تسبّبت الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، التي دخلت في 15 يوليو/تموز الحالي شهرها الرابع، في سقوط عدد كبير من القتلى المدنيين، وبينما تحوّلت العاصمة الخرطوم إلى ساحة حرب، فشل السكان في دفن الكثير من أهلهم وجيرانهم الذين سقطوا ضحية المعارك، بينما تمكنوا من مواراة البعض داخل منازلهم أو في الشوارع العامة بعد تعذر نقلهم إلى المقابر.
كان القتال الذي اندلع في 15 إبريل/نيسان الماضي، مفاجئاً لسكان الخرطوم، والذين وجدوا أنفسهم خلال ساعات وسط نيران المدافع والقذائف التي لم تترك مكاناً إلا وطاولته بالخراب، فسقط الكثيرون قتلى وجرحى، وتوقفت المستشفيات وانقطع الماء والكهرباء، ومن لم يمت بالرصاص فارق الحياة بالمرض والجوع.
وتسبّبت الاشتباكات العنيفة في منع السكان من دفن قتلاهم بشكل لائق في أي مقبرة، فاضطروا إلى دفنهم داخل منازلهم أو في الشارع بالقرب منها، والبعض أصبحت ساحة منزله مقبرته المفتوحة وتعذّر حتى دفنه تحت التراب.
معارك عنيفة يدفع المدنيون ثمنها
كان حي بري الذي يقع على مقربة من القيادة العامة للجيش في الخرطوم، أحد أكثر الأحياء التي شهدت معارك عنيفة، وقصفاً بلا هوادة منذ اليوم الأول للاشتباكات، وقُتل عدد كبير من المواطنين هناك. وبينما تمكن بعض السكان من دفن ذويهم داخل منازلهم وأمام أبوابها، فشل آخرون في فعل ذلك وتركوا الجثث داخل المنازل أو في الشارع، والكثير من هذه الحالات كانت في الأيام الأولى للمعارك ولم يعلن عنها، ولم تتمكن منظمة الهلال الأحمر من الوصول إليها لحدة الاشتباكات.
كان حي بري الذي يقع على مقربة من القيادة العامة للجيش في الخرطوم، أحد أكثر الأحياء التي شهدت معارك عنيفة
من بين الحالات الطالب في جامعة الخرطوم خالد عبد المنعم، الذي لقي مصرعه في إبريل الماضي بعد إصابته بالرصاص داخل حرم الجامعة، وفشلت محاولات الطلاب لنقله ودفنه في الخارج، خصوصاً أن المقر الرئيسي لجامعة الخرطوم يقع قرب القيادة العامة للجيش، التي شهدت خلال الأيام الأولى للحرب اشتباكات عنيفة، فتم دفنه في الميدان الغربي داخل الجامعة.
كما تم دفن الطبيبة مجدولين يوسف وشقيقتها، في مايو/أيار الماضي، في حديقة منزلهما في الخرطوم، لتعذر دفنهما في المقبرة بسبب خطورة الوضع الأمني. ووُجدت يوسف وشقيقتها تحت أنقاض منزلهما بمنطقة العمارات في الخرطوم، وهي منطقة قريبة من مطار الخرطوم حيث دارت أعنف المعارك.
وكذلك الموسيقي وعازف الكمان المعروف في السودان، خالد سنهوري، والذي توفي إثر هبوط حاد في الدورة الدموية حسب لجان مقاومة حي الملازمين في أم درمان، حيث نشأ وترعرع. وبسبب الوضع السيئ الذي يشهده الحي الذي تسيطر عليه قوات الدعم السريع، تعذّر نقله إلى المستشفى، وبعد وفاته فشل جيرانه في الخروج به إلى حيث المقابر، فقاموا بدفنه أمام منزله.
واضطر أهالي حي العشرة وسط الخرطوم، الذي يشهد أوضاعاً إنسانية صعبة، إلى دفن المواطن أحمد علي الذي توفي بسبب المرض في ميدان الحي، لعدم قدرتهم على الوصول به إلى أي مقبرة. وكذلك فعل أهالي حي المسالمة الذي تسيطر عليه قوات الدعم السريع بمدينة أم درمان، إذ اضطروا إلى دفن الذين سقطوا بالرصاص أو توفوا بالمرض في الشارع بالقرب من منازلهم.
وفي حي جبرة حيث تقع منازل قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، اضطر السكان للمغادرة بعد احتدام الاشتباكات، وقُتل جراء ذلك وأصيب عدد من المواطنين من بينهم أسرة تعرّض منزلها للقصف، فمات منهم ثلاثة وأصيب أربعة بشكل بالغة، وتم دفن الثلاثة بعد يومين داخل المنزل.
وقال جار هذه الأسرة محمد أنس لـ"العربي الجديد"، إنه فجأة وعند الصباح الباكر ضربت قذيفة المنزل وهدمته فوق الجميع، فركضوا لنجدتهم، ليجدوا الأحياء منهم في حالة سيئة، والبقية توفوا حرقاً أو تحت الأنقاض. وأوضح أن أربعة منهم وبينهم طفل ما زالوا في المستشفى، بينما قُتلت امرأة وشابان. وأضاف أنه بعد نحو يومين اضطر الجيران لإخراج الموتى ودفنهم داخل المنزل، لأن الحركة في الحي كانت خطيرة لاستمرار الاشتباكات والقصف الجوي.
قصص لضحايا الحرب السودانية
من جهته، قال عضو لجان المقاومة في الخرطوم شرق، الناشط المجتمعي خالد حسين، لـ"العربي الجديد"، إن الكثير من المواطنين قُتلوا جراء الرصاص الكثيف وسقوط القذائف على منازلهم التي تقع في منطقة اشتباكات خطيرة شرق وغرب شارع المك نمر القريب من القيادة العامة، مبيناً أن إحدى الأسر هناك فقدت ثلاثة من أفرادها إلى جانب إصابة آخرين بقذيفة استهدفت منزلهم.
وروى حسين قصة امرأة مسنة تدعى علوية يقع منزلها بالقرب من السفارة التركية، ومعها زوجها، عانيا من انقطاع الماء والكهرباء، كما أنها مقعدة ويصعب خروجها من المنزل، وعندما خرج زوجها من المنزل بسيارته تعرض لإطلاق نار كثيف، وأصيب بعدد من الرصاصات، وتم بعدها إسعافه ولم يعد إلى المنزل، فيما المرأة المسنة أصبحت وحدها. وتابع أن أعضاء بعثة دبلوماسية كانوا عالقين أيضاً بالقرب من منزلها، وتواصلوا مع فرد من أسرتها ووافقوا على إخراجها معهم، لكن عندما دخلوا المنزل وجدوها قد فارقت الحياة، ولم يستطيعوا بعد ذلك القيام بأي شيء سوى تركها والمغادرة.
كما أشار حسين إلى قصة رجل آخر يدعى إسماعيل كان يسكن في شارع الزبير باشا وسط الخرطوم وهي منطقة خطيرة أيضاً، قُتل خلال عودته للمنزل برفقة ابنه الصغير لجلب بعض الأشياء، فتعرضا لإطلاق نار ما أدى إلى مقتل الرجل قرب المنزل، فلم يستطع ابنه فعل شيء سوى سحبه إلى المنزل وتركه في الفناء والنجاة بحياته. وحسب حسين هناك الكثير من المفقودين في الحي لا يعلم أحد إن كانوا أحياء أو أمواتا، وحتى جمعية الهلال الأحمر التي تواصلوا معها غير قادرة على دخول تلك المناطق، خصوصاً شوارع البلدية والزبير باشا والمك نمر.
وبعد تزايد الجثث في الشوارع والمنازل نشرت نقابة أطباء السودان توجيهات للتعامل مع الجثث في وقت الحرب. وصدرت التوجيهات من استشاريَي الطب الشرعي هاشم فقیري وأشواق الطاهر، اللذين طالبا لجان المقاومة وأهالي المناطق الذين يتعاملون مع الجثث بتسجيل كل البيانات والتواصل مع اللجنة القانونية المختصة بذلك.
كما وجّه الطبيبان بوضع رقم مخصص لكل جثة والرقم نفسه يُكتب على الشاهد (في حالة عدم التعرف على المتوفي) مع كتابة مكان الوفاة، وإن كانت هناك أوراق ثبوتية يتم وضعها مع استمارة مخصصة لكل جثة، وعدم غسل الجثامين التي وصلت لدرجة بعيدة من التحلل، واستخدام كيس الجثث أو مشمع وتحديد مكان الدفن عند التبليغ.
المنسق الإعلامي للهلال الأحمر السوداني: دفنا في الخرطوم 123 جثة، وما يهمنا هو معلومات عن المتوفى والهوية
وقال المنسق الإعلامي لجمعية الهلال الأحمر السوداني هيثم إبراهيم، لـ"العربي الجديد"، إن الهلال الأحمر كجزء من الحركة الدولية للصليب والهلال الأحمر، هدفه الأساسي هو كرامة الإنسان حياً أو ميتاً، وإكرام الميت هو دفنه. وأوضح أن عمليات الدفن التي يقوم بها الأهالي غير قانونية، وأن إدارة الجثث التابعة للهلال الأحمر تعمل في الخرطوم بالتنسيق مع الأجهزة الرسمية، ولديها رصد واستمارات للبيانات الخاصة بالمتوفين مجهولي أو معروفي الهوية، ومنطقة الجثة ووقت رفعها.
وأكد إبراهيم أنهم دفنوا في الخرطوم 123 جثة، وأن ما يهمهم هو معلومات عن المتوفى والهوية، بينما سبب الوفاة من اختصاص جهات أخرى. وأشار إبراهيم إلى أن هذا العمل يتم في مناطق محددة، وكان في خططهم مسح كل الخرطوم، ومن بينها مناطق العمارات وأحياء الخرطوم 1,2,3، لكن عدم وجود مسارات آمنة، وتجدد الاشتباكات حال دون ذلك، منوهاً إلى أن هناك موتى في البيوت، لكن عددهم غير معروف.
وذكر أن سيارة خاصة بهم تعرضت أواخر يونيو/حزيران الماضي للاختطاف من قبل أشخاص مسلحين في منطقة سوبا، مؤكداً أن ذلك تسبّب في توقفهم عن جمع الجثث، إلى جانب انعدام المسارات الآمنة واستمرار الاشتباكات، داعياً جميع الأطراف لاحترام شارة الهلال الأحمر، وتسهيل مهمة المتطوعين.