لا تزال مسألة الحريات في الجزائر التي تعدّ أساس المشكلة السياسية، تمثّل معضلة كبرى مستمرة في البلاد، حتى بعد ثلاثة عقود من دخول الجزائر عهد التعددية السياسية، وبعد أربعة تعديلات دستورية كانت كلها تصب في صالح مزاعم إحقاق مزيد من الحريات. فقد ظلّت هذه الأخيرة حاضرة بكثافة في النصّ والقانون، ولكن غائبة على صعيد الممارسة، بل إنها كانت إحدى الدوافع الرئيسية لاندلاع الحراك الشعبي قبل عامين، عندما كانت السلطة تغلق كل فضاءات التعبير عن الرأي، وتضيّق على الصحافة، وتسدّ كل المنافذ على النقابات المستقلة، وتحظر كل أشكال التظاهر في الفضاء العام.
منذ الأشهر الأولى للحراك الشعبي الذي تفجّر في 22 فبراير/شباط عام 2019، كانت السلطة السياسية والأمنية في الجزائر، تدرك بوضوح أنّ أي فشل لها في استرجاع الفضاء العام وتحديد هوامش نشاط الثورة الشعبية، سيؤدي بها إلى خسارة المعركة السياسية، بعدما فاجأها الحراك الشعبي والجيل الجديد من الناشطين السلميين. هذا وحده ما يمكن أن يفسّر التناقض الحاصل بين مبتغى الحراك في تحقيق هامش أكبر من الحريات، وبين تقلّص هذا الهامش في الواقع السياسي، لكن معركة التضييق التي خاضتها السلطة، ومعركة الحريات التي خاضتها مكونات الحراك، كانت تعزز دوافع الثورة الشعبية أكبر، وتحرج السلطة في الداخل والخارج.
يشتكي الصحافيون من أنّ مستوى التضييق الإعلامي، فاق ذلك الذي كان سائداً قبل اندلاع الحراك الشعبي
بخلاف سلطة ما قبل الحراك الشعبي، التي غالباً ما كانت تعتقل المتظاهرين وتفرج عنهم في اليوم نفسه، تجنباً لجدل "حقوق الإنسان" الذي كانت في غنى عنه، تصرفت السلطة منذ يوليو/تموز 2019 على وجه التحديد (الشهر الذي انتهت فيه الفترة الانتقالية بقيادة رئيس الجمهورية المؤقت عبد القادر بن صالح، من دون إجراء انتخابات كان يدعو لها قائد الجيش الراحل أحمد قايد صالح ورفض الحراك التجاوب معها وقتها)، بشكل مغاير، إذ تجاوز عدد معتقلي الرأي في الجزائر في بعض الفترات في غضون العام ونصف العام الماضيين، 120 معتقلاً حكم على بعضهم بالسجن، ناهيك عن عشرات الملاحقين قضائياً. وشهدت هذه الفترة اختلاق السلطة لتهم جديدة كحمل الراية الأمازيغية، وتهديد الوحدة الوطنية، وإضعاف معنويات الجيش، إضافة إلى تهم التجمهر غير المرخص، على الرغم من أنّ تظاهرات الحراك نفسها لم تكن مرخّصة، واكتسبت شرعيتها ومشروعيتها من الحضور الشعبي.
وخلال العام ونصف العام الماضيين من الحراك الشعبي، زادت الرقابة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولجأت السلطات إلى سنّ تشريعات خاصة تتيح ملاحقة كل ناشط يمكن تأويل منشور أو صورة أو فيديو نشره مناوئ للسلطة واعتباره تهمة. كما ازداد التضييق على الصحافيين والقنوات المستقلة، التي تخلّت مبكراً عن كل تفاعل مع الحراك الشعبي والمطالب السياسية، واختفت من البرامج التلفزيونية البرامج الحوارية الجدلية، وتم وضع قوائم من الناشطين والسياسيين المعارضين الممنوع استضافتهم. كما شهد العام الماضي سلسلة قرارات متعلقة بحجب مواقع إلكترونية وتعليق صحف. ويشتكي الصحافيون في الوقت الحالي من أنّ مستوى التضييق الإعلامي، فاق ذلك الذي كان سائداً قبل اندلاع الحراك الشعبي.
وما عدا الأشهر الأولى للحراك الشعبي حتى يوليو 2019، والتي شهدت سقفاً غير مسبوق من الحريات، بفعل التدفق الشعبي المهول في الشوارع واستثمار فضاءات التعبير السياسي، فإنّ الأشهر التالية حتى الظرف الراهن، شهدت تحولاً كبيراً في تعاطي السلطة مع ملف الحريات، لتبدأ حملات اعتقال تكثّفت لاحقاً في فترة ما بعد تعليق الحراك للتظاهرات قبل أن يعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قبل أيام عفواً رئاسياً عن 60 من ناشطي الحراك الشعبي.
وركزت السلطة خلال الفترة الماضية الاعتقالات وعمليات التضييق والملاحقات على الناشطين البارزين والمحرّكين الأساسيين والميدانيين للتظاهرات. وكانت هذه الحملات ممنهجة تستهدف في كل فترة، كتلة مدنية أو سياسية بعينها، تضعها قيد المراقبة بهدف تعطيل الديناميكية الشعبية. إذ بدأ الاستهداف يشمل أولاً الناشطين المدافعين عن القضية الأمازيغية، ثمّ من هم في اليسار، فالناشطين في جمعية "تجمع عمل وشبيبة" الموالية لـ"جبهة القوى الاشتراكية"، ثمّ شبابا وناشطين وطلبة من "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية"، قبل أن يعود ويتركز الاستهداف لاحقاً على أعضاء "حركة رشاد" (إسلامية)، إضافة إلى العناصر الميدانية المحركة للتظاهرات في منطقة الجنوب. وكانت كل هذه الحملات تصبّ في صالح خطة كانت تستهدف إرهاق مكونات الحراك واستنزاف طاقتها في متابعة قضايا الموقوفين والدفاع عنهم، لشغلها عن المطالب السياسية الرئيسية للحراك الشعبي.
ركزت السلطة الاعتقالات وعمليات التضييق والملاحقات على الناشطين البارزين والمحرّكين الأساسيين للتظاهرات
ويقرّ ناشطون حقوقيون بأنّ معضلة الحريات ما زالت معركة رئيسية تتطلّب مزيداً من النضال، ومحركاً يوفر كل مبررات الخروج إلى الشارع. وفي السياق، يرى عضو هيئة الدفاع عن معتقلي الرأي، المحامي عبد الرحمن صالح، أنه "من السابق لأوانه وضع تقييم موضوعي لمسألة نجاح الحراك أو فشله في ملف الحريات"، قائلاً في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "الحراك الشعبي خاض وما زال يخوض معركة الحريات والحقوق وتكريس ما هو موجود دستورياً وقانونياً وفي المواثيق الدولية التي التزمت بها الجزائر على أرض الواقع". ويضيف: "لا مناص من القول إنّ هناك تراجعاً في مسألة ممارسة الحريات، مقارنة حتى مع ما كانت عليه الأمور قبل 22 فبراير 2019، ففي تلك الفترة كان واقع الحريات سيئاً، ولكن مع وجود هوامش تسمح بممارسة معينة، أما اليوم وللأسف الشديد، هناك تراجع كبير في هذا المجال، بينما كان الأمل أن يكون هناك افتكاك هام وأوسع للحريات والفضاء العام". ويؤكد صالح أنّ "هذا الوضع يحتّم استمرار النضال، وهو ما يحصل، بدليل الدعوات لعودة المسيرات الشعبية التي تعدّ إحدى مظاهر تمسّك الجزائريين ببناء دولة المؤسسات والحقوق التي يطالبون بها".
وإضافة إلى إعادة غلق الفضاءات العامة والاعتقالات والتضييق على حرية الرأي والصحافة، ظلّ حقّ تنظيم وتأسيس أحزاب سياسية جديدة معلقاً، إذ إنّ عدداً كبيراً من الأحزاب الفتية التي أنشأها شباب الحراك، لم تمنح تراخيص. كما بقيت الحريات النقابية تتأرجح. لم يكن سجل الحريات في هذه الثورة السلمية ناصعاً، بل إنّ الحراك يقفل عامه الثاني على وقع "مأساة" التعذيب في مراكز أجهزة المخابرات التي صدمت الجزائريين، كما حصل مع الطالب وليد نقيش الذي أفرج عنه أخيراً، لكنها تبقى معركة أساسية يخوضها الجزائريون ضمن مسار المطالبة بالديمقراطية.