تقليدياً، تتوحد القبيلة الإسرائيلية في أوقات الأزمات والحروب، إلا أن هذه الوحدة تبدأ بالتآكل والتصدع مع مرور الوقت وتزايد الخسائر، البشرية والمادية والمالية، خصوصاً في حال التعثر في تحقيق إنجازات عسكرية. وفي الحرب الحالية على غزة، بدأت الانتقادات والأزمات تعلو بعد فترة قصيرة نسبياً من بداية الحرب.
لغاية الآن كان تركيز الإعلام الإسرائيلي على الأضرار البالغة التي لحقت بالبلدات الإسرائيلية المحاذية لحدود غزة، كجزء من مسعى إسرائيل لتجنيد وتجييش المجتمع والرأي العام الدولي إلى جانبها، وتكتمت المؤسسة الأمنية على حجم وعمق الضرر العسكري الذي لحق بمعسكرات الجيش على حدود غزة.
هذا التكتم على حجم وعمق الضرر العسكري قد يفسر التردد في اتخاذ القرار العسكري الحالي، والوعيد بالانتقام الشديد الذي تطلقه القيادات العسكرية، ووزير الأمن وصنّاع القرار. كما يفسر تجند المجتمع والإعلام والمحللين للمجهود الحربي لغاية الآن، من دون إطلاق انتقادات جدية تجاه إدارة الحرب وأداء الجيش، بخلاف الانتقادات الحادة التي وُجّهت للمؤسسة الأمنية بسبب الإخفاق الكبير.
بدأ الإعلام الإسرائيلي يتحدث عن وجود خلافات جدية في عملية صناعة القرار العسكري
مع دخول الحرب على غزة أسبوعها الثالث، بدأت تتكشف بوادر خلافات وتصدعات في إدارة الحرب، وداخل الحكومة، وفي المجتمع الإسرائيلي. الأبرز هي الخلافات بين المستوى العسكري ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حول إدارة الحرب والخطوات الميدانية، منها البدء بالحرب البرية والتعامل مع الجبهة الشمالية.
وتُلاحظ حالة عدم ثقة لدى قطاع الأعمال بإدارة الحكومة للملف الاقتصادي، وامتعاض لدى النازحين من منطقة الجنوب بسبب تردي الظروف المعيشية وأداء الوزارات.
بداية الخلافات في اتخاذ القرار العسكري
بدأ الإعلام الإسرائيلي يتحدث بشكل واضح مع بدء الأسبوع الثالث من الحرب، عن وجود خلافات جدية في عملية صناعة القرار العسكري في إسرائيل.
بدأ ذلك بمعلومات خجولة حول خلاف بين نتنياهو ووزير الأمن يوآف غالانت حول اقتراح وزير الأمن وقيادة الجيش بتوجيه ضربة استباقية في جبهة الشمال، أي توجيه ضربة لـ"حزب الله"، قبل البدء في المعركة البرية في غزة، لمنعه من المبادرة إلى عمل عسكري في حال بدأت المعركة البرية.
بعد ذلك بدأت ترشح معلومات عن خلافات أوسع حول إدارة المعركة ومحاولات نتنياهو لتأخير الحملة البرية، ولو كان ذلك بسبب طلب الإدارة الأميركية بغية محاولة التوصل إلى صفقة ما بموضوع الأسرى، أو بسبب حاجة الولايات المتحدة لترتيب أوراقها العسكرية في المنطقة. ومن ثم أوضح الإعلام وجود أزمة ثقة بين نتنياهو والقيادات العسكرية وهي التي تعيق بدء المعركة البرية.
ونشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت"، الاثنين الماضي، معلومات عن "أزمة ثقة" بين نتنياهو والجيش الإسرائيلي على خلفية "تأخير" الاجتياح البري لقطاع غزة.
وتسود هذه الأزمة داخل "كابينيت الحرب" وكذلك داخل الكابينيت الموسع للشؤون السياسية والأمنية. وليل الاثنين نشرت وسائل إعلام أن رئيس الوزراء يستعين بقائد الأركان السابق غابي أشكنازي كمستشار عسكري لإدارة الحرب، بسبب الأزمة القائمة مع وزير الأمن يوآف غالانت.
الأزمات لا تقتصر على عدم ثقة نتنياهو بقيادات الجيش ووزير الأمن، بل هناك بوادر لخلافات سياسية داخل حكومة نتنياهو. على ما يبدو بدأ وزراء حزب "الليكود" باستشعار النتائج السياسية للإخفاق العسكري الكبير على حكومة نتنياهو والحزب، وشاهدوا الثقوب في سفينة هذه الحكومة، لذلك بادروا إلى فك الارتباط بين مصيرهم السياسي ومصير نتنياهو، الذي حُسم على ما يبدو.
فقد نشر موقع "يديعوت"، يوم الاثنين، أن هناك ثلاثة وزراء على الأقل يدرسون مسألة مواصلة مسارهم في الحكومة وإمكانية الاستقالة من الحكومة، اثنان منهم ليسا أعضاء في الحكومة المصغرة، نتيجة الإخفاق الكبير والحالة السياسية والأمنية التي آلت إليها إسرائيل بسبب أداء الحكومة ورئيس الوزراء.
وهو ما يشير إلى هشاشة الوضع السياسي الحالي وتراجع مكانة نتنياهو، خصوصاً على ضوء تحميله المسؤولية الكاملة للإخفاق الكبير في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي.
من المتوقع أن تتسع التصدعات والخلافات السياسية داخل المؤسسة السياسية والعسكرية مع استمرار الحرب، وربما توسعها، ليس فقط بسبب الإخفاق الكبير، والإدارة العسكرية، لكن أيضاً نتيجة تخبط الحكومة في إدارة الملفات المدنية، منها الملف الاقتصادي وملف التعامل مع الجبهة الداخلية والأعداد الكبيرة من النازحين الإسرائيليين.
بداية أزمة اقتصادية
إلى جانب الامتعاض حول إدارة الجانب العسكري والتوتر السياسي، هناك بوادر جدية لبداية أزمة اقتصادية في إسرائيل. فبالإضافة إلى تكاليف الحرب المباشرة والخسائر المادية في بلدات الجنوب، وكلفة تجنيد أكثر من 360 ألف جندي احتياط، بدأت تتعالى الانتقادات حول إدارة الحكومة للملف الاقتصادي، خصوصاً تجاه وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، المتهم بترهل الإدارة الاقتصادية والبطء في التعامل مع الأزمة الاقتصادية.
نتيجة شلل الحركة الاقتصادية بالكامل في منطقة الجنوب، وتعطلها في منطقة الشمال، وتراجعها في غالبية المناطق الإسرائيلية، أعلنت شركات إسرائيلية كبيرة في مجال المبيعات في بداية الأسبوع قرارها إعطاء عشرات آلاف الموظفين عطلة غير مدفوعة الأجر، بسبب تراجع دورة المبيعات. وهو مؤشر أولي ومباشر لبدايات ركود اقتصادي.
نتيجة ذلك بدأت تعلو أصوات عديدة توجه أصابع الاتهام لوزارة المالية بسبب عدم قدرتها على التعامل مع المستجد الحالي. وقد عقدت لجنة المالية في الكنيست اجتماعاً خاصاً، الاثنين الماضي، لمناقشة التدابير الاقتصادية وأدوات تعويض قطاع الأعمال نتيجة الحرب وتراجع الاستهلاك وتوقف أجزاء كبيرة من الاقتصاد.
وقد تغيّب عن الاجتماع كبار موظفي وزارة المالية ووزير المالية، بينما شارك فيه وزير الاقتصاد نير بركات الذي أعلن عن معارضته للمعادلة التي عرضتها وزارة المالية لتعويض قطاع الأعمال. وقد وجّه العديد من رجال الأعمال وأصحاب الشركات الكبرى المشاركين في الاجتماع الانتقادات لمعادلة وزارة المالية المقترحة للتعويض، وادعوا أن الحكومة ووزارة المالية فشلتا في التعامل مع الإسقاطات الاقتصادية للحرب لغاية الآن.
بدأ وزراء حزب "الليكود" باستشعار النتائج السياسية للإخفاق العسكري الكبير
من الواضح أنه كلما طال أمد الحرب سيزداد الضرر الاقتصادي المباشر، والضرر بعيد المدى، خصوصاً على قطاع الاستهلاك وارتفاع البطالة وتراجع في دخل الحكومة من الضرائب، ناهيك عن الاستمرار في تراجع أسواق الأسهم في إسرائيل مع بلوغ تراجع المؤشرات الأساسية في بورصة تل أبيب لغاية الأسبوع الثالث من الحرب قرابة 11 في المائة، واستمرار ارتفاع سعر صرف الدولار.
يضاف إلى ذلك عدم ثقة قطاع الأعمال وكبريات الشركات بالإدارة الاقتصادية والمالية للحكومة، مع تداول معلومات عن احتمال قرار شركات الائتمان العالمية باتخاذ قرار بخفض الائتمان لإسرائيل.
فشل الحكومة في معالجة الجبهة الداخلية
جانب آخر من فشل الحكومة الإسرائيلية في التعامل مع الأزمة، هو التعامل مع الجبهة الداخلية والعدد الكبير من النازحين الذين خرجوا من بلدات الجنوب، وقسم أصغر من بلدات الشمال الحدودية.
لم تشهد إسرائيل في السابق أعداداً كبيرة من النازحين أوقات الحرب، ونجحت في التعامل مع حالات إجلاء صغيرة من الجنوب أو الشمال بشكل منفصل. إلا أن الوضع الراهن غير مسبوق بحيث هناك حاجة لإجلاء سكان على جبهتين وبأعداد كبيرة جداً.
إثر هذا تزداد الانتقادات حول إدارة الحكومة لهذا الملف، والأدق عجز الوزارات الحكومية عن تأمين احتياجات هؤلاء النازحين، ما اضطر إلى دخول مؤسسات وجمعيات أهلية لسد الحاجة والفجوات. وقد جندت هذه المؤسسات والمبادرات الخاصة مئات ملايين الشواكل لغاية الآن لتوفير أماكن سكن وأغذية ومعدات.
الأصوات المنتقدة لأداء الحكومة في هذا الجانب ستزداد مع تواصل المعارك وإطالة أمدها، ومع اتساع رقعة الجبهات، وهو ما سيشكل عامل ضغط إضافي على متخذي القرار والحكومة.
نتنياهو في مأزق أمني وعسكري وسياسي واضح، ومعه الحكومة الإسرائيلية. فبعد الأسابيع الأولى للحرب والمساحة التي منحت للحكومة للتعامل مع الأزمة وإدارتها، بدأت أصوات النقد تتعالى في الأيام الأخيرة، كاشفة عن أزمة ثقة بين المؤسسة السياسية والعسكرية، وبين قطاع الأعمال والحكومة، وبين النازحين والوزارات المعنية.
ومع إطالة مدة الحرب وإمكانية توسعها، وازدياد الخسائر المادية والبشرية ستزداد هذه الأزمات وتتعمق، وسيكون عنوانها واضح، وهو نتنياهو وحكومته.