منذ ستينيات القرن الماضي؛ تحولت الجامعات إلى فاعلٍ مؤثرٍ في القضايا العالمية، خصوصًا فيتنام، وفي الثمانينيات جنوب أفريقيا، واليوم فلسطين، إذ نشهد حراكاتٍ ومسيراتٍ واعتصاماتٍ طلابيةً تجتاح العالم، مساندةً لغزّة، وتحمل شعارات "وقف الإبادة الجماعية"، بدأت في الجامعات الأميركية أولًا، "جامعة كولمبيا" تحديدًا، وتوسعت رقعتها لتشمل جامعات أوروبا واليابان وأستراليا وغيرها. السؤال الذي يطرحه كثيرون وبحقٍّ، أين الجامعات العربية من فلسطين وحرب الإبادة في قطاع غزّة؟ بل إن البعض يطرح أسئلةً حول غياب الفعل الطلابي الفلسطيني المساند في جامعات الضفّة الغربية، لماذا غابت الحراكات الطلابية الفلسطينية التي كانت عاملًا فاعلًا من فواعل الشعب الفلسطيني على مدى تاريخه وثوراته؟
ملامح من تاريخ الحركة الطلابية الفلسطينية
للإجابة على هذا السؤال يجب الإضاءة أولًا على تاريخ النضال الطلابي الفلسطيني، الذي تعود بداياته إلى فترة العشرينيات من القرن الماضي، مع إعلان الانتداب البريطاني لفلسطين، أي قبل ما يقارب مائة عامٍ من الآن. تشير الموسوعة الفلسطينية إلى أنّ أوّل مؤتمرٍ طلابيٍ فلسطينيٍ عقد في مدينة يافا عام 1936، وكان له دورٍ هامٍّ في التحريض على الكفاح ضدّ الاحتلال البريطاني، إذ شارك الطلاب مشاركةً فاعلةً في تلك الثورة، وفي تنظيم الإضراب العام والشامل، الذي عم أرجاء فلسطين، ومثّل أطول عصيانٍ مدنيٍ في التاريخ.
نشأت عقب النكبة أيضًا حركة القوميين العرب في الجامعة الأميركية في بيروت، التي كان من أبرز رموزها الحكيم جورج حبش، ورفيقه وديع حداد
يعتبر المؤسس الفعلي لاتحاد الطلاب الفلسطينيين المعاصر، وله الدور الرائد في انطلاقة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، القائد المجاهد عبد القادر الحسيني، الذي التحق أولًا بالجامعة الأميركية في بيروت وطرد منها لمواقفه السياسية، ثم انتقل إلى الجامعة الأميركية في القاهرة، حيث أسس رابطة الطلاب فيها، وأبعدَ في ما بعد عن مصر، للأسباب نفسها التي أدت إلى طرده من الجامعة الأميركية في بيروت عام 1936.
على أثر النكبة ضعفت الحركة الوطنية الفلسطينية لأسبابٍ تعلقت باللجوء، وإعلان دولة الصهاينة، وضم الضفّة الغربية إلى الأردن، وخضوع قطاع غزّة للإدارة العسكرية المصرية، وردّ فعلٍ على الهزيمة شهدت الحركة الطلابية الفلسطينية، خاصّةً رابطة الطلاب الفلسطينيين في مصر نشاطًا متزايدًا، إذ وسعت قاعدتها كي تشمل أعدادًا كبيرةً من الجامعيين الفلسطينيين، وأخذت دورها في طرح القضية الفلسطينية، وحصلت على اعتراف جامعة الدول العربية.
تشكلت الرابطة في القاهرة في جامعة الملك فؤاد (القاهرة حاليًا)، التي كانت تعرف بظروف الشعب الفلسطيني، والمخاطر التي تهدد الأمة، وأوجدت مكانًا يتجمع فيه الطلبة لممارسة النشاطات الثقافية والاجتماعية. شملت عضوية الرابطة لاحقًا طلبة الأزهر، وكان الطالب موسى أبو غوش من أوائل من ترأس الرابطة التي أصدرت مجلة (فلسطيننا)، كما كان لفتحي البلعاوي، زعيم الطلبة الأزهريين، دورٍ بارزٍ في الحركة الطلابية، لكن التطور الأهمّ بدأ مع رئاسة طالب الهندسة الفلسطيني ياسر عرفات، الذي لم يتجاوز عمره الاثنين والعشرين عامًا حينها، لرابطة الطلبة الفلسطينيين في القاهرة، التي أعلن نشأتها في الجامعة المصرية عام 1951.
من أهمّ ما ميزَ هذه الرابطة كان قيادتها وأعضاءها، والعناصر الفلسطينية الرائدة، فكان من أبرز قياداتها رئيسها الطالب ياسر عرفات، وصلاح خلف (أبو إياد)، وسليم الزعنون (أبو الأديب)، وزهير العلمي، وعددٌ آخر من الرعيل الأول لقيادة الحركة الوطنية الفلسطينية الوليدة.
كما تميزت هذه القيادات المبكرة باستقلاليتها، وأنّها من خارج أطر الأحزاب التقليدية، والمنظّمات القومية، التي كانت ترعاها بعض الأنظمة العربية، ثم تشكلت روابطٌ أخرى في الإسكندرية وأسيوط ودمشق وبيروت. ثم دعيت رابطة القاهرة في عام 1956 إلى حضور مؤتمر اتحاد الطلاب العالمي بوصفها عضوًا مراقبًا، كما تشكلت هيئةٌ إداريةٌ عام 1958 من رابطتي القاهرة والإسكندرية، وأصدرت آنذاك مجلة "صوت فلسطين". في ما بعد أسس الاتّحاد العام لطلبة فلسطين، وقد جمع الاتّحاد غالبية الطلاب الفلسطينيين، وتعزّز موقعه أكثر بعد مؤتمر عام 1962، أي قبل تأسيس منظّمة التحرير الفلسطينية بعامين، ليصبح لاحقًا أحد مؤسساتها.
بعد ذلك؛ تحولت رابطة الطلاب الفلسطينيين في مصر إلى النواة الأوّلى لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، التي قادت النضال الفلسطيني المعاصر منذ عام 1965، من خلال تبنّيها الكفاح المسلّح أسلوبًا حتميًا ووحيدًا لتحرير فلسطين.
على أثر النكبة ضعفت الحركة الوطنية الفلسطينية لأسبابٍ تعلقت باللجوء، وإعلان دولة الصهاينة، وضم الضفّة الغربية إلى الأردن، وخضوع قطاع غزّة للإدارة العسكرية المصرية
نشأت عقب النكبة أيضًا حركة القوميين العرب في الجامعة الأميركية في بيروت، التي كان من أبرز رموزها الحكيم جورج حبش، ورفيقه وديع حداد وآخرون، ومنها انبثقت لاحقًا، تحديدًا بعد نكسة عام 1967، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي خرج منها لاحقًا عديد الفصائل الأخرى، كالجبهة الديمقراطية وفدا وغيرهما.
بعد هذه البدايات في القاهرة وبيروت تفرعت الحركة الطلابية المناضلة، حتّى شملت كلّ بقاع العالم العربي والأوروبي والأميركي، وأصبحت الصوت المعبر عن الشعب الفلسطيني، وعن توعية شعوب العالم بقضيته.
الطلاب الفدائيون
تعتبر السرية الطلابية واحدةً من أبرز معالم مشاركة الطلاب الفلسطينيين في الكفاح المسلّح، بالاسم الذي يدل على الطلبة، إذ تأسست بُعيد أحداث مايو/أيّار 1973، وتحول اسمها إلى «الكتيبة الطلابية»، ثمّ إلى «كتيبة الجرمق»، التي قاتل عناصرها في معركة الطبية في بيروت (كلية الطب التابعة للجامعة اليسوعية والواقعة في إحدى نقاط طريق الشام)، ودافعوا عن حي البرجاوي، وقاتلوا بشهامةٍ في مرتفعات صنين وتلال العرقوب، وشاركوا في التصدي للإسرائيليين ولجماعة سعد حداد في جبال البطم وتلة مسعود وتلة شلعبون وغيرها من المواقع الملتهبة، ومن أبرز قياداتها منير شفيق ومعين الطاهر.
الطلاب قادة الانتفاضة الأولى عام 1987
لعبت الحركة الطلابية في الداخل الفلسطيني المحتل دورًا أساسيًا في قيادة انتفاضة عام 1987، إذ شارك الطلبة في المسيرات والمظاهرات والاعتصامات، وكذلك في المناسبات الوطنية والفصائلية، وكان للحركة الطلابية دور مهم في التصدي لممارسات الاحتلال وسياساته ضدّ أبناء الشعب الفلسطيني. وقد سقط شهيد الحركة الطلابية الأول في جامعة بيرزيت، الشهيد شرف الطيبي في 21/11/1984، وهو من مخيم خانيونس، وفي 4/12/1986 استشهد كلٌّ من الطالب صائب ذهب من مدينة غزّة، وزميله الطالب جواد أبو سلمية من خانيونس، بعد خروج طلبة جامعة بيرزيت في مظاهرةٍ حاشدةٍ للتنديد بجرائم الاحتلال وسياساته ضدّ أبناء شعبنا. وقد تحول العديد من قادة الحركات الطلابية في الداخل المحتل إلى قياداتٍ ورموزٍ في منظّمة التحرير وفصائلها، والسلطة الفلسطينية لاحقًا، من أشهرهم الأسير القائد مروان البرغوثي.
كما كانت "الكتلة الإسلامية" الذراعَ الطلابيَ لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" ضمن السياق التاريخي المؤسّس للحركة. وقد أشرف عددٌ كبيرٌ من قادتها على تحويل بنية الإخوان المسلمين إلى بنية حركةٍ شبيهةٍ في تركيبتها ببنية فصائل منظّمة التحرير، وأسّسوا أقسام الحركة المختلفة: الأمنيّة والعسكريّة والسياسيّة والإغاثيّة والإعلاميّة، وقادوها في ما بعد، منهم: جمال منصور، وجمال سليم، وصالح العاروري، وسعيد صيام، ويحيى السنوار، وخالد مشعل، وإبراهيم حامد.
أثر اتفاق أوسلو على الحركة الطلابية
أثرت "اتفاقية أوسلو عام 1993-1994م" سلبًا على الحركة الطلابية الفلسطينية، بل جمدت عمل الاتّحاد العام لطلبة فلسطين، الذي لم يعد يعقد مؤتمراته العامة بعد اتّفاق أوسلو إلّا مرّةً واحدةً (أخر مؤتمر عقد في بغداد عام 1989وترتيبه كان العاشر)، كما أنّ كلّ قيادات الاتّحاد اليوم هم من الكهول، الذين تجاوزت أعمارهم الستين عامًا، الأمر الذي يطرح هذا سؤال: لماذا أنهى اتّفاق أوسلو الاتّحادات الشعبية الفلسطينية أو قزمها؟ الجواب المؤكد على ذلك هو: بسبب تهميش دور منظّمة التحرير الفلسطينية ذاتها، وجعلها إحدى إدارات السلطة الوطنية الفلسطينية، بدل أن تكون العكس.
لعبت الحركة الطلابية في الداخل الفلسطيني المحتل دورًا أساسيًا في قيادة انتفاضة عام 1987
أدّى تحجيم المنظّمة، تلقائيًا، إلى تحجيم مؤسساتها، ومنها مؤسسة اتّحاد الطلاب الفلسطينيين، الذي كان يمثّل كلّ قطاعات الشعب الفلسطيني الطلابية، في الداخل واللجوء والشتات، لذلك لا يمكن اختصار أهدافه ضمن سلطةٍ أو دولةٍ في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، فهذا نقيض فكر الاتّحاد الذي مُثل الشتات فيه بأكبر كتلةٍ على الدوام، بل هم مؤسسوه، ومن دون العودة إلى هدف الشعب الفلسطيني الأصلي، فلسطين كاملة " من النهر إلى البحر"، لا يمكن إعادة أحيائه وتفعيله من جديد، فهو يمثّل كلّ طلاب فلسطين من النهر إلى البحر.
لكن هذا لا يعني أنّ بغياب الاتّحاد العام لطلبة فلسطين انتهى دور الطلاب الفلسطينيين في الشتات، إذ إنهم يعبرون عن أنفسهم من خلال روابط ومنظّماتٍ وحراكاتٍ أخرى، عالميةٍ ومحليةٍ، أهمّها الـ"BDS" "حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها".
اليوم نرى الدور المؤثر للطلاب الفلسطينيين في انتفاضة الجامعات الأميركية والأوروبية، فعلى الرغم من أنّهم ليسوا جسمًا منظّمًا ضمن أيّ اتّحادٍ عام، لكن لديهم تجمعاتٌ داخل كلّ جامعةٍ على حدة، ويمارسون دورهم الوطني بالتعريف بقضيتهم أينما وجدوا، في حين تبقى جامعات فلسطين حبيسة مواقف الفصائل المتصارعة على السلطة الوهمية في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، التي فقدت دورها الأساس عاملًا وحده، وبدل أن تفرز هي القيادات الوطنية وتمثّل عامل الضغط والتغيير، تحولت المنظّمات الطلابية المحلية إلى أداةٍ للفصائل، تستخدم في التباري والردح اللاوطني، والدفاع عن مواقف القيادات الرسمية وتبنيها.
مع انتفاضة الجامعات العالمية من أجل فلسطين يجب إعادة الاعتبار إلى الاتّحاد العام لطلبة فلسطين، بعيدًا عن اتّفاقية أوسلو التي انتهت بالفشل فعليًا، لكن ذلك لن يتم إلّا بإعادة الاعتبار إلى منظّمة التحرير الفلسطينية، وإعادة الاعتبار إلى المنظّمة لا يمكن أن يتم إلّا بالخروج من أتّفاق أوسلو وملحقاته، كونه نقيض المنظّمة وميثاقها وأهدافها، فلا علاقة لأوسلو بالتحرير، ولا علاقة للسلطة بحقّ العودة وتطبيقه، فعليًا؛ ألغت السلطة هدفي التحرير والعودة اللذين هما أساس إنشاء المنظّمة، بسلطةٍ تحت الاحتلال تهدف إلى إنشاء الدولة المستقلة على حدود عام 1967، يتحكم بها الصهاينة مالًا وسلوكًا، ويسعى الصهيوني والأميركي، وبعض النظام الرسمي العربي، إلى تحويلها إلى أداة قمعٍ للنضال الوطني والتحرري، وإذا كان هذا هو الحال قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول وتبعاته فهل سيبقى الحال كما هو بعد كلّ ما حصل؟ لا أظن ذلك، مع قناعتي أن ذلك لن يحصل في القريب، بل سيأخذ وقتًا لكنه لا شك قادمٌ.