مثلت الحرب على غزّة مختبرًا للمواقف العربية الرسمية، وكذلك مواقف الشعوب، ومدى اتساقها مع الأدوار المفترضة لمواجهة العدوان. على المستوى الشعبي، ظهر حراكٌ داعمٌ للقضية الفلسطينية، في سياقاتٍ غير محفزةٍ، بينها على مستوى تنظيمي، ضعف البنى السياسية والنقابية، وحصارها من نظمٍ سلطويةٍ حاكمةٍ تشل فاعليتها.
سياسيًا، انتهجت النظم في محاولاتٍ متكررةٍ، نهجًا يفصل القضية الفلسطينية عن محيطها العربي، ويستهدف تهيئة الرأي العام لقبول اتّفاقات التطبيع مع دولة الاحتلال، ودمجها في المنطقة، وتبرير ذلك عبر ما تتصوره النظم من عوائد تنمويةٍ قد تطوع الشعوب، وتقبل عبرها أوهام تحقيق سلامٍ وتنميةٍ بالتعاون مع المحتل، ويستثمر ذلك خفوتًا لأصداء القضية الفلسطينية عربيًا، والتي تمر بمرحلةٍ صعبةٍ في تاريخها.
لكن رغم هذه التحديات، برزت مقاومة الشعوب للعدوان، في حراكٍ ممتدٍ في أغلب دولة المنطقة، مع تفاوتٍ في مستوياته واتجاهاته، لكنه كشف إجمالًا عن مؤشراتٍ عدّةٍ، لبقاء الانتماء العربي لدى قطاعاتٍ واسعةٍ من الجمهور في مواجهة نزعات الانكفاء القطري، كما أوضح حالة الانحياز لقضية الشعب الفلسطيني، ونظرة قطاعاتٍ واسعةٍ على أنّها جزءٌ من المواجهة مع المحتل، هذا بجانب البعد الإنساني، الذي تتشاركه حركة التضامن العالمي مع فلسطين، والوعي بجذورها.
من المهمّ استمرار حملات المقاطعة الاقتصادية والسياسية والثقافية، مع وضع رؤيةٍ استراتيجيةٍ لكيفية المواجهة الشعبية مع العدو على المدى الطويل
أشكال التضامن أدواتٌ شعبيةٌ لمواجهة العدوان
اتخذ الحراك مظهرين أساسين، أولًا الموقف السياسي المعبر عن رأيٍ عامٍ مساندٍ للشعب الفلسطيني، تضمن التظاهرات والتجمعات، وحملات المقاطعة التي شملت كلّ الدول العربية، في حين حضر الإضراب، كوسيلة تعبيرٍ واحتجاجٍ في الأردن ولبنان واليمن، هذه الأشكال التضامنية، تتصل بموقف الشعوب، واتجاهات الرأي العام، الذي يطالب الحكومات باتخاذ استجاباتٍ متناسبةٍ مع العدوان، ولا ينفصل عن تفاعلاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ.
ثانيًا: تعبئة الجهود الإغاثية والإنسانية العاجلة، وحملات جمع التبرعات، التي كانت الأداة الأكثر انتشارًا إلى جانب المقاطعة في مجمل البلدان العربية، حتّى تلك التي لم تعلن حكوماتها خطاباتٍ مناسبةً ضدّ العدوان.
تبلور الحراك مؤسسيًا، عبر أنماطٍ تنظيمية، ارتبط أغلبها بقوىٍ سياسيةٍ ونقابيةٍ ومؤسسات المجتمع المدني، ودشنت تلك الهياكل، مبادراتٍ ولجان مناصرة الشعب الفلسطيني، وحملات الإغاثة، والدعم السياسي، إلى جانب حملات مناهضة التطبيع، وامتدت هذه الأنماط شاملةً كلّ البلاد العربية تقريبًا، وبينها دولٌ وقعت اتّفاقيات أبراهام.
ساحات التظاهر تقاوم التطبيع
كانت التظاهرات وسيلة تضامنٍ متكررٍ، خاصّةً مع مجموعتين من الدول، أولًا الدول التي تمثّل ساحة مواجهةٍ مع الاحتلال، تتضمّن العراق واليمن ولبنان، والأخيرة تشترك مع الأردن ومصر في أنّها دولٌ تقع الحرب على حدودها، ما يشكل جغرافيا سياسية تتأثر بتبعات الحرب، وتتفاعل شعوبها معها حتّى مع تفاوتٍ نسبيٍ بينها، وتجعلهم ضمن سياقات المواجهة، نظرًا إلى موقعهم الجغرافي، هذا إلى جانب كونهم تاريخيًا ضمن دول المواجهة.
بينما كانت التحركات في اليمن والمغرب حاشدةً من حيث أعداد المشاركين، كانت الأردن الأكثر تكرارًا في عدد التظاهر والمسيرات واتساعها جغرافيًا، واستوعبت سلطتها التظاهر، وسمحت به بعيدًا عن الحدود مع إسرائيل، ومحيط سفارتها وسفارة واشنطن، لكن تخوفت من الإضراب العام. كانت الأردن عامّةً إحدى نقاط الفاعلية الشعبية المهمة عربيًا، خلال مئة يومٍ من الحرب، مسجلةً آلاف المسيرات.
لا ينفصل الحراك الأردني عن طرح البرلمان اتّفاقيات التطبيع للمراجعة، بما فيها مشاريع التعاون في ملف المياه، مشروع الازدهار، مبادلة الطاقة بالمياه المحلاة من إسرائيل، وهو ما دفع نحو البحث عن بدائل وطنيةٍ، وأيضًا تعزيز التعاون مع دول الإقليم، وأطرافٍ دوليةٍ بمعزلٍ عن الاحتلال.
شهدت مدن اليمن تظاهراتٍ واسعةً، خاصّةً في صنعاء وتعز ومأرب، وهي تتكامل مع مواجهاتٍ يخوضها الحوثيون في البحر الأحمر، لمنع سفن الاحتلال من العبور، ردًا على منع وصول المساعدات للقطاع، واستمرار الحرب على غزّة.
في مشهدٍ لافتٍ ومهمٍ شهدت دول الخليج تظاهراتٍ تضامنيةً، خصوصًا في قطر والكويت، ولم تخلو شوارع البحرين من التضامن، وإعلان رفض التطبيع، كما نشطت جمعيات الإغاثة في معظم دول الخليج، بما فيها الإمارات والسعودية، ورفعت أصواتٌ ضدّ التطبيع.
انتهجت النظم في محاولاتٍ متكررةٍ، نهجًا يفصل القضية الفلسطينية عن محيطها العربي، ويستهدف تهيئة الرأي العام لقبول اتّفاقات التطبيع مع دولة الاحتلال
شهدت كنائسٌ فاعلياتٍ ونداءاتٍ من أجل السلام، ضمن تضامن مكونات المجتمع ومؤسساته، وقرعت أجراسها، إلى جانب بياناتٍ من شيخ الأزهر موجهةٍ للشعوب والحكومات لمساندة الشعب الفلسطيني، كما شهد الجامع الأزهر، والمساجد الكبرى في البلدان العربية، تظاهراتٍ.
هذا إلى جانب تضامن تجمعاتٍ مهنيةٍ مع الشعب الفلسطيني، ورفضها التطبيع، لكن لم يلحظ عمل جبهوي على مستوى دول الإقليم، سواء بين التكوينات الحزبية والنقابية، أو مؤسسات المجتمع المدني، رغم وجود تشكيلاتٍ عربيةٍ، كاتّحاد المحامين والصحفيين والأطباء، وتحالفات مؤسسات المجتمع المدني.
تكررت في ساحات ملاعب كرة القدم مظاهر التضامن، إلى جانب الرفض المتزايد لممثلي الاحتلال في فاعلياتٍ رياضيةٍ، وأصدر اتّحاد الكرة الأردني نداءً للاتحاد الدولي، يدعو إلى حرمان لاعبي الاحتلال من المشاركة في الفاعليات الدولية، عقابًا على عنصرية دولتهم، وارتكبها جرائم حربٍ في غزّة، هذا إلى جانب تضامنٍ من مشجعي بعض الفرق الرياضية، شهدته ساحات الملاعب، والأندية في دولٍ غير عربيةٍ.
مطالب وشعارات التظاهرات
ركزت شعارات المتظاهرين ومطالبهم على وقف أعمال الإبادة الجماعية، القتل والتجويع والحصار والتهجير، إلى جانب مساندة المقاومة، والمطالبة بدعم صمود أهالي القطاع بالسبل كافّةً، وإدانة مواقف حلفاء دولة الاحتلال، خاصّةً الولايات المتّحدة.
كان مطلبا وقف الحرب، وإيصال أعمال الإغاثة عنصرين مشتركين بين كلّ التظاهرات، وتشكلت مؤسسيًا لجانٌ للتضامن، ومبادراتٌ لنصرة الشعب الفلسطيني، ولمواجهة التطبيع.
تزامنت بداية الحراك مع استدعاء دولٍ عربيةٍ عدّةٍ لسفرائها لدى الاحتلال، كما البحرين، والأردن، الأخيرة طالبت بعدم إعادة سفير الاحتلال إلى عمان، بعد مغادرته، كما جرى في مصر والمغرب. كذلك؛ نصحت دولة الاحتلال رعاياها؛ بعد أسبوعين من العدوان، بعدم السفر للدول الثلاث، تفاديًا لغضبٍ شعبيٍ تجاههم، وهو ما قلص السياحة الإسرائيلية للأردن ومصر، خصوصًا بعد واقعة قتل شرطيٍ مصريٍ لسائحين إسرائيليين، بعد رفض أحدهما إنزال علم إسرائيل من مزار عامود السواري في الإسكندرية.
دلالات ورسائل الحراك
أظهرت مواقف الشعوب العربية رفضًا للحرب، وتضامنًا مع غزّة، وفخرًا بنضال الفصائل الفلسطينية، ومواجهتها للغزو البري، وطالبت التحركات متخذي القرار بتقديم سبل الدعم السياسي والإغاثي، وفك الحصار عن القطاع، وضمان وصول المساعدات كأجراءٍ عاجلٍ، وغيرها من المطالب، كوقف أشكال التعاون مع إسرائيل كافّةً وعزلها، وإعادة النظر في اتّفاقيات السلام.
لا ينفصل الحراك العربي عن حركة تضامنٍ عالميةٍ تتجدد وتتسع، وتحمل؛ بفضل الفرصة المعرفية، وعيًا بما يجري، وتوصيفًا وانحيازًا إنسانيًا
استخدما الحراك الرموز بكثافةٍ، من الكوفية إلى العلم حتّى الأزياء، وانتشرت الشعارات والأغاني التي تؤكد على عدالة القضية الفلسطينية، وصولًا إلى قاموس اللغة، واستخدام رموز فصائل المقاومة، على وسائل التواصل، وأيضًا الملابس، ذلك كلّه ضمن أشكال التفاعل الرمزي عميق الدلالة، يحمل في مضامينه التعاطف الإنساني، ومشاركة قطاعاتٍ من الجمهور ثقافة المقاومة والصمود في مواجهة المحتل.
تعلن الشعوب خلال حراكها أنّ غزّة ليست وحدها، حتّى وإن كان الإسناد بالتعبير الرمزي، لكنه يظلّ شاهدًا على رفض العدوان، والتطبيع بالتبعية، كما يخلخل الثقة بخطابات، ومشاريع، وأوهام المطبعين ويكشفها.
يمثّل الحراك سلوكًا سياسيًا في مجابهة العدوان، ويشير إلى التواصل مع قضية الشعب الفلسطيني، في مقابل رفض دولة الاحتلال وإدانتها، والمطالبة بعزلها.
لا ينفصل الحراك العربي عن حركة تضامنٍ عالميةٍ تتجدد وتتسع، وتحمل؛ بفضل الفرصة المعرفية، وعيًا بما يجري، وتوصيفًا وانحيازًا إنسانيًا، يؤهلها مستقبلًا لصياغة مواقف سياسيةٍ مساندة للحقّ الفلسطيني، هذا المشهد؛ أزعج دولة الاحتلال وحلفائه، كرواج رموز الهوية الفلسطينية، وهو ما قوبل في أحيان كثيرةٍ بالتضييق والتغريم، خوفًا من توسع حركة التضامن، كما قوبل في بعض الأحيان بالقمع في دولٍ عربيةٍ.
يظهر الحراك تعاطفًا غير محدودٍ، وإحساسًا بمحنة سكان القطاع، الذين يعانون من جرائم الحرب، ومن أهوالٍ لا توصف، ورغم المحنة العصيبة لم تنكسر إرادتهم، ما مثّل نموذجًا يحتذى به، ومصدرًا للفخر عربيًا، إذ يقف شعبًا يدافع عن أرضه، ويصمد أمام جيشٍ جبانٍ يقتل ويدمر، ويصادر أبسط الحقوق الإنسانية، ويقطع تواصل أهالي غزّة مع العالم وذويهم، ويمنع وصول الخبز والماء والدواء والوقود.
كما شعرت الشعوب بأنّ بسالة ومقاومة الفلسطينيين مصدرٌ للفخر والكرامة، وفرصةٌ لكتابة تاريخٍ جديدٍ يواجه غطرسة الاحتلال، ومخططات الهيمنة على المنطقة، بينها الحرب التي أضيفت إلى فصول قهر الفلسطينيين، واشعرت الشعوب العربية بالإهانة، لذا حاولت الشعوب بحراكها دفع الخزي بعيدًا، وإعلان رسائل تضامنيةٍ بما أمكن من سبلٍ في مواجهة المحرقة النازية على أرض غزّة.
يمثل الحراك رسالةً مفادها أنّ الشعوب شريكةٌ في مواجهة العدوان، سواء في ما يتعلق بالمستوى السياسي، الضغط ومطالبة الحكومات باتخاذ مواقف جادةٍ، وعدم التماهي مع المحتل، وأيضًا قطع العلاقات معه، إلى جانب حملات الإغاثة وجمع التبرعات.
تمثّل حملات المقاطعة مقاومةً اقتصاديةً، وخيارًا شعبيًا، وموقفًا سياسيًا أخلاقيًا، وتطرح أيضًا فكرة البدائل الوطنية، ضمن ثقافةٍ مقاومةٍ، ورفضًا ضمنيًا للتطبيع ومشروعاته السياسية والاقتصادية، ومن المهمّ استمرارها، للتأكيد على أن للشعوب كلمتها.
إجمالاً؛ يتضح من الحراك أن العداء للاحتلال، وجرائمه في الأراضي الفلسطينية يتسع، خاصّةً مع اعتدائه على لبنان واليمن والعراق وسورية، ضمن توسع دائرة الحرب إقليميًا.
يشير خطاب الحراك إلى أنّ المسافات بين الحكومات والشعوب متباعدةٌ، كما تعكس مطالب شعوب المنطقة وعيًا بوحدة المعركة لا يلقى استجاباتٍ رسميةً مناسبةً، بخطواتٍ ذات فاعليةٍ، فضلاً عن صمت وتواطؤ بعض الأنظمة مع المحتل، وتوظيف أخرى للحراك، أو محاولة استيعابه، ضمنها نظمٌ سلطويةٌ تتحدى الرأي العام وتقمعه، إن لم تستطع استيعابه وتوظيفه كما تريد.
أيضًا؛ كشف الحراك عن تفاوتٍ في المطالب والشعارات، يرتبط بعوامل عدّةٍ، منها البنية السياسية والثقافية، ودرجة الارتباط، وخطوط المواجهة، فضلًا عن إشكالياتٍ بينها طبيعة النظم السلطوية، وضعف بنى البيئة السياسية، التي تستحوذ فيها الحكومات على اتخاذ القرار بمعزلٍ عن الجمهور في الأغلب.
تطوير الحراك ودعم العمل المؤسسي
رغم هذه التحديات؛ هناك ضرورةٌ للحفاظ على فاعلية الدور الذي تلعبه الشعوب، واستمراره وتطويره، بتعزيز الوعي بالقضية الفلسطينية، بوصفها قضيةً عربيةً ترتبط بمصالح كلّ دول الاقليم، في مواجهة مشروعٍ استعماريٍ يهدف للهيمنة، كما تثبت دروس الحرب الحالية، ومجمل تاريخ الصراع مع دولة الاحتلال.
أخيرًا، من المهمّ استمرار حملات المقاطعة الاقتصادية والسياسية والثقافية، مع وضع رؤيةٍ استراتيجيةٍ لكيفية المواجهة الشعبية مع العدو على المدى الطويل، خاصّةً ضمن أجيالٍ من الفتية والشباب، يطرحون الأسئلة وتزيد معرفتهم حول طبيعة الصراع مع الاحتلال، ويشاركون في التظاهرات، وحملات المقاطعة ويدعمون أقرانهم في هذا المسار بشكلٍ لافتٍ ومؤثرٍ يدعو إلى التفاؤل والفخر أيضًا.
يقع على عاتق المؤسسات السياسة والنقابية، ومنظمات المجتمع المدني دورًا في تأطير الحراك واستمراره وتطويره، ودعم ثقافة المقاومة، والوعي بطبيعة المعركة واستمراراها لنصرة الشعب الفلسطيني، ليست مرتبطةً بالعدوان على غزّة فقط، هذا مع تطوير آليات العمل العربي المؤسسي، واستعادة فاعليته إقليميًا، ليكون أيضًا نقطة ارتكازٍ للنشاط على المستوى الدولي.
رغم الاختلاف في تقيم أثر الرأي العام، المتمثّل في الحراك، وأنماط التضامن المختلفة، إلّا أنّ أثره سيظلّ باقيًا، ضمن عمليةٍ نضاليةٍ طويلةٍ، من أجل الديمقراطية، والانتصار للقيم الإنسانية، وهي عملية تتراكم مكاسبها وفصولها، لتقل المسافات بين الشعوب والحكومات، وتعبر الأخيرة عن مساعٍ واتجاهاتٍ داعمةٍ للشعب الفلسطيني، مرتكزةً على حسابات التاريخ والجوار، وأيضًا المصالح ودفاع الشعوب عن نفسها في وجه المشروع الصهيوني الذي يعاديها.