أصبح الرئيس التونسي قيس سعيّد المؤّول الرسمي الوحيد للدستور، بسبب غياب المحكمة الدستورية، ويبدو أنه يعمل على استمرار غيابها وعرقلة أي جهد لاستكمالها، هذا إذا كان هناك جهدٌ أصلاً، وأغلبيةٌ ترغب فعلاً في ذلك. ويستغل سعيّد هذا التشتت السياسي، ويضع لاءاته أمام أي حركة في هذا الاتجاه. ولطالما كان تأويل الدستور التونسي (دستور الثورة التونسية ولد في العام 2014) محلّ خلاف سياسي في البلاد، ولكن إعلان سعيّد أخيراً، بأنه القائد الأعلى لجميع القوات المسلحة (العسكرية والشرطة والجمارك والدرك)، أثار المخاوف في الساحة السياسية، وفتح العيون على ما يمكن أن يقود إليه الفراغ الدستوري.
قدّم سعيّد درساً أكاديمياً من قصر قرطاج (مقر الرئاسة التونسية)، في سابقة لم تشهد تونس مثلها على مرّ عقود، وقدّم وثائق تذهب في اتجاه قراءته لهذه الفصول الدستورية. لكن أستاذه الذي درّسه، مرجع القانون الدستوري في تونس، عياض بن عاشور، الذي كان قد ترأس الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي في بداية الثورة التونسية، ردّ عليه بقوة، مؤكداً أن مخطط الرئيس التونسي الذي نصّب نفسه قاضياً دستورياً، هو مخطط ديكتاتوري سلطوي. وأشار بن عاشور، في حوار مع مجلة "أفريكان ماناجر"، إلى أن ما قاله رئيس الجمهورية في خطابه الأخير بمناسبة الاحتفال بعيد قوات الأمن الداخلي (18 إبريل/ نيسان الماضي)، خطير جداً ويمهد لانقلاب مدني، ولانتصاب ديكتاتورية جديدة، ستغتال الحريات عبر تأويل الدستور بحسب رغبته، وعلى مقاس مشروعه السياسي.
لا اختلاف في التقاليد الدستورية على أن مصطلح القوات المسلّحة لا يتجاوز القوات العسكرية
ودحض بن عاشور كلّ المؤيدات الدستورية التي قدمها سعيّد، مؤكداً أن لفظ القوات المسلحة في التقاليد الدستورية في جميع البلدان يشير حصراً إلى القوات العسكرية فقط، بمعنى الجيش، دون سواه، ولا يشمل القوات المسلحة المدنية. وشدّد بن عاشور على أنه لا اختلاف في القانون الدستوري المقارن وفي التقاليد الدستورية على أن مصطلح القوات المسلّحة لا يتجاوز القوات العسكرية، مؤكداً أن الهدف من "قيادة القوات المسلحة" لا يعني أن لرئيس الجمهورية سلطة مطلقة على هذه القوات، بل هو التأكيد أنها لا تخضع لضبّاط الجيش، وإنما للسلطة المدنية المتمثلة في هذه الحالة في رئاسة الجمهورية.
ولفت بن عاشور إلى أنه "بالاستعانة بالفصول 17 و18 و19 من الدستور التونسي، نتبين وجود تفرقة جلّية في الدستور بين القوات المسلحة وقوات الأمن". وأوضح أن رئيس الجمهورية عندما يدمج كلّ القوات، فهو خاطئ، ويخالف بشكل واضح وصريح منطق هذه الفصول. وخلص بن عاشور إلى أن قراءة متمعنة لفصول الدستور، تكشف أنه لا وجود لعدم دستورية هذا القانون، "سوى في خيال رئيس الجمهورية"، وفق تعبيره. وذكّر بأن رئيس الدولة خرق سابقاً الدستور برفضه أداء اليمين الدستورية للوزراء الذين تم اقتراحهم في إطار التعديل الوزاري (في حكومة هشام المشيشي)، بالإضافة إلى رفضه إمضاء القانون المتعلق بالمحكمة الدستورية.
ويتساءل التونسيون اليوم حول سبب كلّ هذه الخلافات حول تأويل فصول الدستور التونسي، ولماذا حدثت كلّ هذه الخلافات على مرّ السنوات الماضية وبين كل المسؤولين، وهل أن هذه الخلافات تكشف فعلاً ثغرات في الدستور يتم التنبه إليها مع كلّ أزمة سياسية، أم أنها أزمات مفتعلة؟
ويشرح أستاذ القانون الدستوري عبد الرزاق المختار، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الدساتير عادة تسيّر وضعاً ساكناً، فهي نصوص تقوم على ما يجب أن يكون في أغلب الحالات، في حين أن المادة السياسية متحركة، وبناء عليه، فالنص الدستوري ينبغي أن يكون قادراً على الإحاطة بها. ويوضح المختار أن الخيارات الدستورية التي قام عليها الدستور التونسي هي فكرة التعاون بين السلطات، وهذه الثغرة هي التي شكلّت عامل تقسيم للسلطات، حيث تم وضع ما يسمى بالكوابح الدستورية، مبيناً أن هذه الكوابح تجعل كل سلطة معادية للسلطة الأخرى، وعوض أن يكون هناك مناخ للتعاون، فقد وجدنا محيطاً سياسياً تنازعياً جداً، وهذا ما كشف عن عيوب في المسألة الدستورية. ويلفت أستاذ القانون الدستوري إلى أن الأزمة أحياناً ليست من صنع النص، بل من صنع الفاعل السياسي الذي يفعّل تأويل النص الدستوري عندما يريد افتعال أزمة، فالجميع مثلاً اتفق على تعيين الوزراء، وأن يقبلهم رئيس الجمهورية لأداء القسم، ولكن الفاعل السياسي هنا رفض وخلق أزمة.
وعلى الرغم من ذلك، يشير المختار إلى أن هذا لا يعني أن النص الدستوري لا يتضمن عيوباً هيكلية، فقد كان قائماً على هواجس، وهي أن كل طرف خائف من الطرف الآخر، ومن يخشى الرئيس حاول منع العودة للنظام الرئاسي، فيما ذهب معارضوهم إلى صياغة تناسبهم، وبالتالي وضع كل طرف سياسي هواجسه ومخاوفه في الدستور، لتحصل تسويات للهواجس بدل أن تكون هناك اختيارات دستورية مدروسة. وبالإضافة إلى ذلك، يلفت المختار أيضاً إلى تراكم ممارسات سياسية جعلت من خدمة الصالح العام رهينة للتجاذبات، مؤكداً أن الدستور كان بمثابة الرداء الذي يتمزق بين الجميع. وبناء عليه، يرى الخبير القانوني وجوب التمييز بين ما هو موجود من هنات (هفوات، ثغرات) دستورية ومن يريد أن يحدث خرقاً في الدستور، فالأزمة الحالية لم تكشف فقط هنات الدستور، بل أيضاً خيبات الطبقة السياسية.
يستغل سعيّد التشتت السياسي لاستمرار عرقلة ولادة المحكمة الدستورية
ويؤيد أستاذ القانون الدستوري رابح الخرايفي ما ذهب إليه زميله، مؤكداً أن الصراع السياسي كشف عن ثغرات في الدستور، ولكن هذه الثغرات لم تكن خفية، بل معلومة لديهم منذ البداية. والخرايفي ليس فقط أستاذ قانون دستوري، وإنما كان نائباً مؤسساً عن الحزب الجمهوري، في المجلس التأسيسي الذي كتب الدستور، ما يعني أنه عايش كل تفاصيل ولادة الدستور التونسي وخلافاته. ويكشف الخرايفي، في حديث لـ"العربي الجديد"، عن خلاف بين النواب حول كتابة الدستور، وعن وجود تيارين مختلفين متصارعين، تيار يضم حركة "النهضة" والمؤتمر والتكتل (الترويكا) وحركة "وفاء"، والتيار الثاني الذي يضم الكتلة الديمقراطية، ما أوجد رؤيتين مختلفتين داخل الدستور.
ويتابع الخرايفي أن الأغلبية التي كانت تقودها حركة "النهضة" وقتها، كانت تدافع عن النظام البرلماني، فيما دافعت الكتلة الديمقراطية، التي كانت مدعومة من الشارع ومن الاتحاد التونسي للشغل، عن النظام الرئاسي مع وجود المحكمة الدستورية ورقابة البرلمان، ما أوجد فهمين وتوجهين للنظام السياسي، فخرج الدستور بهذا الشكل. ويؤكد أستاذ القانون الدستوري أن الثغرات ناتجة عن عدم دراية بعض المؤسسين بمعنى الألفاظ والتشريعات وقتها، حيث لم يكن هناك وعي متقدم بما حمله الدستور، فحصلت مشاكل حقيقية في هذا الاتجاه.
وحول الجدل الذي أثاره رئيس الجمهورية في الفصل المتعلق بالقوات المسلحة، يرد الخرايفي بأن حركة "النهضة" كانت تريد التفريق في هذا الفصل بين الجيش والشرطة، في حين أن الرأي الآخر تمسك بعبارة القوات المسلحة، والتي تشمل الجيش والأمن وكل القوى الحاملة للسلاح، مشيراً إلى أن لفظ القوات المسلحة من دون تحديدها، هو ما مرّ في نهاية الأمر، وقد وُضع قصداً وترك التأويل للمحكمة الدستورية، معرباً عن أسفه لـ"عدم إبصار هذه المحكمة النور بعد، إذ كنا نتوقع أن تكتمل بعد عام فقط من كتابة الدستور". ويختم الخرايفي أخيراً، بالإشارة إلى أنه في المسارات التاريخية وفي التجارب المقارنة، فإن هذه الخلافات العميقة تقود عادة لولادة جمهورية ثالثة.