ويرى راسموسن العالم بأنه "أكثر عسكرة"، ويواجه تحديات من نوع مختلف. وقراءة روسيا كتهديد كبير تطغى الآن، على عكس ما ساد سابقاً من اعتبار الإرهاب وتصادم "القيم" كأحد أهم أعمدة اتخاذ القرارات.

إذاً، فإنّ عودة روسيا إلى موقع المهدد الأكبر تدفع كوبنهاغن إلى مزيج من سياسة خارجية تعتبر أنّ العالم متجه نحو "علاقات معقدة"، تسيطر فيها "الواقعية السياسية العملية" بدل "القيم"، وهذا بدوره يكشف عن قراءة دنماركية ترى أنّ العلاقات الدولية متجهة على الأقل نحو تعدد مراكز القوة الإقليمية، والمتنافسة في كثير من الأحيان، مع تحالفات متغيرة يصعب التنبؤ بها.

وتؤكد السياسة الخارجية الجديدة لكوبنهاغن على أنّ تلك التغيرات "تتطلب دبلوماسية قوية مستعدة للتعامل مع التحديات التي نواجهها"، والعسكرة تعد واحدة من تلك الاستعدادات، التي تتطلب المزيد من الأموال لصرفها على الجيش، والدفاع والأمن بصورة عامة.

تتجه كوبنهاغن إلى التركيز على منطقة القطب الشمالي، وغرينلاند، أكثر من منطقة بحر البلطيق، التي يرى الإسكندنافيون أنّ "العدوانية الروسية" باتت أكبر فيه منذ 2014، وذلك مع زيادة واضحة في المجهود الغربي، وتغير الوضع بانضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي، وتوقع عضوية السويد. والحضور الأطلسي في البلطيق يسهل على الدنمارك التركيز على مجال حيوي آخر تشتد فيه المنافسة في القطب الشمالي.

وأشار وزير الدفاع، أمس الثلاثاء، بالإنابة عن رولز لوند بولسن، إلى هذا المستجد بالقول إنّه "يفرض على الحكومة أن تعيد التسلح في القطب الشمالي، وإحالة بحر البلطيق إلى المرتبة الثانية"، باعتبار الوجود الأطلسي المتعاظم، منذ غزو روسيا لأوكرانيا، يفي بالغرض لنقل الاهتمام نحو القطب الشمالي وغرينلاند، التي تسعى روسيا والصين للتأثير عليها، والحصول على موطئ قدم فيها أو قربها، بينما يهدد الأميركيون ساسة الحكم الذاتي في الجزيرة التابعة للدنمارك من أنّ "أي تقارب معهما سوف يعني تدخلاً أميركيا مباشراً"، وهو ما أشار إليه أكثر من سياسي من اليسار ويسار الوسط الدنماركي خلال الأيام الماضية.

ويخشى البلد الصغير من أن يؤدي التغير الأوروبي في اتخاذ القرارات السياسية، بمبادرة من برلين، من صيغة الإجماع إلى الأغلبية، إلى نزع حقه في الاعتراض باستخدام حق النقض (الفيتو)، كما تهدد على سبيل المثال المجر بصفة مستمرة، ومعها دول أخرى في شرق أوروبا.

وتُقر الدنمارك أن الاتحاد الأوروبي يسارع الخطى لتوسيع عضويته من 27 دولة إلى 37 دولة، بما يعزز قوة وسلطة الدول الأكبر في النادي الأوروبي، مثل ألمانيا وفرنسا وبولندا، من خلال تحالفات مع الدول الجديدة.

ويولي البلد اهتماماً أكثر لما يسمى الاقتصاد العسكري، والمتعلق بفتح فرص جديدة لشركاتها التي تعمل في إنتاج تقنيات عسكرية، إذ تذهب الاستراتيجية الجديدة إلى القول إنّه "يجب على الدنمارك أيضاً أن تشارك في بناء صناعة الدفاع الأوروبية، وتقوية التزام شركاتنا بالتعاون الدولي لصالح أمننا وازدهارنا ورفاهيتنا"، وذلك في سياق بناء مجمع عسكري جديد، بمشاركة شركاتها المصنعة للسلاح والتقنيات، في إطار تزايد الإنفاق الأوروبي على التسلح، حيث تسود نظرة بأنّ القارة تتجه إلى اقتصاد العسكرة بعد أن استفادت استفادة كبيرة من "مكاسب السلام" بعد نهاية الحرب الباردة قبل أكثر من 30 عاماً.

وتشير السياسة الجديدة بوضوح إلى أنّ المستقبل يعني أنّ "الدور الشامل للتكنولوجيا واعتماد المجتمع المتأصل عليها يعني أنّ التكنولوجيا أصبحت سياسة خارجية وأمنية"، وترى في نفس السياق أنّ "العولمة تتغير، حيث كان التركيز سابقاً على أكبر قدر ممكن من النمو والازدهار، بينما يتم الآن تضمين اعتبارات السياسة الأمنية بشكل متزايد في المداولات".

تشير هذه التغيرات في سياق أوروبي إلى أنّ القارة التي تغيرت بعد سقوط جدار برلين في عام 1989، وبعد "11 سبتمبر"، تتجه نحو تغير آخر بعد غزو أوكرانيا، إذ يقولها وزير خارجية كوبنهاغن الذي يوسع لقاءاته الأوروبية والدولية: "علينا أن ننتهج الواقعية، وأن نكون أقل وعظاً، وعلينا الإصغاء أكثر حول العالم"، مشدداً: "قيمنا صحية وتوفر حياة أفضل، لكن ليست مهمتنا في أوروبا أن نخرج ونوعظ العالم بما يجب أن يكونوا عليه".

ويشير بذلك على سبيل المثال إلى القارة الأفريقية، وغيرها ممن يرى فيها "ضرورة للتحالف معنا في مواجهة روسيا والتحديات الأخرى، وخصوصاً أنّ الصين تقتحم القارة أكثر"، مشيراً: "صحيح أنّه علينا مكافحة الفساد، لكنها لا يجب أن تكون النقطة الرئيسة حين نقوم بزيارات حكومية إلى الدول الأخرى".

ويبدي الوزير مثل غيره من ساسة القارة، قلقا من أنّ "ثلثي سكان العالم يعيشون في بلدان محايدة أو تدعم بشكل مباشر الغزو الروسي لأوكرانيا، وتلك الدول نحتاجها في الأمم المتحدة لمواجهة روسيا، وعلينا ألا نكون انتقائيين"، كما صرح في مؤتمر صحافي مساء أمس الثلاثاء عن الاستراتيجية الجديدة.

وهذه المؤشرات، تدل على أنّه لا يخفي على الدنماركيون وغيرهم في أوروبا، أنّ القارة "ماضية إلى تأكيد نفسها بوجه الصين وروسيا"، كما يصف بعض المحللين، معتبرين أنّ ذلك يمنح بلدهم بعض الأوراق الرابحة لتحقيق مصالحها العالمية، باعتبارها جزءاً رئيساً من سياسات القارة، مع خشيتها من تعدد مراكز القرار العالمي.