تتصاعد مجدداً الدعوات لتعديل الدستور في العراق، لكنها هذه المرة ليست من الناشطين المدنيين والمحتجين الذين رفعوا المطلب في شوارع وساحات جنوب ووسط البلاد وبغداد قبل نحو عامين، ولا من القوى السياسية التي تعتبر أن الدستور صيغ بشكل متسرع، بل من أعلى السلطات القضائية في البلاد.
فقد دعا رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان، في بيان مطول له، البرلمان إلى إجراء تعديلات على الدستور، وذلك عقب تجدد الجدل بشأن المواد الفضفاضة القابلة لأكثر من تفسير وتأويل والتي تحولت إلى مشكلة تتجدد في كل أزمة سياسية.
رئيس مجلس القضاء الأعلى أقر بخطأ تفسير سابق للمحكمة الاتحادية بهيئتها القديمة عام 2010 في ما يتعلق بالكتلة البرلمانية الكبرى التي يحق لها تشكيل الحكومة، وهو خطأ أسس لأزمات عديدة ومتكررة، بما فيها الأزمة الحالية بين التيار الصدري وقوى "الإطار التنسيقي"، حيال أحقية تشكيل الحكومة الجديدة.
وفسّرت المحكمة الاتحادية آنذاك المادة 76 بأن الكتلة الكبرى هي التي تتشكل داخل البرلمان، وهو ما اعتبر تفسيراً مشوهاً صب في صالح رئيس الوزراء نوري المالكي وسمح له بالحصول على ولاية ثانية على حساب كتلة "الوطنية" بزعامة إياد علاوي، التي فازت بالانتخابات التشريعية عام 2010.
ووفقاً للقاضي زيدان، فإن "الدستور خُرق أكثر من مرة"، مؤكداً أن "أمام مجلس النواب مسؤولية تاريخية تتمثل بضرورة العمل على تعديل المواد الدستورية، لا سيما أن المواد المعنية ليست خلافية وإنما قابلة لإعادة الصياغة بشكل يضمن عدم دخول البلد في حالة خرق أو فراغ دستوري مستقبلاً".
تشكيل لجنة لتعديل الدستور العراقي
وقرر البرلمان السابق في 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، تشكيل لجنة لتعديل الدستور على خلفية تصاعد الاحتجاجات الشعبية في البلاد، وكان مطلب تعديل الدستور أحد أبرز المطالب.
وأقر البرلمان أربعة أشهر لعمل اللجنة، لكن بعد مرور أكثر من عامين لم يتم اعتماد أي توصيات نهائية للجنة بسبب خلافات بين أعضائها وذهاب آخرين إلى طرح فكرة تغييرات كبيرة في الدستور، منها التحول للنظام الرئاسي والتخلي عن النظام البرلماني، وأيضا تعزيز سلطة بغداد وصلاحيات رئيس الجمهورية، وهو ما رفضته القوى الكردية في إقليم كردستان.
تُعدّ المادة 140 من أبرز المواد الخلافية بين بغداد وأربيل
عضو لجنة تعديل الدستور في الدورة السابقة للبرلمان العراقي يونادم كنّا، قال لـ"العربي الجديد"، إن "من المواد الخلافية، التي تحتاج إلى مناقشة وإجراء دراسة جديدة لها، المادة 140، المرتبطة بالخلاف بين بغداد وأربيل بشأن إدارة المناطق المشتركة والمتداخلة بين حدود إقليم كردستان العراق، والأراضي التابعة تنظيمياً لإدارة بغداد، إضافة إلى ما يرتبط بالنصوص التي تتحدث عن كون العراق بلداً جمهورياً أم رئاسياً أم برلمانياً".
وأكد أن "التعديل الأهم، الذي تتجدد الحاجة إليه مع اقتراب موعد تشكيل الحكومة الجديدة، هو مفهوم (الكتلة الكبرى)، إذ لا بد من التفريق بين ما إذا كانت (الكتلة البرلمانية الكبرى) أم (الكتلة الفائزة انتخابياً)، وهذا فرق كبير ويؤدي إلى مشاكل سياسية. وهناك حاجة إلى تعديلات في قوانين الحقوق والحريات".
من جهته، أكد القاضي وائل عبد اللطيف، وهو واحد من أعضاء لجنة كتابة الدستور العراقي، "عدم وجود دستور متكامل في كل دول العالم، لكن الدستور العراقي يتعرض لتجاوزات كثيرة وقدح من قبل الأحزاب المتنفذة والكيانات السياسية التي تتقاسم السلطة في البلاد، إضافة إلى أن الكثير منها يفسر الدستور بالطريقة التي تحلو له، وهو ما يشير إلى وجود حاجة ماسة لتعديله".
ولفت في حديثٍ مع "العربي الجديد"، إلى أن "هناك تجاوزات من قبل القوى الكردية على المادة 140 من الدستور، التي تتعلق بإدارة المناطق المشتركة بين سلطتي بغداد وأربيل، كما أن هناك تجاوزات من كيانات سياسية في بغداد على المواد المرتبطة باختيار رؤساء البرلمان والجمهورية والحكومة".
وأشار إلى أن "الدستور العراقي كان بحاجة إلى إجراء حزمة تعديلات بعد 4 أشهر من انعقاد أول جلسة للبرلمان عام 2006، لكن جميع المطالبات بذلك كانت تُهمل بدوافع سياسية، إلى أن وصل الوضع إلى ما هو عليه الآن، وبات معه الدستور بحاجة إلى تعديل نحو 15 مادة منه، وهذا لا يعني كتابة دستور جديد، بل إجراء لمسات جديدة تناسب الوضع الحالي".
وأكد أن "قوانين مهمة تنتظر التعديل، منها قوانين الأحوال الشخصية التي تصنف العراقيين على أسس مذهبية، إضافة إلى قانون النفط والغاز، وما يرتبط بصلاحيات رئيس الجمهورية".
تعديل الدستور العراقي والقانون
من جانبه، شدد القيادي في تيار "الحكمة" محمد اللكاش على أن "تعديل الدستور بات حاجة ملحة وحقيقية، وبسبب إهمال تعديل بعض الفقرات والقوانين توجه العراق لأكثر من مرة لمشاكل سياسية وأمنية كبيرة، والمواد التي تحتاج إلى تعديلات معروفة وواضحة، وقد تحدثت عنها لجنة تعديل الدستور التي تشكلت عقب تظاهرات تشرين عام 2019".
وأضاف في حديث مع "العربي الجديد"، أن "المشكلة في تعديل الدستور أنه حتى تعديله يحتاج إلى تجاوز على القانون والدستور، من خلال التوافق السياسي، بالتالي فإن أي تعديلات دستورية تحتاج إلى اتفاقات حزبية، إذ إن بعض الكيانات تقبل بإجراء التعديلات لكن كيانات أخرى لا تريد ذلك، لأن التعديلات ستؤدي إلى خسارة سياسية لها".
المشكلة في تعديل الدستور أنه يحتاج إلى تجاوز على القانون والدستور
بدوره، رأى الخبير القانوني علي التميمي أن "الدستور العراقي لا يتمتع بالمرونة، أي أن تعديله يتطلب إجراءات بيروقراطية، سواء على مستوى تطبيق القوانين في الدستور نفسه، أو عبر الإجراءات البرلمانية التي تتطلب تشكيل لجنة لتعديل الدستور، وأن يوافق مجلس النواب بالأغلبية المطلقة على هذه اللجنة، ثم يُعرض الدستور في استفتاء ويوافق نصف المصوتين زائد واحد، وألا يعترض على التعديل ثلثا المصوتين في ثلاث محافظات".
وقال في حديثٍ مع "العربي الجديد"، إن "قوانين عديدة بحاجة لتعديلات، منها شكل النظام السياسي، والمادة 140 والمادة 73 الخاصة بصلاحيات رئيس الدولة".
وأقرّ الدستور العراقي عام 2005، في استفتاء شعبي قاطعه طيف واسع من العراقيين، بنوداً وفقرات ما زالت مثيرة للجدل، تبدأ من ديباجة الدستور الأولى التي استبدلت عبارة أن العراق دولة عربية، والموجودة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، إلى عبارة أن العراق دولة متعددة القوميات والأديان والمذاهب وعضو مؤسس وفعّال في جامعة الدول العربية، مروراً بمادة المناطق المتنازع عليها.
كما تم ذكر وترسيخ مفردة المكونات التي أسست للمحاصصة الطائفية في العراق، وانتهاء بقانون البرلمان والنظام الفيدرالي الذي أعطى الحق لأي محافظة، أو عدة محافظات مجتمعة، في اختيار الذهاب نحو إقليم مستقل إدارياً على غرار إقليم كردستان.