الحراك الثوري السوداني بعد انقلاب 25 أكتوبر: استمرار رغم العنف والانقسامات

25 أكتوبر 2022
عادت الاحتجاجات بقوة إلى الشوارع أخيراً (فرانس برس)
+ الخط -

لم تتوقف خلال 12 شهراً من عمر الانقلاب العسكري في السودان، الاحتجاجات المناهضة له، على الرغم من العنف المفرط تجاهها، وحالة التشرذم وسط قوى الثورة.

ومنذ اللحظة الأولى لانقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، وفي موقف مبدئي، خرجت شوارع الخرطوم والمدن السودانية الأخرى رافضة لانقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وذلك قبل أن تستمع إلى خطابه الأول، على الرغم من أن الانقلاب سارع في الساعات الأولى يومئذ لقطع الاتصالات الهاتفية وخدمات الإنترنت.

ونجحت التظاهرات يومها في الوصول إلى محيط القيادة العامة للجيش وسط العاصمة، فتصدّت لها القوات الانقلابية وقتلت 7 من المتظاهرين، في حين تم إغلاق الخرطوم بالكامل بواسطة المتاريس، ما شلّ الحياة في اليوم الأول والأيام التالية. كما تم تنظيم عصيان مدني شامل شاركت فيه المؤسسات الحكومية والمؤسسات الخاصة استمر لأيام.

في 30 أكتوبر، خرجت أول مليونية منظّمة ضد الانقلاب دعت لها لجان المقاومة السودانية وقوى "إعلان الحرية والتغيير" وأحزاب أخرى رافضة للانقلاب. وحققت المليونية نجاحاً كبيراً، حتى في ظل انقطاع خدمة الإنترنت التي يعتمد عليها مناهضو الانقلاب بشكل رئيسي في تحريك الشارع، فامتلأت الشوارع في الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان، كما خرجت تظاهرات أخرى في أكثر من 20 مدينة خارج العاصمة.

بعد ذلك تواصلت المليونيات بواقع اثنتين في الأسبوع الواحد، فيما فضّل منظمو المليونيات أن تكون في الأسابيع الأولى بعيدة عن منطقة وسط الخرطوم، حيث القصر الرئاسي ومقر قيادة الجيش ومجلس الوزراء. لكن ما إن أُعلن عن مليونيات داخل المنطقة، حتى تمكنت مليونية 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي من الوصول إلى محيط القصر الرئاسي، وتسبّب غياب القيادة السياسية الميدانية في تراجعها. بينما وصلت مليونيات أخرى إلى المنطقة نفسها بعد ذلك.

عنف مفرط تجاه المتظاهرين السودانيين

قابلت السلطات الانقلابية الاحتجاجات الشعبية بعنف مفرط، وقتلت ما لا يقل عن 118 شخصاً، طبقاً لإحصاءات لجنة الأطباء السودانية المركزية، آخرهم عيسى عمر، الذي قُتل أمس الأول الأحد أثناء تظاهرة في حي الصحافة، جنوب الخرطوم. كما أصيب نتيجة التعامل العنيف خلال عام أكثر من 5 آلاف شخص، بعضهم تعرّض لإعاقات دائمة، كما اعتقل الانقلاب الآلاف طوال فترة العام.

واستخدمت السلطات في تفريقها للتظاهرات والمواكب والوقفات الاحتجاجية، وسائل عدة، منها الرصاص الحي والخرطوش والقنابل الصوتية والغاز المسيل للدموع، والدهس بواسطة السيارات العسكرية. وكان يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، هو الأكثر دموية، إذ لقي فيه 17 شخصاً مصرعهم أثناء مليونية مناهضة للانقلاب، بينما قلت وتيرة القتل في الأشهر الأخيرة على عكس الأشهر الأولى.

قتلت السلطات ما لا يقل عن 118 متظاهراً، كما أصيب أكثر من 5 آلاف

ورداً على الانتقادات بسبب جرائم القتل، فإن السلطة الانقلابية لجأت في الكثير من المرات للزعم بوجود طرف ثالث مسؤول عن حوادث القتل لأغراض سياسية، فيما اعترفت في مرات نادرة بتجاوزات من قبل عناصرها، معلنة تشكيل لجان تحقيق، لم تخرج بنتائج، وحتى اليوم لم يُقدَّم أي شخص للمحاكمة بقتل الثوار السلميين.

ومقابل 118 من المدنيين الذين لقوا حتفهم أثناء الاحتجاجات، قُتل ضابط رفيع في الشرطة هو العميد علي بريمة في 13 يناير/كانون الثاني الماضي، كما قُتل جندي بالاستخبارات العسكرية في واحد من مواكب مارس/آذار الماضي. ومن اللافت أن الأجهزة الأمنية سرعان ما تحركت في الحادثتين وألقت القبض على العديد من الثوار في قتل بريمة وقدّمت 5 منهم المتهمين للمحاكمة بقتله، كما قدّمت 8 آخرين بتهمة قتل رقيب الاستخبارات العسكرية.

عودة الحراك بعد تراجع مؤقت

بعد إبريل/نيسان الماضي، تعرّض الحراك الثوري المناهض للانقلاب لحالة من المد والجزر، ووصل إلى أدنى درجاته خلال شهري أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول الماضيين، لكنه عاد إلى حد ما خلال أكتوبر الحالي، خصوصاً أنه يصادف عدداً من المناسبات، أهمها ذكرى ثورة أكتوبر وذكرى الانقلاب نفسها.

عاد الزخم إلى الحراك الثوري في الأيام الماضية بعد حالة تراجع

يؤكد عضو لجان مقاومة الأبيض غرب السودان، عبد الله بشير، أن الحراك الثوري الآن في حالة تصاعد، وعاد إليه الزخم الثوري في الأيام الماضية بعد حالة التقهقر والتراجع التي شهدها في الأشهر القريبة الماضية. ويعزو بشير، في حديث مع "العربي الجديد"، عدم وصول الحراك الثوري إلى نهايته، لعدم وجود رؤية واحدة مشتركة بين مختلف الفاعلين في المشهد، كلجان المقاومة فيما بينها، وبينها والقوى السياسية من جهة أخرى، بالإضافة إلى غياب التنسيق والعمل والمشترك.

ويشير إلى أن الحراك مهم جداً في الفترات المقبلة، خصوصاً أن البلاد في ظل الانقلاب العسكري تشهد حالة ركود وتراجع في كافة المستويات، وسيولة أمنية، واقتتالاً قبلياً، ما يدل على فشل المكون العسكري في إدارة البلاد، لذلك يجب إسقاط انقلابه، والتأسيس لوضع دستوري جديد يفضي إلى تكوين حكومة بقيادة مدنية مؤمنة بالديمقراطية.

وحول الرفض المستمر من لجان المقاومة للحلول السياسية المطروحة، يؤكد بشير أن الرفض هو لمجمل الحلول السياسية والمبادرات التي تُبقي المشهد كما هو، وتعزز سيطرة العسكريين على الحياة السياسية، ولا تضمن التحوّل الديمقراطي الكامل، مشيراً في المقابل إلى أن "اللجان تسعى لحل يكون أولى أولوياته ترسيخ مبدأ عدم الإفلات من العقاب، وإبعاد من تسبّبوا في الانقلاب عن السلطة، والسعي الجاد لمحاسبتهم".

تعاملت القوى الأمنية بعنف مفرط مع المتظاهرين (فرانس برس)
تعاملت القوى الأمنية بعنف مفرط مع المتظاهرين (فرانس برس)

أما محمد بابكر، وهو ناشط في الحراك الثوري في الخرطوم، فيرى أن "الحراك تأثر كثيراً ولم يعد كما كان في البداية، لأسباب عدة، أولها الخلافات والانشقاقات بين تنسيقيات لجان المقاومة نتيجة الاستقطاب الحاد بين الأحزاب لكسب كوادر لجان المقاومة المستقلين، والقمع المفرط من قبل القوات الانقلابية والاعتقالات الاستباقية لقادة لجان المقاومة". ويضيف إلى ذلك "استهداف قادة فاعلين في الحراك بالقتل أو إصابتهم إصابات بالغة، ونجاح أجهزة الانقلاب في توسيع الهوة بين لجان المقاومة وتنسيقياتها من جهة، والقوى السياسية الحية من جهة أخرى".

ويضيف بابكر، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "على الرغم من كل شيء تظل أهمية الحراك الثوري كما هي بشرط تغيير تكتيكاته، لأن القوات الانقلابية اكتسبت خبرة في تشتيته وتفريق مواكبه". ويؤكد أن "لجان المقاومة لا ترفض الحلول السياسية، لكنها فقدت الثقة في مثل تلك الحلول، لأن العسكر مراوغون جداً ولديهم قدرة عالية على إفشال أي اتفاق لا يحقق مصالحهم، كما أن أي حل يتجاوز عودة العسكر للثكنات، والقصاص لدماء الشهداء سيكون مصيره الرفض".

منع الانقلاب من تحقيق أهدافه

من جهته، يرى الصحافي ماهر أبو الجوخ، أن الحراك الثوري المقاوم للانقلاب لا يزال مستمراً وقادراً على شل التطور السياسي للانقلاب، وترتب عليه تصدع في جبهة الانقلاب، لكنه يعتبر أن "من الضروري الاعتراف بأن التصدعات الداخلية لقوى الثورة المناهضة للانقلاب باتت أكثر وضوحاً مقارنة بالعام السابق".

ويشير إلى أن "هذا الأمر يظهر في تصدعات لجان المقاومة أخيراً بسبب الميثاق الثوري لسلطة الشعب الذي أدى لتفتيت لجان المقاومة بدلاً من وحدتها". ويضيف أن التباين بين "الحرية والتغيير" والحزب الشيوعي، أثّر على خطط مناهضة الانقلاب، وهو ما أدى إلى عدم الوصول للنهايات.

ويشدد أبو الجوخ، في حديث مع "العربي الجديد"، على استمرارية الحراك الثوري لأنه سيمارس ضغطاً إضافياً على الانقلاب، بينما تبقى المعضلة في إمكانية انفلات الأوضاع الأمنية في البلاد ودخولها في أتون الفوضى الكاملة بسبب ضعف الدولة المركزية غير المسبوق. ويشير إلى أن "حدوث هذا السيناريو سيجعل البلاد فعلياً أمام تطورات سيترتب عليها إضعاف البديل والخيار المدني وصعود خيارات العنف والعمل المسلح".

أبو الجوخ: في ظل توازن الضعف الراهن، الخيار الأفضل هو الوصول إلى حل سياسي يبعد سيناريو الفوضى

ويعتبر أنه "في ظل توازن الضعف الراهن، فالخيار الأفضل هو الوصول إلى حل سياسي يبعد سيناريو الفوضى، ويفتح الطريق أمام استعادة الانتقال الديمقراطي مجدداً، ويعالج آثار ونتائج انقلاب 25 أكتوبر، بإنهاء تعدد الجيوش وتحسين الاقتصاد، إلى جانب الخروج من العزلة الإقليمية والدولية، ووقف الثورة المضادة المتمثلة بعودة عناصر النظام المباد". ويلفت إلى أنّ "إنهاء وهزيمة الانقلاب هو أحد فصول المعركة مع النظام المباد، وقد تكون هذه الفرصة الأخيرة لعودته إلى السلطة مجدداً، ولذلك فمن المرجح أن يستخدم كل الخيارات المتاحة له".

ويرى أبو الجوخ أن السقف التفاوضي الذي تتحدث عنه لجان المقاومة غير قابل للتحقق، لأن الوضع الحالي هو ميزان الضعف بين الأطراف، وبالتالي فإن الناتج عنه في ظل عدم تفوّق طرف على الآخرين هو الوصول إلى نقطة وسطية وليس تحقيق تطلعات ورغبات طرف واحد. ويضيف أن قبول لجان المقاومة باتفاق سياسي يقوم على توازن الضعف، في حال حدوثه، سيكون أمراً مثيراً للمخاوف لدى أطراف غير متشددة في لجان المقاومة، وهو ما يجعل موقفها أكثر تردداً تجاه هذا المسار.

ويدعو أبو الجوخ للإقرار بإمكانية حدوث تحوّلات في مواقف بعض أطراف ومكونات لجان المقاومة إذا حدث تحرك واسع من أسر الضحايا تجاه مسألة القبول بمنح قادة الانقلاب، خصوصاً المكون العسكري، إعفاءات أو ضمانات نظير تسليمهم السلطة. ويعتبر أن هذا الموقف الإيجابي المساند لهذا الأمر عند حدوثه سيرفع الحرج عن تلك الأطراف داخل لجان المقاومة، ويجعلها أكثر مقدرة على قبول الحل السياسي باعتباره مقبولاً من كل أو السواد الأعظم من أسر الضحايا.

وحول مدى وجود فرصة عبر التسوية السياسية لمحاسبة قتلة الضحايا، يقول المحامي والناشط الحقوقي المعز حضره، لـ"العربي الجديد"، إن التسوية السياسية مختلفة تماماً عن العدالة والقصاص، لأن القصاص والعدالة لن يتحققا إلا في ظل نظام ديمقراطي مدني حقيقي يُقدّم فيه المتورطون لمحاكمات عادلة، معتبراً أنه إذا استمر الانقلاب بتسوية غير واضحة فإن ذلك سيساعد على الإفلات من العقاب.

ويشدد على عودة الحكم المدني بطريقة كاملة وقيام آليات لتحقيق العدالة الانتقالية للوصول إلى تحقيق العدالة الفعلية في جرائم عديدة ارتكبها الانقلابيون، وأولها جريمة تقويض النظام الدستوري مروراً بجرائم القتل اليومي بحق المتظاهرين السلميين.

المساهمون